إهداء
تقديم
1 - بيجي سو
2 - الماء، الماء في كل مكان
3 - سجل السفينة
4 - قرود وأشباح
5 - أنا، كنسوكي
6 - أبوناي!
7 - كل ما قاله الصمت
8 - كل من في نجاساكي مات
9 - ليلة السلاحف البحرية
10 - وصول القتلة
حاشية الرواية
معجم
إهداء
تقديم
1 - بيجي سو
2 - الماء، الماء في كل مكان
3 - سجل السفينة
4 - قرود وأشباح
5 - أنا، كنسوكي
6 - أبوناي!
7 - كل ما قاله الصمت
8 - كل من في نجاساكي مات
9 - ليلة السلاحف البحرية
10 - وصول القتلة
حاشية الرواية
معجم
مملكة كنسوكي
مملكة كنسوكي
تأليف
مايكل موربورجو
ترجمة
محمد عناني
إهداء
إلى جراهام وإيزابيلا
مع الشكر لإيزابيلا هتشنز، وتيرنس بكلر، والأستاذ سيجو تونيموتو وأسرته، لما تعطفوا به من عون في إعداد هذا الكتاب.
تقديم
على نحو ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» - وما فتئت أردد ذلك في كتبي التالية عن الترجمة - يعد المترجم مؤلفا من الناحية اللغوية، ومن ثم من الناحية الفكرية؛ فالترجمة في جوهرها إعادة صوغ لفكر مؤلف معين بألفاظ لغة أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يستوعب هذا الفكر حتى يصبح جزءا من جهاز تفكيره، وذلك في صور تتفاوت من مترجم إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلغة أخرى، وجدنا أنه يتوسل بما سميته جهاز تفكيره، فيصبح مرتبطا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويا فقط، بل هو فكري ولغوي؛ فما اللغة إلا التجسيد للفكر، وهو تجسيد محكوم بمفهوم المترجم للنص المصدر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقا لخبرة المترجم فكريا ولغويا. وهكذا فحين يبدأ المترجم كتابة نصه المترجم، فإنه يصبح ثمرة لما كتبه المؤلف الأصلي إلى جانب مفهوم المترجم الذي يكتسي لغته الخاصة؛ ومن ثم يتلون إلى حد ما بفكره الخاص، بحيث يصبح النص الجديد مزيجا من النص المصدر والكساء الفكري واللغوي للمترجم، بمعنى أن النص المترجم يفصح عن عمل كاتبين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المصدر)، والكاتب الثاني (أي المترجم).
وإذا كان المترجم يكتسب أبعاد المؤلف بوضوح في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعض تلك الأبعاد حين يترجم النصوص العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوت حظ المترجم من لغة العصر وفكره؛ فلكل عصر لغته الشائعة، ولكل مجال علمي لغته الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضا أساليب المترجم ما بين عصر وعصر، مثلما تتفاوت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية.
وليس أدل على ذلك من مقارنة أسلوب الكاتب حين يؤلف نصا أصليا، بأسلوبه حين يترجم نصا لمؤلف أجنبي؛ فالأسلوبان يتلاقيان على الورق مثلما يتلاقيان في الفكر. فلكل مؤلف، سواء كان مترجما أو أديبا، طرائق أسلوبية يعرفها القارئ حدسا، ويعرفها الدارس بالفحص والتمحيص؛ ولذلك تقترن بعض النصوص الأدبية بأسماء مترجميها مثلما تقترن بأسماء الأدباء الذين كتبوها، ولقد توسعت في عرض هذا القول في كتبي عن الترجمة والمقدمات التي كتبتها لترجماتي الأدبية. وهكذا فقد يجد الكاتب أنه يقول قولا مستمدا من ترجمة معينة، وهو يتصور أنه قول أصيل ابتدعه كاتب النص المصدر. فإذا شاع هذا القول في النصوص المكتوبة أصبح ينتمي إلى اللغة الهدف (أي لغة الترجمة) مثلما ينتمي إلى لغة الكاتب التي يبدعها ويراها قائمة في جهاز تفكيره. وكثيرا ما تتسرب بعض هذه الأقوال إلى اللغة الدارجة فتحل محل تعابير فصحى قديمة، مثل تعبير «على جثتي
over my dead body » الذي دخل إلى العامية المصرية، بحيث حل حلولا كاملا محل التعبير الكلاسيكي «الموت دونه» (الوارد في شعر أبي فراس الحمداني)؛ وذلك لأن السامع يجد فيه معنى مختلفا لا ينقله التعبير الكلاسيكي الأصلي، وقد يعدل هذا التعبير بقوله «ولو مت دونه»، لكنه يجد أن العبارة الأجنبية أفصح وأصلح! وقد ينقل المترجم تعبيرا أجنبيا ويشيعه، وبعد زمن يتغير معناه، مثل «لمن تدق الأجراس»
for whom the bell tolls ؛ فالأصل معناه أن الهلاك قريب من سامعه (It tolls for thee) ، حسبما ورد في شعر الشاعر «جون دن»، ولكننا نجد التعبير الآن في الصحف بمعنى «آن أوان الجد» (المستعار من خطبة الحجاج حين ولي العراق):
آن أوان الجد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
فانظر كيف أدت ترجمة الصورة الشعرية إلى تعبير عربي يختلف معناه، ويحل محل التعبير القديم (زيم اسم الفرس، وحطم أي شديد البأس، ووضم هي «القرمة» الخشبية التي يقطع الجزار عليها اللحم)، وأعتقد أن من يقارن ترجماتي بما كتبته من شعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
محمد عناني
القاهرة، 2021م
الفصل الأول
بيجي سو
اختفيت في الليلة السابقة لعيد ميلادي الثاني عشر، يوم 28 يوليو 1988م. ولم أكن أستطيع قبل الآن أن أروي تلك القصة العجيبة، وها أنا ذا أرويها أخيرا - القصة الحقيقية. كان كنسوكي قد جعلني أعده بألا أقول شيئا، بل لا شيء على الإطلاق، قبل مرور عشر سنوات على الأقل. ويكاد يكون ذلك آخر ما قاله لي، وما دمت وعدته، فقد اضطررت أن أعيش في أكذوبة، وتمكنت من الكتمان والحفاظ على أكذوبتي فترة ما، لكنه قد انقضى ما يزيد الآن على عشر سنوات، انتهيت فيها من الدراسة في المدرسة والجامعة، وتسنى لي الوقت اللازم للتفكير. وهكذا، فمن حق أسرتي وأصدقائي الذين خدعتهم فترة طويلة أن أخبرهم بحقيقة اختفائي الطويل، وكيف عشت حتى أتيح لي أن أعود من دنيا الأموات.
ولكن لدي سببا آخر يدفعني إلى الكلام الآن، وهو سبب أفضل من ذلك كثيرا، إذ إن كنسوكي كان رجلا عظيما، كريم الخلق، وكان صديقا لي، وأريد أن يعرفه العالم مثلما عرفته.
كانت الحياة تسير على منوالها الطبيعي حتى بلغت عامي الحادي عشر تقريبا، وحتى وصلنا الخطاب. كنا أربعة يعيشون في المنزل: والدتي، ووالدي، وأنا، وستلا أرتوا، كلبة الرعي ذات اللونين الأبيض والأسود، وكانت لها أذن تتدلى والأخرى منتصبة، وكانت دائما تعرف، فيما يبدو، ما يوشك أن يحدث قبل حدوثه، ولكن ستلا نفسها لم تكن تستطيع أن تتنبأ بقدرة ذلك الخطاب على تغيير مسار حياتنا إلى الأبد.
وأنا أتذكر الآن أن فترة طفولتي الأولى كانت منتظمة وتسير على وتيرة واحدة. فأنا أقطع الطريق كل صباح إلى المدرسة، وكان والدي يسميها «مدرسة القرود»؛ لأنه كان يقول إن الأطفال فيها يصيحون ويصرخون ويتعلقون في أوضاع مقلوبة بجهاز التسلق مثل القرود في الفناء . وكان يناديني دائما ب «القرد» عندما يريد السخرية والملاعبة، وكثيرا ما كان كذلك. وأما اسم المدرسة الحقيقي فهو مدرسة سانت جوزيف، وكنت سعيدا فيها، أو في أغلب الأحيان على أية حال. فبعد انتهاء الدراسة كل يوم، ومهما تكن حالة الجو، كنت أنطلق إلى الملعب لألعب كرة القدم مع إدي دودز، أفضل صديق لي في الدنيا، ومع مط وبوبي والآخرين. كانت أرض الملعب يكسوها الطين، فإذا حاولت تمرير الكرة وقفت والتصقت بالوحل. كان لدينا فريقنا، الذي أسميناه «مدلاركس»، ومعناه اللاعبون في الطين، وكنا فريقا قديرا. وكانت الفرق الزائرة تتوقع - لسبب ما - أن ترتد الكرة حين تصطدم بالأرض، وإلى أن تدرك أنها لن ترتد، نكون نحن قد تفوقنا عليهم بهدفين أو ثلاثة أهداف في حالات كثيرة. أما إذا لعبنا مباريات خارج ملعبنا فلم نكن بنفس المهارة.
