ولا تقتصر أهداف السوق على التبادل التجاري، وإنما هي أيضا وسيلة لتبادل الأخبار والآراء فيما هو جار من الحوادث العامة، فهم يغتنمون الفرصة في أيام السوق للحديث في مختلف الشئون.
دخل سعيد السوق كواحد من أهل القرى المجاورة، وأخذ يتحدث معهم، فسأل عن حالة الجنود المصرية فقيل له: «إنهم دوخوا البلاد، وعما قليل يصلون إلى شندي؛ لأنهم عائدون إليها لجباية الأموال.»
وفي اليوم التالي، قيل له: «إنهم على مقربة من شندي.» وفي عصر ذلك اليوم، وصل إسماعيل باشا ورجاله إلى شندي، فنصبوا خيامهم ونزل إسماعيل في قصر معد لنزوله بالقرب من شجرة كبيرة خارج البلدة، فجاء الناس بحاجات الجيش من المأكل والمشرب، وجاء كثيرون من أهالي المتمة إلى شندي يتسلون بمشاهدة العساكر المصرية، فنزل سعيد في أحد القوارب حتى بلغ معسكر إسماعيل، وجعل ينظر يمينا وشمالا، ويتأمل وجوه ضباطه وعساكره لعله يقف لسيده على أثر، وخشي أن يشتبهوا في أمره، فجاء بطبق عليه بيض وتمر، ومضى بين الخيام مدعيا أنه أحد الباعة.
وفيما هو في ذلك سمع لغط الناس، ثم رأى الملك النمر ملك شندي من قبيلة الشائقية قد جاء برجاله لملاقاة إسماعيل باشا، وأخذ الناس يهرعون ليروا تلك المقابلة، فسار سعيد في جملة من سار، وكان إسماعيل - في لباسه العسكري، وطربوشه التونسي، وسراويل الأتراك - متكئا خارج القصر على مقعد سوداني (عنقريب) غطي ببساط عجمي، وفي يده غليون يدخن به، وحوله ضباطه ورجال معيته بين جالس وواقف.
ثم أقبل الملك النمر فإذا هو شيخ متوسط القامة، خفيف شعر اللحية، أسمر اللون، كبير العينين حادهما، عليه القفطان الحريري، وفوق كتفيه العباءة البيضاء، وعلى رأسه العمامة، وبيده الغليون، وفي خدمته عدة رجال، واحد يحمل له سلاحه من رمح وسيف وجراب، وآخر ينقل له الغليون والتبغ، وآخر غير ذلك. وحينما اقترب من معسكر إسماعيل، أعطى غليونه لخادمه وأمر رجاله أن يلبثوا بعيدين، وتقدم هو احتراما للباشا، فلما دنا منه حيا التحية المعتادة حانيا رأسه، ولمس يد الباشا وقبلها، ثم وقف منتصبا، كل ذلك وإسماعيل متكئ، والغليون في يده لا يبدي حراكا احتقارا له، وبعد مدة أشار إليه فجلس على الأرض. ثم أخذ الملك يرحب بإسماعيل ويبدي له الخضوع، فلا يزداد إلا كبرا وعجرفة، وبعد أن أتم ذلك الملك كلامه التفت إليه إسماعيل قائلا له: «اسمع يا ملك، إني جئت إليك لجباية الأموال الأميرية وجمع الرجال، فيجب عليك أن تأتيني بما يملأ قاربي هذا من الفضة، وتجمع لي ألفين من الرجال في مدة خمسة أيام.» فوقف الملك النمر مسترحما وقال: «حيا الله الباشا، من أين لنا هذا القدر من الفضة ونحن قوم مساكين فقراء؟» •••
استوى إسماعيل على متكئه، ونظر إلى وجه الملك النمر عابسا وقال: «قلت لك ذلك فلا تجادلني!» فكرر الرجل قوله: «إنه لا قبل لنا بجمع هذا المبلغ.» فقال الباشا: «حسنا، نجعله عشرين ألف ريال (نحو خمسمائة ألف قرش).» فشكا الملك من قصر المدة وقال: «إن المدة لا تكفي لجمع هذا القدر من المال وهذا العدد من الرجال.» فما كان من إسماعيل إلا أن ضربه بأنبوبة الغليون على وجهه فاستشاط الملك غيظا، لكنه أظهر الخضوع وإن أضمر الشر.
أما سعيد فلم يكن هذا المشهد ليشغله عن سيده، ولكنه لم يكن يستطيع التقدم إلى مجلس الباشا، حيث يجتمع ضباطه، ليفتش عن سيده بينهم؛ لأن العساكر كانت تمنع الناس من الاقتراب إلى حيث كان الباشا والملك، فلما رجع الملك النمر إلى المدينة كانت الشمس قد مالت إلى الغروب، فخشي سعيد ألا يسمح لأحد من أهل المدينة بالبقاء في المعسكر، فسار مع من سار إلى شندي بمعية ذلك الملك، ولم يكن أحد يعرف حقيقته مطلقا، بل كان الجميع يخاطبونه ويحدثونه كأحد أهل القرى المجاورة، وقد عزم أن يبكر في الصباح لاستطلاع أمر سيده في معسكر إسماعيل باشا.
مقتل إسماعيل
وحينما وصل الملك إلى بيته، جمع بعض رجاله، وعيناه تقدحان بالشرر من شدة الغيظ، فدخل سعيد متنكرا، ووقف الملك بينهم وخاطبهم قائلا ما معناه: يا معشر الشائقية، لقد رأيتم ما أصاب ملككم النمر في هذا اليوم من الإهانة بغير ذنب، وأنتم تعلمون أن الإهانة لا تطاق، فهل تخالفونني إذا أردت الانتقام ممن أهانني؟
فأجابه الجميع: «لا.» فسكت ثم اختلى ببعض أصدقائه وخرج بعد ذلك. فعزم سعيد أن يذهب في الصباح التالي إلى إسماعيل باشا ويحذره من النمر، وانصرف يطلب مكانا يبيت فيه تلك الليلة.
अज्ञात पृष्ठ