فلما اطلعت جميلة على ذلك سكن روعها، وأخذت تنتظر الفرج من عند الله، أما غريب فكان بعيدا عن تلك الحوادث، يقضي بعض نهاره في التعلم والبعض الآخر في ركوب الخيل، وألعاب الجريد والسيف، وسائر أنواع الفروسية مع أولاد الأمير بشير، وكان الجميع يحبونه حبا عظيما.
وبعد قليل وردت الأخبار من مصر بمقتل إسماعيل باشا ومن معه في شندي بمكيدة، وأول من سمع ذلك الخبر الأمير بشير، وكان يعرف أن أمين بك معه، فترجح عنده أنه قتل في جملة من قتل، ولكنه أحب كتمان الأمر عن جميلة خوفا عليها، ولكنه أخبر زوجته، غير أن ذلك الخبر شاع في بيت الدين بعد بضعة أيام، وبلغ جميلة، فوقعت في وهدة اليأس، وجاءت إلى الأمير، وكان قد أذن لها بمقابلته في أي وقت أرادت جبرا لقلبها المكسور، فحدثته بما سمعت، فقال لها: «اعلمي يا سلمى أن ذلك قد بلغني منذ بضعة أيام، ولا يمكننا أن نسلم بشيء قبل أن نتحقق من صحة الخبر، فها أنا ذا سأكتب إلى عزيز مصر كتاب تعزية في ولده إسماعيل، وأسأله عما يعلمه عن زوجك.»
فتنهدت سلمى وصمتت وقد اغرورقت عيناها بالدموع، ثم قالت: «الحق يا سيدي أن قلبي لم يعد يحتمل العذاب والشقاء ، فيا ليتني لم أسمع بوجوده لأني قد كنت سلوته، وقطعت الأمل من حياته، ولعل ذلك لم يكن إلا لأجل عذابي وتكفيرا لذنوبي التي اقترفتها في صباي.»
فأخذ الأمير يسكن روعها ويصبرها ثم قال: «إن الخبر الصحيح سيكون عندنا بعد أسبوعين، على الأكثر، وسأكتب اليوم إلى عزيز مصر في هذا الشأن.»
فانصرفت جميلة من حضرة الأمير، وهي لا ترجو خيرا، فرافقتها زوجة الأمير، وأخذت تسكن روعها وتمنيها بالوعود المطمئنة، ولكن قلبها لم يكن ليطمئن لشدة ما قاساه من الشقاء، وما تعوده من الانقباض.
وبعد أسبوعين ورد خطاب من محمد علي باشا ونصه بعد الديباجة:
إن التقارير التي وردت إلي كتابة وشفاها، لم تذكر شيئا عن أمين بك، وقد سألت بعض الذين كانوا في تلك المذبحة فقالوا إن الرجل كان في جملة الضباط، ولم يعد يراه أحد بعد ذلك لأن الذين نجوا من المذبحة قليلون، وقد تشتتوا، فلا يمكننا الحكم على شيء من ذلك، فمن الممكن أن يكون قد نجا في جملة الذين نجوا، أو يكون قد قتل في جملة من قتل، والله أعلم.
وصل الخطاب رأسا إلى الأمير، وبعد أن تلاه ترجح له مقتل أمين بك؛ لأنه علم من كتاب سعيد الأول أن الرجل سار إلى السودان طلبا للموت، فكيف يموت كل رفاقه وينجو هو وحده؟
وكانت سلمى تنتظر ورود خطاب من مصر بفروغ صبر، فلما مضى الأسبوعان توجهت إلى الأمير تسأله عن ذلك، فلما دخلت عليه أحب أن يخفي عنها الحقيقة فألحت عليه، فقال لها: «إن الأخبار الواردة من عزيز مصر تقول إنهم لا يعلمون شيئا عن زوجك، فقد كان مع رجال إسماعيل في شندي، ولم يعودوا يعلمون عنه شيئا، فلم تصدق جميلة ذلك، فأطلعها على الخطاب فتأوهت وبكت، ولكنها أمسكت نفسها أمام الأمير، فلما خرجت من حضرته سارت توا إلى غرفتها، فدخلت وأقفلت الباب عليها، وأخذت تندب سوء حظها وتلطم وتبكي، وكان الأمير قد أحس منذ خروجها من عنده أنها ذاهبة إلى حيث يمكنها إطلاق العنان لبكائها فخاف عليها ، فبعث إلى زوجته فحضرت، فأخبرها بالأمر، وقال لها: سيري إلى سلمى وخففي عنها وعزيها؛ لئلا تضر بها شدة الحزن.»
جاءت زوجة الأمير إلى حجرة سلمى فرأت الباب مقفلا، وسمعت صوت بكاء ونحيب من الداخل، فقرعت الباب قرعا خفيفا، ونادت سلمى فأجابتها وفتحت لها الباب، فرأتها في حالة يرثى لها من الحزن والكآبة، فأخذت تلاطفها وتعزيها قائلة: «يا أختي تذكري أنك كنت قد يئست من الاجتماع به فافرضي أنك لم تعلمي بوجوده، فضلا عن أننا لم نتأكد من الخبر، ولعله تأخر لسبب لا نعلمه، فاصبري والله مع الصابرين.»
अज्ञात पृष्ठ