وفي عطلة نهاية الأسبوع كنت أقوم بتوزيع الصحف على المنازل، لحساب المستر باتل، صاحب الدكان على ناصية شارعنا، وكنت أدخر أجري لشراء دراجة تسلق، أي إنني كنت أريد أن أركب الدراجة في الطرق الصاعدة في المروج من حولنا مع إدي، ولكن المشكلة هي أنني كنت دائما أنفق ما ادخرته، وما زلت كذلك.
أما أيام الأحد، فكانت دائما مناسبات خاصة، حسبما أذكر، إذ كنا نبحر جميعا في زورق شراعي صغير في مياه الخزان، وكانت ستلا أرتوا تنبح نباحا شديدا للزوارق الأخرى كأنما لم يكن من حقها الإبحار أيضا. وكان أبي يحب ذلك، كما يقول؛ لصفاء الجو ونقاء الهواء وخلائه من تراب الطوب، فقد كان يعمل آنذاك في مصنع الطوب القريب. وكان يتمتع بمهارات يدوية عالية ومولعا بالعمل اليدوي، وكان يستطيع إصلاح أي شيء، حتى لو لم يكن بحاجة إلى الإصلاح، وهكذا كان يشعر في الزورق أنه في مكانه الطبيعي. وكانت والدتي تعمل نصف الوقت في المكتب بمصنع الطوب نفسه، وكانت تستمتع كثيرا برحلة الزورق. وأذكر أنني شاهدتها ذات يوم جالسة عند ذراع الدفة، وقد مدت رأسها إلى الخلف أمام الريح وأخذت نفسا عميقا ثم هتفت «هذا هو الصواب! هذا هو ما ينبغي أن تكون الحياة عليه! رائعة! رائعة فعلا.» كانت دائما ترتدي القبعة الزرقاء. كانت ربان السفينة الذي لا خلاف عليه؛ فإذا كان النسيم يهب من أية جهة، وجدت هذه الجهة وحاولت استغلال النسيم. كانت تتمتع باستعداد فطري لذلك.
كم قضينا من أيام سعيدة على سطح الماء! كنا نخرج والجو عاصف، عندما يحجم الآخرون عن الخروج، وننطلق متواثبين فوق الأمواج، مستمتعين بسرعة الزورق، ولذة الانطلاق الخالصة. وحتى عند سكون الهواء، لم نكن نكترث لذلك. وأحيانا كنا الزورق الوحيد فوق مياه الخزان، وعندها نجلس وحسب ونشرع في صيد الأسماك، وأقول بالمناسبة إنني كنت أبرع من أمي وأبي في الصيد، وكانت ستلا أرتوا تقبع خلفنا في الزورق، وقد بدا عليها الملل من ذلك كله؛ لأنها لا تجد شيئا تنبحه.
ثم وصل الخطاب. التقطته ستلا أرتوا من فتحة الخطابات في الباب وكادت تمزقه، فقد كانت به ثقوب من أنيابها، وكان مبتلا، لكننا استطعنا قراءته. كان الخطاب يقول إن مصنع الطوب سوف يغلق، وإن أبي وأمي فقدا وظيفتيهما.
كان الصمت الرهيب يسود مائدة الإفطار في ذلك الصباح. وبعدها توقفنا تماما عن الإبحار في أيام الأحد. ولم يكن لدي ما يدعوني إلى السؤال عن السبب. وحاول والدي ووالدتي الحصول على وظائف أخرى، لكنه لم تكن هناك أية وظائف خالية.
وساد المنزل إحساس بالكآبة والبؤس. كنت أحيانا أعود إلى المنزل فأجدهما يلتزمان الصمت. كانا يتجادلان كثيرا، وحول أشياء صغيرة تافهة، ولم يكن هذا عهدهما من قبل على الإطلاق. وتوقف والدي عن إصلاح الأشياء في المنزل. بل ونادرا ما كان يمكث في المنزل على أية حال، فإذا لم يكن يبحث عن عمل، فهو في المشرب القريب. وكان عندما يعود إلى المنزل يجلس صامتا وهو يتصفح أعدادا لا تنتهي من مجلات الإبحار في اليخوت الشراعية.
كنت أحاول قدر طاقتي ألا أمكث في المنزل وأن ألعب كرة القدم، ولكن إدي كان قد انتقل من مسكنه لأن أباه وجد عملا آخر في مكان ما في الجنوب. ولم يكن لكرة القدم مذاقها المميز دون وجوده. وانفرط عقد فريق «مدلاركس» بل انفرط عقد كل شيء من حولنا.
ثم عدت ذات يوم من أيام السبت بعد جولة توزيع الصحف لأجد والدتي جالسة في أسفل السلم وهي تبكي. كانت دائما قوية صلبة، ولم أشاهدها من قبل في هذه الحال قط.
قالت: «مغفل! أبوك مغفل يا مايكل! هل تسمع؟»
وسألتها: «ماذا فعل؟»
وقالت لي: «لقد ذهب!» وتصورت أنها تعني أنه ذهب بلا رجعة، لكنها قالت: «لم يشأ أن يصغى لصوت العقل، لا! بل يقول إنه خطرت له فكرة. لم يخبرني بها، لكنه يقول فقط إنه باع السيارة، وإننا سوف ننتقل إلى الجنوب، وإنه سوف يجد لنا مسكنا.» وتنفست الصعداء، بل شعرت بالسرور في الواقع، فلا بد أن الإقامة في الجنوب ستجعلني أقرب من إدي. وأردفت قائلة: «إذا كان يظن أنني سوف أترك هذا المنزل، فلا بد أن يستعد لمفاجأة! وأؤكد لك!»
وقلت لها: «ولماذا لا نتركه؟ ليس لدينا الكثير هنا.»
فقالت: «بل لدينا! لدينا البيت أولا، ثم جدتك، ثم المدرسة.»
وقلت لها: «توجد مدارس أخرى»، وإذا بها تحتدم غضبا، بل زاد غضبها عما عهدته فيها في أي يوم من الأيام.
وقالت: «تريد أن تعرف القشة التي قصمت ظهر البعير؟ إنها أنت يا مايكل! أعني قيامك بجولة توزيع الصحف هذا الصباح. هل تعرف ما قاله والدك عندها؟ هل تريد أن تعرف؟ سأخبرك! قال لي والدك: «هل تدركين أن هذا هو الأجر الضئيل الوحيد الذي يدخل هذا المنزل، أقصد ما يكسبه مايكل من توزيع الصحف! ماذا تظنين إحساسي إزاء ذلك؟ ابني في الحادية عشرة، وهو يعمل وأنا دون عمل».»
وحاولت تهدئة نفسها برهة قصيرة قبل أن تواصل حديثها، وقد اغرورقت عيناها بالدموع قائلة: «لن أنتقل من هنا يا مايكل. فلقد ولدت هنا. لن أذهب مهما يقل، لن أترك هذا المكان.»
كنت في المنزل حين جاءت المكالمة التليفونية بعد نحو أسبوع. كنت أعرف أن أبي هو المتحدث. لم تقل أمي إلا أقل القليل، ولذلك لم أستطع فهم ما يجري، وذلك حتى دعتني إلى الجلوس فيما بعد وأخبرتني.
قالت أمي: «يدل صوته على أنه قد تغير يا مايكل. أعني أنه عاد إلى طبيعته، بل إلى طبيعته الأولى في الأيام التي تعرفت إليه فيها أول الأمر. قال إنه وجد لنا مكانا نقيم فيه. وأضاف قائلا: «ما عليكما سوى إعداد حقائبكما والمجيء.» اسم المنطقة فيرهام. وهي قريبة من ميناء ساوثامتون. وقال: «إنها تطل مباشرة على البحر.» لقد أحسست اختلافا كبيرا فيه، وأؤكد لك ذلك.»
والواقع أن والدي بدا رجلا مختلفا. كان ينتظرنا عندما هبطنا من القطار، وعيناه تبرقان من جديد ويجلجل بالضحكات. ساعدنا في حمل الحقائب وقال: «المكان قريب» وهو يعبث بشعر رأسي. وأضاف: «انتظر حتى تراه أيها القرد! لقد رتبت كل شيء، كل شيء! ولن يجدي أن يحاول أحدكما إثنائي عن عزمي. فأنا مصمم عليه.»
وسألته: «مصمم على ماذا؟»
فقال: «سوف ترى.»
وكانت الكلبة ستلا أرتوا تتواثب في الطريق أمامنا، وقد رفعت ذيلها وبدت عليها السعادة. وأعتقد أننا جميعا كنا سعداء.
لكننا في النهاية ركبنا حافلة بسبب ثقل الحقائب الشديد، وعندما غادرنا الحافلة وجدنا أنفسنا على شاطئ البحر مباشرة. ونظرت فلم أجد أي منازل من حولنا، لا شيء سوى مرسى لليخوت والسفن الصغيرة.
وسألته والدتي: «ماذا نفعل هنا؟»
وأجاب قائلا: «يوجد من أريد أن تقابلاه، من أصدقائي المقربين، واسمها بيجي سو، وهي تتطلع إلى لقائكما، وقلت لها كل شيء عنكما.»
ونظرت والدتي إلي مقطبة الجبين في حيرة، لكنني لم أكن أعرف أكثر مما تعرفه. ولم أكن متأكدا إلا من أنه يتعمد الغموض والإلغاز.
وسرنا ونحن ننوء بحمل الحقائب في الطريق، وطيور النورس تصيح فوق رءوسنا، وأشرعة اليخوت الراسية المطوية تصفق حولنا، والكلبة ستلا تثرثر عما يجري، حتى وقفنا أخيرا أمام مطلع خشبي يؤدي إلى يخت لونه أزرق أدكن براق. ووضع أبي الحقائب على الأرض والتفت إلينا وهو يبتسم ابتسامة عريضة.
وقال: «ها هي ذي! فلنبدأ التعارف. هذه هي بيجي سو، منزلنا الجديد. ما رأيكما؟»
وبدا أن والدتي متماسكة رغم كل شيء، فلم تصرخ في وجهه، بل لزمت الصمت التام، وظلت صامتة طيلة استغراقه في الشرح ونحن نحتسي الشاي في مطبخ السفينة السفلي. قال والدي: «لم تكن هذه فكرة خطرت لي فجأة، بل لقد فكرت في الأمر طويلا، على مدى السنوات التي عملت فيها في المصنع. نعم! ربما كنت أحلم بذلك وحسب في تلك الأيام. والأمر غريب عندما أتأمله، فلولا أنني فقدت وظيفتي ما جرؤت قط على فعل ذلك» وتوقف والدي، إذ أدرك أنه لم يشرح شيئا ثم عاد يقول: «لا بأس، إذن! سأقول لكما ما فكرت فيه. ما أحب عمل إلى قلوبنا؟ الإبحار؟ صحيح؟ وهكذا قلت في نفسي ألن يكون رائعا أن ننطلق وحسب فنبحر حول العالم؟ لقد فعلها غيرنا. ويسمى ذلك الإبحار في المياه الزرقاء. وقرأت عنه في المجلات.» «كانت الفكرة حلما وحسب في البداية، كما ذكرت. ثم أتى فقدان العمل وفقدان الفرصة في الحصول على عمل. ماذا يقول المرء في هذه الحالة؟ اركب الدراجة. إذن لم لا نركب سفينة؟ لقد حصلنا على نقود التعويض عن الفصل من العمل، مهما تكن قليلة. ولدينا بعض المدخرات، وثمن بيع السيارة. ليست ثروة كبيرة ولكنها تكفي. ماذا نفعل بها؟ لي أن أضعها في البنك كلها، مثلما فعل الآخرون. ولكن لماذا؟ حتى أشهدها تتناقص يوما بعد يوم حتى تنفد؟ قلت في نفسي ربما استطعت أن أفعل شيئا جميلا حقا بها، شيئا لا يحدث إلا مرة واحدة في العمر، إذ لنا أن نبحر حول العالم. أفريقيا وأمريكا الجنوبية وأستراليا والمحيط الهادئ. لنا أن نشاهد أماكن لم نعرفها إلا في الأحلام.»
وجلسنا صامتين من الصدمة، وعاد والدي يقول: «أعرف ما يجول بخاطركما. أنتما تقولان إننا لم نعرف من قبل إلا الإبحار في مياه الخزان، في الزورق الصغير. وتقولان إنني مجنون، فقدت عقلي، وتقولان إنه أمر خطر، وتقولان إنني سوف أفلس تماما بعدها، ولكنني فكرت ودبرت كل شيء، بل حتى فكرت في أمر جدتك يا مايكل - مثلا. فنحن لن نختفي إلى الأبد. وسوف تكون في انتظارنا عندما نعود. فهي في أتم صحة وعافية.» «ولدينا النقود الكافية. لقد حسبت حساباتي: سوف نقضي ستة أشهر في التدريب، ثم نقطع الرحلة في عام أو في ثمانية عشر شهرا، وفق ما تكفي النقود. وسوف نحرص على السلامة في الرحلة، ونقوم بها على الوجه الصحيح. وسوف تحصلين يا «ماما» على شهادة قيادة اليخت. آه! ألم أذكر لكما ذلك؟ لا لم أذكره من قبل: سوف تكونين ربان السفينة يا «ماما»! وسوف أكون ضابط السفينة الأول والقائم بالأعمال اليدوية. وأنت يا مايكل سوف تكون غلام السفينة. وأما ستلا؛ الواقع أن ستلا يمكن أن تلعب دور «قطة السفينة»!» كان والدي مفعما بالحماس، يلهث من فرط الانفعال. «سوف نتقن التدريب، ونقوم بعدة رحلات عبر القنال الإنجليزي إلى فرنسا، وربما أيضا إلى إيرلندا. وسوف نعرف كل صغيرة وكبيرة عن هذه السفينة كأنها فرد من أفراد الأسرة. طولها أربعة عشر مترا، وأماكن المجاديف محكمة الصنع والتصميم، بل أفضل ما يمكن العثور عليه وأكثرها أمانا. لقد درست الأمر جيدا. ستة أشهر من التدريب ثم نقوم برحلة حول العالم. ستكون مغامرة العمر. فرصتنا الوحيدة. لن تتاح لنا فرصة أخرى. ماذا تقولان إذن؟»
وقلت في حماس: «مم .. تاز»، وكان ذلك حقا رأيي.
وسألته والدتي: «تقول إنني سأصبح قائد السفينة؟» وقال والدي وهو يضحك ويحييها تحية البحارة: «نعم، نعم أيها الربان!»
فعادت تقول: «وماذا نفعل في مدرسة مايكل؟»
وقال والدي: «فكرت في هذا أيضا. سألت في المدرسة المحلية هنا. لقد رتبنا كل شيء. سوف نصحب جميع الكتب التي يحتاجها. وسوف أتولى تعليمه. وكذلك أنت. وسوف يعلم نفسه. ودعيني أؤكد لك بالمناسبة أنه سوف يتعلم في عامين بالبحر أكثر مما يمكنه أن يتعلم على الإطلاق في مدرسة القرود التي يذهب إليها. هذا وعد مني.»
ورشفت والدتي رشفة من فنجان الشاي وأومأت برأسها ببطء. ثم قالت: «لا بأس.» ولاحظت أنها تبتسم، ثم أضافت: «ولم لا؟ عليك بها إذن. اشترها! اشتر السفينة.»
وقال والدي: «لقد اشتريتها بالفعل.»
لا شك أنه كان جنونا. كانا يعرفان ذلك، بل كنت أعرفه أنا، ولكن ذلك لم يكن مهما. وحين أتذكر ما حدث آنذاك أقول إنه كان، ولا بد، لونا من الإلهام الذي دفعه إليه اليأس.
كان الجميع يحذروننا من ذلك. وجاءت جدتي لزيارتنا وقضت معنا فترة في السفينة. وقالت إن الأمر يدعو للسخرية، ويدل على التهور وانعدام الإحساس بالمسئولية. كانت تتحدث عن البلايا والمحن التي تنتظرنا: جبال الجليد الطافية، والأعاصير، والقراصنة، والحيتان، وناقلات النفط العملاقة، والأمواج العاتية، وتنتقل من أهوال إلى أهوال، حتى تخيفني وبذلك تخيف أمي وأبي حتى يتخليا عن الفكرة. ولا شك أنها نجحت في تخويفي، لكنني لم أظهر خوفي قط. لم تفهم جدتي أننا نحن الثلاثة أصبحنا نرتبط برباط واحد من الجنون. لقد صممنا على الرحيل ولن يفلح شيء أو شخص في إثنائنا عن عزمنا. كنا نفعل ما يفعله الناس في القصص الخيالية: كنا نريد الانطلاق سعيا وراء المغامرة.
سارت الأمور في البداية وفق التخطيط الذي وضعه والدي، فيما عدا أن التدريب استغرق وقتا أطول بكثير، فسرعان ما عرفنا أن الإبحار في سفينة أو يخت طوله أربعة عشر مترا ليس مجرد إبحار في زورق أكبر. كان القائم بتعليمنا بحارا عجوزا ذا شارب كث يعمل في «نادي اليخت»، واسمه بيل باركر (وكنا نسميه بارناكل بيل، من وراء ظهره، وتعني بيل «اللزقة»). وكان قد أبحر مرتين حول كيب هورن، في أقصى جنوب أمريكا الجنوبية، وعبر المحيط الأطلسي مرتين وحده، وعبر القنال الإنجليزي «مرات يزيد عددها على عدد الوجبات الساخنة التي تناولتها في حياتك يا بني.»
والحق، أن أيا منا لم يكن يحبه كثيرا. كان صاحب عمل لا يرحم. وكان يعاملني ويعامل ستلا أرتوا بنفس القدر من الاحتقار، إذ كان يرى أن الأطفال والكلاب مجرد مصدر للمضايقة، وإذا وجد أي منهما على ظهر سفينة أصبح عبئا على البحارة. ولذلك تحاشيت اللقاء به قدر طاقتي، وكذلك كانت ستلا أرتوا تتحاشاه.
ويقتضي الإنصاف أن أقول إن بارناكل بيل كان يجيد صنعته. وعندما انتهى من تعليمنا، وحصلت والدتي على شهادتها ، شعرنا أننا نستطيع الإبحار في بيجي سو إلى أي مكان في العالم. كان قد غرس فينا احترام البحر وخشيته، وهو شعور صحي، ولكننا كنا نشعر في نفس الوقت بالثقة في قدرتنا على «التعامل» مع أي شيء تقريبا يأتي به البحر.
ومع ذلك، فلقد مررت بلحظات أحسست فيها برعب يجمد الأطراف. وكان والدي يشاطرني الإحساس بالرعب في صمت. وتعلمت أنك لا تستطيع التظاهر بالاطمئنان حين تدهمك موجة خضراء عالية طولها سبعة أمتار، وكنا نهبط في منخفضات مائية بلغ من عمقها أن أحسسنا أنه من المحال الخروج منها. لكننا كنا نخرج منها، وكلما نجحنا في التغلب على خوفنا، وركوب الأمواج العالية، ازدادت ثقتنا بأنفسنا وبالسفينة من حولنا.
وأما والدتي فلم تبد قط أدق ذرة من ذرات الخوف. والفضل يرجع لها وللسفينة بيجي سو معا في تغلبنا على أسوأ ما مر بنا من لحظات. كانت تصاب بدوار البحر من حين لآخر، لكننا لم نصب به قط. وكانت هذه مزية لنا.
كنا نعيش بالقرب من بعضنا البعض، ملتصقين تقريبا، وسرعان ما اكتشفت أن الآباء أكثر من مجرد آباء، إذ أصبح والدي صديقا لي، بل ملاحا زميلا لي، وغدا كلمنا يعتمد على صاحبه. وأما والدتي فالحق - وأنا أعترف به - أنني لم أكن أعرف أنها تتمتع بهذه المقدرة. كنت أعرف دائما أنها شجاعة، وأنها كانت دائما تصر على المحاولة حتى تنجح في فعل ما تريد، ولكنها واصلت الليل بالنهار في دراسة كتبها وخرائطها حتى أتقنت كل شيء، ولم تتوقف لحظة واحدة. صحيح أنها كانت تتسم ببعض الاستبداد إذ ما تهاونا في الحفاظ على السفينة بأكمل صورة ممكنة، ولكنني لم آبه كثيرا لذلك، ولم يأبه والدي هو الآخر، وإن كنا تظاهرنا بعكس ذلك. كانت هي ربان السفينة. وكانت الخطة أن تطوف بنا حول العالم وتعيدنا. كانت ثقتنا مطلقة فيها، وكنا فخورين بها. كانت باختصار نابغة. ولا بد أن أقول أيضا إن غلام السفينة وضابطها الأول كانا من النوابغ أيضا في تشغيل الروافع، وإدارة الدفة، وكانا ماهرين في إعداد الفاصوليا المعلبة في مطبخ السفينة، وهكذا كنا فريقا متكاملا رائعا.
وفي يوم 10 سبتمبر 1987م - وأنا أعرف التاريخ لأنني أضع سجل السفينة أمامي أثناء الكتابة - وبعد أن حشدنا في كل ركن وزاوية بالسفينة ما نحتاج إليه من مئونة ومن زاد، أصبحنا أخيرا على استعداد للإقلاع حتى نبدأ مغامرتنا الكبرى، ملحمة الأوديسية العظمى لنا.
كانت جدتي حاضرة لوداعنا وقد اغرورقت عيناها بالدموع، وكانت في النهاية قد وافقت على قيامنا بالرحلة، بل قالت إنها تريد أن تصحبنا لزيارة أستراليا - إذ كانت دائما تتوق إلى مشاهدة دببة الكوالا الصغيرة على الطبيعة. وكان في وداعنا حشد كبير من أصدقائنا أيضا، ومن بينهم بارناكل بيل. وجاء صديقي الصغير إدي دودز مع والده. وألقى إلي بكرة قدم أثناء رفع المرساة. وصاح عاليا «إنها تميمة السعد!» وعندما فحصتها فيما بعد وجدت أنه غمرها بتوقيعاته مثل نجوم كأس العالم لكرة القدم.
وودعتهم الكلبة ستلا أرتوا بنباحها، كما ودعت جميع القوارب الراسية أثناء مرورنا بمضيق سولينت الذي يفصل جزيرة وايت عن أرض إنجلترا، ولكننا أثناء عبورنا تلك الجزيرة سكتت فجأة عن النباح، ربما أدركت، مثلما أدركنا، أنه لا عودة إلى الوراء الآن، لم يكن ذلك حلما، بل لقد بدأنا الإبحار حول العالم. كان ما يحدث حقيقيا، وحقيقيا حقا.
الفصل الثاني
الماء، الماء في كل مكان
يقولون إن الماء يغطي ثلثي سطح الأرض، والواقع أن الأمر يبدو كذلك عندما تكون في البحر، بل وهو ما تشعر به أيضا. ماء البحر، وماء المطر؛ كله بلل في بلل! كنت معظم الوقت مبتلا بللا كاملا. كنت أرتدي الملابس اللازمة، إذ كان الربان دائما يستوثق من ذلك، ولكن البلل كان يتسرب إلى جسمي بصورة ما.
وفي أسفل السفينة كان كل شيء مبتلا، حتى الأكياس المبطنة المعدة للنوم، ولم نكن نستطيع تجفيف أي شيء إلا عندما تسطع الشمس ويتوقف صدر البحر عن الصعود والهبوط! وعندها نأتي بكل شيء إلى ظهر السفينة، وإذا بسفينتنا بيجي سو وقد ارتدت الملابس كلها، وامتلأ حبل الغسيل من آخر السفينة إلى مقدمها. وكانت العودة إلى الجفاف بعد البلل متعة حقيقية، لكننا نعرف أنها لن تستمر طويلا.
قد تظن أنه لم يكن لدينا عمل كثير يشغلنا نحن الثلاثة في السفينة، يوما بعد يوم، وأسبوعا بعد أسبوع. ولكن ذلك خطأ مؤكد، فلم تكن تمر علينا لحظة هدوء طيلة النهار، وكان لدي دائما ما يشغلني: طي الشراع، وإنزاله بالرافعة، وإرخاء الحبال، وقيامي بنوبتي عند عجلة القيادة، وهو ما كنت مولعا به، أو مساعدة والدي في أعمال الإصلاح والترقيع التي لا تنتهي، فكان كثيرا ما يحتاج إلى مساعد له حتى يقبض على الخشبة مثلا أثناء الحفر أو دق المسامير أو إدخال البراغي أو النشر، وكنت دائما أقوم بالمسح والتنظيف، أو بإعداد الشاي، أو غسيل الأطباق، أو أعمال التجفيف. ولن أكون صادقا إن قلت إنني كنت أحب ذلك كله، ولكن العمل الدائب لم يدع للملل لحظة واحدة!
لم يكن مسموحا بالبطالة إلا لعضو واحد من أعضاء طاقم السفينة - ستلا أرتوا - وكانت دائما دون عمل. ولما لم تكن تجد ما يستحق النباح في صفحة البحر العريض، كانت تقضي الأيام العاصفة متكورة على نفسها في سريري في غرفتي أسفل السفينة. لكنه عندما يصفو الجو وتشرق الشمس كانت عادة ما تقوم بالمراقبة في مقدمة السفينة، منتبهة لأي شيء؛ أي شيء آخر سوى البحر. والمؤكد أنه إذا بدا أي شيء فلا بد لها أن تلمحه بسرعة: مجموعة من خنازير البحر مثلا، تغطس في الأمواج وتخرج منها، أو أسرة من الدلافين التي تسبح بجوار بعضها البعض، وقد اقتربت من السفينة إلى الحد الذي يوحي بأنك تستطيع مد يدك ولمسها! وحيتان، وأسماك القرش، بل والسلاحف البحرية؛ رأيناها جميعا. وكانت والدتي تلتقط صورها بالفيديو والكاميرا العادية، وكنت ووالدتي نتشاجر حتى نستخدم المنظار المقرب. ولكن ستلا أرتوا كانت في جوها الطبيعي، وعاد لها طبع كلبة الرعي، فأخذت تصدر أوامرها بالنباح على كائنات البحر، حتى تجمعها في قطيع واحد من أعماق البحر.
وعلى الرغم مما كانت تسببه لنا من ضيق - إذ كانت تشيع رائحة بللها في كل مكان - فإننا لم نندم يوما على اصطحابها معنا في هذه الرحلة، فقد كانت مصدر تسرية وسلوى لنا. فعندما كان البحر يضطرب بنا ويخضخضنا، وتشعر والدتي بدوار البحر حتى يكاد يغشى عليها، كانت تهبط إلى أسفل السفينة وتجلس ممتقعة اللون شاحبة، وعلى حجرها ستلا تلاطفها وتتلقى ملاطفتها. وعندما كنت أشعر بالرعب من الأمواج العالية كالجبال وصرخات الريح الداوية، كنت أتكور مع ستلا في مرقدي بالسفينة، وأدفن رأسي في عنقها وأحتضنها بشدة. وفي مثل تلك الأوقات - ولا أظن أنها كانت كثيرة، لكنني أذكرها بدقة شديدة وحسب - كنت دائما أضع كرة إدي بالقرب مني أيضا.
أصبحت كرة القدم بمثابة تعويذة أو تميمة تجلب الحظ، وبدا لي أنها تجلبه فعلا، فالواقع أن كل عاصفة كانت تهدأ في النهاية، وكنا لا نزال بعدها أحياء، سالمين، ونطفو فوق صفحة الماء.
كنت أتمنى أن ينسى والدي ووالدتي مسألة الواجبات الدراسية، وكان يبدو في البداية أنهما نسيا الموضوع كله، لكننا ما إن تغلبنا على عدة عواصف، وما إن استقر بنا الحال وانطلقنا في طريق رحلتنا، حتى أجلساني وأخبراني الخبر المزعج، وهو أنني شئت أم أبيت، لا بد أن أواصل دراستي، ولم تكن والدتي تقبل المناقشة في هذا الأمر.
كنت أدرك أن استنجادي بوالدي لن يأتي بنتيجة. فلم يفعل سوى أن هز كتفيه قائلا: «ماما هي الربان»، وبهذا انتهى الموضوع. عندما كنا في المنزل كانت أمي هي أمي وحسب وكنت أستطيع أن أجادلها، وكان ذلك على الأقل من المزايا التي حرمت منها على ظهر السفينة بيجي سو حيث لا مناقشة ولا جدال.
كانت تلك مؤامرة، إذ اشترك أبي وأمي في وضع برنامج كامل للعمل. كان علي أن أستذكر كتب الرياضيات، وقال أبي إنه سوف يساعدني إذا صادفتني عقبة. وأما منهج الجغرافيا والتاريخ، فكان يقضي بأن أكتشف وأسجل كل ما يخص كل بلد نزوره أثناء طوافنا بالعالم، وكان منهج دراسات البيئة ومنهج الرسم يفرضان علي أن أسجل وأرسم صورا لجميع الطيور التي نراها، وجميع المخلوقات والنباتات التي نصادفها .
وحرصت والدتي أيضا على تعليمي الملاحة البحرية أيضا، قائلة: «لقد علمني بارناكل بيل، وسوف أتولى تعليمك. أعرف أنها ليست من المقررات الدراسية ولكن لم لا؟ ومن يدري؟ ربما عادت عليك بالفائدة.» وهكذا علمتني كيف أستخدم السدسية، وهي آلة المساحة الملاحية، وكيف أسجل قراءات البوصلة، وأحدد مسار السفينة على الخريطة. وكان من واجبي تسجيل خطوط الطول والعرض في سجل السفينة كل صباح، وكل مساء، وبانتظام دائم.
لا أظن أنني كنت انتبهت حقا لوجود النجوم من قبل. وأما الآن فكنت كلما أتولى نوبة المراقبة في غرفة القيادة ليلا، بعد تشغيل جهاز التوجيه الذاتي للسفينة بيجي سو بدوارة الريح، والآخرون نائمون في أسفل السفينة، لم يكن لي رفيق سوى النجوم. وكنت أثناء تحديقي فيها أشعر أحيانا أننا آخر الأحياء في كوكب الأرض كله، لم يكن هناك سوانا، والبحر المظلم من حولنا وملايين النجوم من فوقنا.
وكانت نوبة المراقبة الليلية هي الوقت الذي كثيرا ما استذكرت فيه دروس اللغة، وكانت تتخذ صورة وضع ملاحظاتي الخاصة في سجل السفينة. لم يكن مفروضا علي أن أعرضها على والدي، لكنهما كانا يشجعانني على الكتابة في السجل مرة كل عدة أسابيع، وقالا إنها سوف تمثل سجلي الخاص والشخصي لرحلتنا.
لم أكن أجيد الكتابة إجادة كبيرة في المدرسة، فلم أكن أستطيع قط أن أجد الأفكار اللازمة للكتابة أو أن أعرف كيف أبدأ، وأما على متن بيجي سو فقد اكتشفت أنني أستطيع أن أفتح السجل وأكتب بيسر، كانت لدي دائما أفكار كثيرة أريد التعبير عنها. وهذا لب الموضوع. إذ اكتشفت أنني لم أكن أكتبها على الإطلاق بل أقولها وحسب. كنت أنطق بها كما تخطر ببالي، وتنطلق في ذراعي حتى تصل إلى أصابعي وقلمي فتتخذ شكلها على الصفحة، وهذه هي الصورة التي تبدو لي فيها الآن بعد مرور كل هذه السنوات، أي صورة الكلام الذي تفوهت به.
إنني أنظر الآن إلى السجل الخاص بي. لقد تجعدت أوراقه قليلا واصفر لون الصفحات بمضي الزمن، وخطي الرديء شحب لونه قليلا لكنني أستطيع قراءته بسهولة في معظم الأحيان، والملاحظات المسجلة قصيرة، ولكنها تقص القصة كاملة، وفيما يلي أروي كيف سجلت أحداث رحلتنا العظيمة، وكيف بدت لعين غلام في الحادية عشرة، ونحن نركب متن المحيطات الشاسعة في هذا العالم على ظهر السفينة بيجي سو.
الفصل الثالث
سجل السفينة
20 سبتمبر
الساعة الآن الخامسة صباحا. وأنا أقوم بنوبة المراقبة في غرفة القيادة، والجميع نائمون. تركنا ساوثامتون منذ عشرة أيام، وكان القنال الإنجليزي مليئا بناقلات النفط. كانت عشرات الناقلات تغدو وتروح. وهكذا كان أبي وأمي يتبادلان المراقبة في الليلتين الأوليين، ولم يسمحا لي بذلك. لا أدري لم لا، لم يكن في الجو أي ضباب، وقدرتي على الرؤية لا تقل عن قدرتهما.
كنا نعتزم أن نقطع مسافة 320 كيلو مترا في اليوم، أي أن نسير بسرعة ثماني عقد، ولكننا لم نستطع تجاوز 80 كيلو مترا يوميا في الأسبوع الأول.
كان بارناكل بيل قد حذرنا من خليج بسكاي، ما بين فرنسا وإسبانيا، وهكذا توقعنا سوء الأحوال الجوية فيه، وصدقت توقعاتنا. كانت قوة الريح فيه تصل إلى 9 وأحيانا إلى 10 عقد، وكانت الريح تتقاذفنا هنا وهناك. وظننت أننا سوف نغرق. بل كنت أعتقد ذلك حقا، وذات يوم عندما حملتنا موجة عالية رأيت مقدم السفينة بيجي سو يشير إلى أعلى، نحو القمر، فكأنما كانت سوف تنطلق إليه، وإذا بنا ننحدر إلى الجانب الآخر بسرعة خارقة حتى تصورت أننا سنغوص إلى القاع. كان الموقف سيئا. أقصد أنه كان رهيبا، رهيبا حقا. ولكن بيجي سو لم تتفتت، ونجحنا في الوصول إلى إسبانيا.
أحيانا يضيق صدر والدتي فتبهرنا عندما نرتكب خطأ ما، ولا يبدو أن والدي كان يغضب من ذلك، أقصد هنا - في البحر - بل يكتفي بأن يغمز لي بعينه فنستمر في العمل. كانا يلعبان الشطرنج كثيرا عندما يسمح صفاء الجو بذلك. ووالدي متقدم على والدتي بخمسة أشواط مقابل ثلاثة. وتقول والدتي إنها لا تهتم، ولكنها مهتمة، وأستطيع أن أرى الدلائل.
لم نقض في ميناء لاكورونيا، شمالي إسبانيا، سوى يومين. كانت والدتي تنام كثيرا، فهي مرهقة حقا. قام والدي بعمل بعض الإصلاحات في حبل الدفة عندما كنا هناك. ومع ذلك فلا يزال غير راض عنه. وبدأنا الإبحار نحو جزر الأزور منذ يومين.
كان أمس أفضل يوم للإبحار حتى الآن. فالنسائم قوية، والسماء زرقاء، ودفء الشمس الساطعة يكفي لتجفيف الأشياء. كنت علقت الشورت الأزرق الخاص بي على حبل الغسيل لكنه طار ووقع في البحر. غير مهم. لم أكن أحبه كثيرا على أية حال. شاهدنا طيور الأطيش البحرية وهي تغطس في البحر في كل مكان لالتقاط الأسماك عصر هذا اليوم. رائع حقا. وأخذت ستلا أرتوا تنبح بجنون.
مللت أكل الفاصوليا المعلبة، ولا يزال لدينا مخزون كبير أسفل السفينة.
11 أكتوبر
شاهدت أفريقيا اليوم! كان الساحل بعيدا ولكن والدتي قالت إنها أفريقيا حقا. ونحن نبحر بحذاء الساحل الغربي. وبينت والدتي ذلك على الخريطة. وسوف تدفعنا الريح بجانب الساحل لعدة مئات من الكيلو مترات ثم نعبر المحيط الأطلسي إلى أمريكا الجنوبية. يجب ألا نخرج عن المسار المحدد، وإلا دخلنا نطاق الرهو الاستوائي، وهو نطاق سكون وخمود، لا تهب الريح فيه على الإطلاق، وقد تسكن فيه حركة السفينة أسابيع متوالية، أو حتى إلى الأبد.
هذا أشد الأيام حرارة. واكتسى وجه والدي حمرة قانية، وبدأت بشرته عند أطراف أذنيه تتقشر، أما أنا فقد اكتسيت لونا أسمر كالبندق، مثل والدتي.
شاهدت الأسماك الطيارة هذا الصباح، وكانت ستلا معي، ثم لمحت والدتي سمكة من أسماك القرش بالقرب من مقدم السفينة، وقالت إنها تستمتع بدفء الشمس. وأتيت بالمنظار المقرب، لكنني لم أستطع أن أراها قط. وقالت والدتي إن علي أن أكتب عنها في مذاكرتي ولو لم أكن شاهدتها، ثم أرسم صورتها. وهكذا اضطررت إلى قراءة ما كتب عنها. إنها أسماك بالغة الضخامة، لكنها لا تأكل البشر، بل تقتصر على الأسماك وكائنات البلانكتون الدقيقة. أحب الرسم، وأفضل صورة رسمتها صورة سمكة طيارة.
أرسلت بطاقة بريدية إلى إدي من جزر الرأس الأخضر. ليته كان معي هنا، إذن لسعدنا وضحكنا معا.
ستلا تحب الجري وراء كرة القدم في الغرفة ثم تثب فوقها. لسوف تخرقها بأنيابها يوما ما. أنا واثق من هذا.
كان والدي متجهما قليلا في الآونة الأخيرة، وذهبت والدتي لترقد وحدها، فلديها صداع. أظن أنهما تشاجرا قليلا. لا أعرف سبب المشاجرة، لكنني أظن أنه الشطرنج.
16 نوفمبر
غادرنا لتونا ميناء ريسيفي. وهو في البرازيل. مكثنا فيه أربعة أيام. كان علينا القيام بإصلاحات كثيرة في السفينة. كان جهاز توليد الريح يحتاج إلى إصلاح، وحبل الدفة لا يزال يلتصق بالبكرة أثناء الدوران.
لعبت كرة القدم في البرازيل! هل سمعت بذلك يا إدي؟ لعبت كرة القدم في البرازيل وبكرتك ذات السعد! كان والدي يشاركني تقاذف الكرة وحسب على الشاطئ، وفجأة وجدنا عشرة أطفال ينضمون إلينا. ولعبنا مباراة حقيقية قام والدي بتنظيمها، وانقسمنا إلى فريقين، أطلقت على فريقي اسم «مدلاركس» وأطلق والدي على فريقه اسم «البرازيل»، وهكذا كان الجميع يريدون أن يلعبوا في فريقه - بطبيعة الحال! - ولكن والدتي انضمت إلى فريقنا وفزنا! كانت النتيجة «مدلاركس» 5 والبرازيل 3، وبعد ذلك دعت والدتي الأولاد لشرب الكوكاكولا في السفينة. وأخذت ستلا تزمجر في وجوههم وتكشف عن أنيابها، فاضطررنا إلى حبسها في الغرفة. وحاولوا مخاطبتنا بالإنجليزية، غير أنهم لم يكونوا يعرفون سوى كلمتين «جول» و«مانشستر يونايتد». إذن فهذه ثلاث كلمات!
وجاءت والدتي بالصور بعد تحميض الأفلام وطبعها، ومن بينها صورة دلافين تقفز في الهواء، وصورة لي بجوار الرافعة، وأخرى لوالدتي وهي تدير عجلة القيادة، ورابعة لوالدي وهو يقوم بإنزال الشراع الرئيسي بأسلوب بالغ السوء. وكانت من بينها صورة لي وأنا أقذف بقطعة من الصخر في البحر عندما توقفنا في جزر الكناري، وصورة أخرى لوالدي وهو مستغرق في النوم على ظهر السفينة يستمتع بالشمس ووالدتي تقهقه. كانت على وشك أن تضع قطرات الزيت الذي يحمي من الشمس على بطنه (أنا الذي التقطت هذه الصورة، وهي أفضل صورة صورتها). وكان من بين الصور أيضا صورة لي وأنا أستذكر درس الرياضيات، وقد عبس وجهي وأخرجت لساني.
25 ديسمبر
يوم عيد الميلاد في البحر. وجد والدي محطة إذاعة تذيع أناشيد عيد الميلاد. وتناولنا البسكويت «المقرمش» لكنه كان قد ابتل قليلا فلم يصبح «مقرمشا»، وتناولنا وجبة حلوى عيد الميلاد التي أعدتها جدتي لنا. وأهديت كلا منهما صورة رسمتها، فأهديت والدي صورة السمكة الطيارة وأهديت والدتي صورة الربان، أي صورتها وهي تدير عجلة القيادة وترتدي قبعتها. وأهداني والدي ووالدتي مدية جميلة حقا اشترياها لي في مدينة ريو دي جانيرو بالبرازيل. وهكذا رددت إليهما قطعة نقود. هذا هو المفترض أن تفعله. فهو يجلب الحظ الحسن.
عندما كنا في ريو دي جانيرو قمنا بتنظيف السفينة بيجي سو تنظيفا متقنا. كانت تبدو متسخة قليلا من الداخل ومن الخارج، لكنها لم تعد كذلك. واشترينا مقادير كبيرة من المؤن والماء استعدادا لقطع المسافة الطويلة إلى جنوب أفريقيا. وقالت والدتي إننا نسير سيرا حسنا، ما دمنا نحافظ على اتجاه السير جنوبا، وما دمنا نلتزم بالإبحار في تيار جنوب الأطلسي المتجه من الغرب إلى الشرق.
مررنا جنوب جزيرة تسمى سانت هيلانة منذ عدة أيام. لم نكن نحتاج إلى التوقف، فليس فيها الكثير. كل ما هناك أنها كانت المكان الذي نفي إليه نابليون بونابرت. وقد توفي فيها. من المؤلم أن يموت الإنسان في هذا المكان الموحش. وهكذا كان علي بطبيعة الحال، أن أكتب موضوعا دراسيا عن نابليون في منهج التاريخ. كان علي أن أقرأ ما كتب عنه في دائرة المعارف وأن أكتب عنه. وقد وجدت الموضوع طريفا لكنني لم أقل لهما ذلك.
الكلبة ستلا تقبع متجهمة في سريري. ربما حزنت لأنها لم تتلق هدية عيد الميلاد من أحد. عرضت عليها أن تذوق حلوى عيد الميلاد التي أعدتها جدتي، ولكنها لم تلتفت إليها تقريبا أو تشمها. وأنا لا ألومها على ذلك!
رأيت اليوم شراعا، يختا آخر. وهتفنا: عيد ميلاد سعيدا ولوحنا بأيدينا، ونبحت ستلا نباحا شديدا، ولكن من فيه لم يردوا بسبب بعدهم الشاسع عنا. وعندما اختفى الشراع بدا البحر فجأة خاويا فارغا.
فازت والدتي في الشطرنج هذا المساء. أصبحت تتقدم على والدي، بواحد وعشرين مقابل عشرين. وقال والدي إنه تركها تفوز بسبب عيد الميلاد . كانا فيما يبدو لا يأخذان الموضوع مأخذ الجد، ولكن كلا منهما يريد أن يفوز.
1 يناير
أفريقيا من جديد. مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا، وجبل تيبل. ولن نمر بها أثناء إبحارنا وحسب هذه المرة بل سوف نرسو بالميناء. هذا ما قالاه لي هذا المساء. لم يكونا يريدان أن يقولا لي ذلك من قبل خشية ألا نقدر على ذلك ماليا، ولكن لدينا ما يكفي. سوف نمكث هنا أسبوعين، وربما فترة أطول. سوف نرى الأفيال والأسود على طبيعتها في البرية، لا أستطيع أن أصدق ذلك. ولا أظن أنهما يستطيعان التصديق أيضا. وعندما أخبراني كانا مثل طفلين، ضاحكين وسعيدين، لم يكن ذلك عهدي بهما في المنزل من قبل قط، إنهما يبتسمان لبعضهما البعض حقا هذه الأيام.
تعاني والدتي من تقلصات في المعدة. ويريد والدي أن يعرضها على طبيب في كيب تاون، لكنها ترفض ذلك. لا بد أن ذلك بسبب الفاصوليا المعلبة. أما الخبر السعيد فهو أن علب الفاصوليا قد نفدت أخيرا. وأما الخبر السيئ فهو أننا تناولنا عشاءنا من السردين المعلب، أعوذ بالله!
7 فبراير
كنا قطعنا مئات الكيلو مترات في المحيط الهندي، وإذا بهذا يحدث! فالواقع أن ستلا نادرا ما تصعد إلى سطح السفينة إلا إذا كان البحر ساجيا كالحصير. لا أعرف سبب صعودها ولا أعرف لماذا أتت، ربما كنا جميعا مشغولين وحسب. فوالدي كان يعد الشاي في الطابق السفلي، ووالدتي تدير عجلة القيادة، وكنت أنا أمارس تدريبا عمليا في الملاحة بتحديد موقعنا بجهاز السدسية؛ آلة المساحة، وكانت السفينة بيجي سو ترتفع وتنخفض وتتأرجح قليلا، وكان علي أن أثبت في مكاني. ورفعت بصري فشاهدت ستلا واقفة في مقدم السفينة. كانت واقفة وفجأة اختفت.
كنا تدربنا عشرات المرات على عملية إنقاذ من يسقط في الماء من السفينة، في مضيق سولنت. مع بارناكل بيل. لا بد من الصياح وتحديد مكان السقوط، وتكرار الصياح، وتكرار الإشارة إلى المكان. ثم نلتفت إلى مهب الريح، ونقوم بخفض الأشرعة بسرعة، وندير محرك السفينة. وهكذا، فعندما انتهى والدي من إنزال الشراع الرئيسي والشراع المثلث الصغير في مقدم السفينة، كنا قد بدأنا التحرك إلى الخلف ناحية ستلا. كنت أنا أتولى الإشارة إلى المكان الذي سقطت فيه، والصياح المستمر أيضا. كانت تضرب الماء بقوائمها حتى تنجو من موجة خضراء مقبلة عليها، وكان والدي قد انحنى على جانب السفينة، وأخذ يمد يده حتى يصل إليها، لكنه لم يكن يرتدي سترة الأمان، وكانت والدتي في شبه جنون. كانت تحاول أن تجعل السفينة تقترب إلى أقصى حد ممكن وبأبطأ سرعة من ستلا، ولكن موجة عارمة أبعدتها عنا في آخر لحظة وكان علينا أن نستدير ثم نعود من جديد. وكنت أنا أصيح وأشير بيدي إلى ستلا طول الوقت.
اقتربنا منها ثلاث مرات، ولكننا كنا نتخطاها في كل مرة. أحيانا كنا نسير بسرعة أكبر مما ينبغي وأحيانا لم نكن نقترب منها إلى الحد الكافي. كانت بدأت تفقد قوتها، ولا تكاد تضرب الماء بقوائمها، وبدأت تغوص. كانت أمامنا فرصة أخيرة. اقتربنا منها من جديد، على النحو الصحيح هذه المرة، واقتربنا منها اقترابا يمكن والدي أن يمد يده ويمسك بها. وتعاون ثلاثتنا في إخراج ستلا من الماء، قابضين على طوقها الجلدي حول رقبتها وعلى ذيلها. وقال لي والدي: «أحسنت أيها القرد!» وجعلت والدتي تسخر وتضحك من والدي لعدم ارتدائه سترة الأمان. ولم يفعل والدي سوى أن احتضنها فاندفعت تبكي. ونفضت ستلا عن نفسها ماء البحر ثم هبطت إلى أسفل السفينة كأنما لم يحدث شيء على الإطلاق.
ووضعت والدتي قاعدة صارمة، وهي عدم السماح مطلقا للكلبة ستلا أرتوا بالصعود إلى ظهر السفينة، مهما تكن الأحوال الجوية، دون أن نلبسها سترة الأمان، مثلي ومثل والدي ووالدتي. وبدأ والدي يصنع لها سترة أمان خاصة.
ما زلت أحلم بالفيلة في جنوب أفريقيا. أحببت مشيها في تمهل وتأمل، وعيونها الدامعة الحكيمة. وما زلت أذكر تلك الزرافات المتعالية التي تطل من عليائها علي، وشبل الأسد الذي يرقد وقد وضع ذيل أمه في فمه. ورسمت صورا كثيرة ولا أزال أنظر إليها حتى تذكرني بما شاهدت. والشمس في أفريقيا كبيرة جدا، حمراء قانية.
أستراليا هي المحطة التالية، بحيواناتها ذات الجراب مثل الكنغر والبوسوم والومبات. وسوف يستقبلنا العم جون في ميناء بيرث. سبق أن شاهدته في الصور لكنني لم أقابله حتى الآن. وقال والدي هذا المساء إننا لا نرتبط إلا بنسب بعيد، وقالت والدتي: «وهو بعيد جدا»، وضحك الاثنان. ولم أدرك الفكاهة المقصودة حتى عدت للتفكير في الأمر عندما حلت نوبة مراقبتي.
تبدو النجوم أشد لمعانا، ونجت ستلا من الغرق. أعتقد أنني أسعد مما كنت عليه في أي يوم من قبل.
3 إبريل
اقتربنا من بيرث، في أستراليا، لم أكن أرى حتى اليوم إلا المحيط الخالي الخاوي منذ أن غادرنا أفريقيا. يزيد استمتاعي حين تقتصر صحبتنا علينا وعلى السفينة بيجي سو والبحر. وأظن أننا نحس جميعا هذا الإحساس، ومع ذلك فحين نلمح اليابسة دائما ما نحس بالفرحة الغامرة. وعندما لمحنا أستراليا للمرة الأولى تبادلنا الأحضان وجعلنا نتواثب، فكأننا كنا أول ملاحين يكتشفون قارة أستراليا في التاريخ. وأخذت ستلا أرتوا تنبحنا كأنما جن جنوننا! وربما كنا كذلك، لكننا نجحنا! لقد قطعنا مسافة شاسعة من إنجلترا إلى أستراليا بحرا! أي نصف الطريق حول العالم! وفعلنا ذلك وحدنا.
عادت إلى والدتي تقلصات المعدة، سوف تعرض نفسها قطعا على طبيب في أستراليا. وعدتنا بذلك وسوف نجعلها تفي بوعدها.
28 مايو
نحن في البحر من جديد بعدما يقرب من ستة أسابيع مع العم جون. كنا نظن أننا سوف نمكث في بيرث عدة أيام فقط، ولكنه قال إن علينا أن نشاهد أستراليا كما ينبغي أثناء وجودنا فيها. وهكذا اصطحبنا للإقامة مع أسرته في مزرعة ضخمة. آلاف الأغنام. لديه أعداد كبيرة من الخيول، وهكذا قضيت وقتا طويلا في ركوب الخيل مع ابنتي عمي الصغيرتين: بيث وليزا، ورغم أنهما لم تتجاوزا السابعة والثامنة، فهما تجيدان ركوب الخيل. كانتا تدعوانني «مايكي»، وعندما حان رحيلنا كانت كلمنهما تريد أن تتزوجني. لكننا سوف نصبح أصدقاء بالمراسلة بدلا من ذلك.
رأيت حية تسمى ذات الرأس النحاسي. وقال العم جون إنني لو وطأتها بقدمي لقتلتني. وقال لي أن آخذ حذري من العناكب ذات الظهر الأحمر في دورة المياه. وبعدها لم أكن أتردد كثيرا على دورة المياه.
كانوا يسموننا أبناء عمومتهم البريطانيين، وكنا نقيم حفلا للشواء في الهواء الطلق كل مساء. وقضينا معهم أوقاتا ممتعة. ولكنني كنت سعيدا بالعودة إلى السفينة بيجي سو. والحق أنني اشتقت إليها أثناء مقامنا في أستراليا، مثلما أشتاق إلى صديقي الصغير إدي. كنت أرسل له بطاقات بريدية، وأحيانا بطاقات عليها صور حيوانات غريبة إذا عثرت عليها. أرسلت إليه صورة دبة الومبات. ولقد رأيت هذه الحيوانات فعلا، ومئات من حيوان البوسوم، والكثير من الكناغر. ولديهم في أستراليا أعداد كبيرة من الببغاوات البيضاء ذوات العرف، بل إنها تعد بالملايين مثل العصافير لدينا في الوطن.
ولكن طيور النورس هنا أيضا. وأينما ذهبنا في هذا العالم وجدنا دائما طيور النورس. والخطة الموضوعة هي أن نرسو في ميناء سيدني على الساحل الشرقي لأستراليا فترة من الوقت، ونستكشف الحاجز المرجاني قليلا، ثم نبحر عبر بحر المرجان وشمالا نحو بابوا غينيا الجديدة.
تحسنت حالة والدتي كثيرا بعد تقلصات المعدة. وقال الطبيب في أستراليا إن السبب يمكن أن يكون طعاما تناولته. وقد شفيت الآن على أية حال.
الجو حار وخانق حقا، لكنه ساكن أيضا، ولا توجد رياح، ولا نكاد نتحرك. لا أستطيع أن أرى أية سحب، لكنني واثق أن عاصفة ما سوف تهب. هذا ما أحسه.
28 يوليو
أنظر حولي. إنها ليلة حالكة الظلمة. لا قمر ولا نجوم. ولكن السكون قد عاد أخيرا. سوف أتم عامي الثاني عشر غدا، لكنني لا أظن أن أحدا غيري سوف يتذكر ذلك.
مر بنا وقت عصيب، أسوأ مما مر بنا في خليج بسكاي. فمنذ أن غادرنا سيدني توالت العواصف علينا دون انقطاع، وكانت كلمنها تدفعنا شمالا عبر بحر المرجان. انقطع حبل الدفة. فعل والدي ما يستطيع ولكن الحبل لا يزال يحتاج إلى إصلاح. جهاز القيادة الذاتية لم يعد يعمل، وهكذا لا بد من وجود أحدنا عند عجلة القيادة طول الوقت، وهذا معناه إما والدي وإما أنا؛ لأن والدتي عاودها المرض، تقلصات المعدة من جديد، ولكنها ازدادت الآن سوءا، وهي لا تريد أن تتناول أي طعام، وكل ما تتناوله هو الماء المحلى بالسكر. لم تستطع أن تنظر إلى الخرائط لمدة ثلاثة أيام. يريد والدي أن يرسل إشارة استغاثة ولكن والدتي تمنعه. وتقول إن معنى هذا هو الاستسلام. شاركني أبي في العمليات الملاحية، وبذلنا قصارى جهدنا، ولكنني أعتقد أننا لم نعد نعرف مكاننا.
إنهما الآن نائمان في أسفل السفينة. والدي يعاني من الإرهاق الشديد. وأنا أدير عجلة القيادة في غرفة القائد، ومعي كرة القدم التي أهداني إدي إياها، لقد جلبت لنا الحظ الحسن حتى الآن، وهو أشد ما نحتاج إليه الآن حقا. نحتاج إلى شفاء والدتي، وإلا أصبحنا في مشكلة حقيقية. لا أعرف إن كنا نستطيع احتمال هبوب عاصفة أخرى.
الحمد لله على سكون الجو. سوف يساعد ذلك والدتي على النوم. فالنوم يتعذر حين تتقاذفك الأمواج طول الوقت.
الظلام دامس في البحر وستلا تنبح، وتقف على مقدم السفينة. وهي لا ترتدي سترة الأمان.
كانت هذه آخر كلمات كتبتها في سجل السفينة والصفحات التالية بيضاء.
حاولت أن أنادي ستلا أولا لكنها لم تأت. وهكذا تركت عجلة القيادة تقدمت لإعادة ستلا. وأخذت الكرة معي لإرضائها وإغرائها بالعودة من مقدم السفينة.
وقبعت في مكاني وقلت: «تعالي يا ستلا!» وأنا أنقل الكرة من يد إلى يد، وناديتها «تعالي خذي الكرة.» وأحسست بالسفينة تميل قليلا بسبب الريح، وعرفت حينذاك أنني أخطأت حين تركت عجلة القيادة. وأفلتت الكرة من يدي فجأة وتدحرجت فارتميت خلفها؛ لكنها كانت قد وصلت للجانب الآخر قبل أن أمسكها. كنت مستلقيا على ظهر السفينة أتابع الكرة بنظراتي وهي تختفي في الظلام. كنت غاضبا أشد الغضب من نفسي بسبب حماقتي الشديدة.
كنت لا أزال ألوم نفسي عندما تصورت أنني أسمع صوت غناء. كان أحدهم يغني في مكان ما وسط الظلام. ناديت ولكنني لم أتلق ردا. إذن، فذلك ما كانت ستلا تنبحه.
بحثت مرة أخرى عن كرتي لكنها كانت قد اختفت. كانت الكرة ثمينة جدا بالنسبة لي، وثمينة لنا جميعا. وأدركت عندها أنني فقدت لتوي ما يزيد كثيرا عن مجرد كرة قدم.
كنت غاضبا من ستلا، إذ كانت السبب في هذا كله. كانت لا تزال تنبح. ولم أعد أستطيع سماع الغناء. ناديتها من جديد، ودعوتها بالصفير للعودة، لكنها لم تأت. نهضت واقفا وتقدمت، وأمسكت بطوقها الجلدي وشددتها ولكنها رفضت أن تتحرك. لم أكن أستطيع أن أجرها للعودة بها هذه المسافة كلها فانحنيت حتى أحملها. كانت لا تزال رافضة. ثم احتضنتها بين ذراعي وهي تجاهد للتحرر من قبضتي.
وسمعت زفيف الريح من فوقي في الأشرعة، وما زلت أذكر أنني قلت في نفسي: هذا حمق! إنك لا ترتدي سترة الأمان ولا سترة النجاة وعليك أن تتوقف عما تفعله. ثم إذا بالسفينة تميل بعنف وتلقي بي جانبا. ولما كنت أقبض بذراعي على ستلا لم أجد الوقت اللازم لأمسك بسور السفينة الحديدي. وقبل أن أستطيع حتى أن أفتح فمي لأصرخ أصبحنا في وسط مياه البحر الباردة.
الفصل الرابع
قرود وأشباح
تتابعت أهوال الرعب بسرعة. وابتعدت أضواء السفينة بيجي سو ثم اختفت في ظلام الليل، تاركة إياي وحيدا في المحيط، وحيدا مع ثقتي بأن الأضواء قد بعدت بعدا شديدا وأن صرخات استغاثتي من المحال أن يسمعها أحد. وخطر ببالي وجود أسماك القرش السابحة في المياه السوداء من تحتي، تتشمم رائحتي وتتعقبني وتشق طريقها إلي، وعرفت أنه لا أمل. سوف تأكلني حيا. إما ذاك أو أن أغرق ببطء. لا يمكن أن ينقذني الآن شيء.
وضربت الماء بأقدامي فطفوت، وأنا أبحث بجنون في الظلمة الصماء من حولي عن شيء؛ عن أي شيء يمكن أن أسبح لأصل إليه. لكنه لم يكن هناك شيء.
ثم لمحت فجأة شيئا أبيض في الماء، ربما كان زبد موجة. لكنه لا توجد أمواج، ستلا! لا بد أن تكون ستلا، حمدت الله كثيرا وشعرت براحة عميقة لأنني لم أكن وحدي، وناديتها وسبحت تجاهها، لكنها كانت دائما بعيدة، تختفي وتعود للظهور ثم تختفي من جديد. كانت تبدو قريبة جدا، لكنني اضطررت إلى السباحة بشدة عدة دقائق قبل أن أقترب منها اقترابا يكفي لمد يدي ولمسها. وعند ذلك فقط أدركت خطئي. رأس ستلا يغلب عليه السواد، وأما هذه فبيضاء. كانت كرة القدم. أمسكتها وتعلقت بها وقد أحسست بقدرتها الرائعة وغير المتوقعة على الطفو، وثابرت وأنا أضرب الماء بقدمي وأنادي ستلا، لكنني لم ألق جوابا. ناديت وناديت، لكنني كلما فتحت فمي الآن دخلت فيه مياه البحر. كان علي أن أكف عن النداء، فالواجب أن أنقذ نفسي إذا استطعت.
لم يكن هناك جدوى من إهدار الطاقة بمحاولة السباحة. وعلى أية حال، لم يكن هناك مكان أسبح نحوه. وقررت بدلا من ذلك أن أطفو وحسب. ومن ثم قررت أن أتعلق بكرة القدم، وأن أضرب الماء بقدمي ضربا خفيفا وأن أنتظر عودة السفينة بيجي سو. لا بد أن والدي سوف يكتشفان عاجلا أو آجلا أنني وقعت في البحر، وأن يأتيا للبحث عني عاجلا أو آجلا. يجب ألا أرفس الماء بشدة، بل بما يكفي فقط للطفو، لإبقاء ذقني فوق سطح الماء. فكثرة الحركة سوف تجتذب أسماك القرش، ولا بد أن الصبح قريب، لا بد أن أثابر إذن حتى يطلع الصبح، لا مفر من ذلك. لم تكن برودة المياه قارسة، وكانت معي كرة القدم، والفرصة لا تزال قائمة.
ظللت أقول ذلك لنفسي المرة بعد المرة. ولكن الدنيا ظلت سوداء لا تريد التخفيف من سوادها من حولي، كما بدأت أشعر أن برودة الماء تجمدني حتى الموت. حاولت أن أغني حتى أتوقف عن الارتجاف وحتى أبعد صور أسماك القرش عن بالي، غنيت جميع الأغاني التي أذكرها، لكنني كنت بعد قليل أنسى كلمات الأغنية، ودائما كنت أعود إلى الأنشودة التي كنت واثقا من إتمامها وهي «عشر زجاجات خضراء». غنيتها بأعلى صوتي مرات كثيرة. كنت أستمد الاطمئنان من رنين صوتي، الأمر الذي جعلني أحس بوحشة أقل في البحر، وكنت دائما أبحث عن لمعة الفجر الخضراء، لكنها تأبى أن تأتي وتأبى أن تأتي.
وسكت آخر الأمر ولم تعد رجلاي تضربان الماء. وتعلقت بكرة القدم، ورأسي ينساق إلى النوم. كنت أعرف أنني يجب ألا أنام، لكنني لم أستطع المقاومة. وكانت يدي كثيرا ما تنزلق من الكرة. كنت أفقد بسرعة آخر ما لدي من قوة، وهكذا كنت سأهبط، وأهبط إلى قاع البحر وأرقد في قبري وسط الطحالب البحرية وعظام الملاحين الغرقى وحطام السفن.
والغريب أنني لم آبه لذلك حقا. لم أكن أكترث، أو لم أعد أكترث. وجعلت أطفو حتى غلبني النعاس، وجاءت الأحلام. ورأيت في حلمي سفينة تتقدم نحوي ساكنة فوق صفحة البحر. إنها بيجي سو! بيجي سو العزيزة الحبيبة! لقد عادا يبحثان عني، كنت أعرف أنهما سيعودان، وأمسكتني أذرع قوية، وحملتني إلى أعلى خارج الماء، ورقدت هناك فوق ظهر السفينة أنشق الهواء بصعوبة مثل سمكة حطت على اليابسة.
كان شخص ما قد انحنى فوقي، وأخذ يهزني ويحادثني. لم أفهم كلمة واحدة مما قاله، لكن ذلك لم يهمني. شعرت بأنفاس ستلا على وجهي، وأحسست بلسانها يلعق أذني. لقد كتبت لها السلامة. وكتبت لي السلامة. كل شيء على ما يرام.
استيقظت على صوت عواء يشبه صوت عصف الريح الشديدة من خلال سواري السفينة. ونظرت حولي فلم أجد سارية واحدة فوقي، ولا شراعا واحدا، ولم أشعر بحركة تحتي أيضا، ولا بأي نسيم يهب، كانت ستلا أرتوا تنبح، ولكنها على مبعدة ما مني، لم أكن فوق ظهر أية سفينة على الإطلاق، بل راقدا ممددا على الرمال، وتحول صوت العواء إلى صياح، بل إلى صراخ حاد متصاعد ومخيف يخبو صوته فيما يحدثه من أصداء.
وجلست. كنت على شاطئ البحر، منطقة رملية بيضاء عريضة، ومن خلفي أشجار كثيفة وكثة حتى الشاطئ. ثم رأيت ستلا تتواثب في المياه الضحلة. ناديتها فجاءت قفزا من البحر لتحيتي، وذيلها يدور في الهواء بعنف. وبعد أن انتهت من التنطيط ولعقي بلسانها واحتضاني، اجتهدت حتى وقفت على قدمي.
كنت أشعر بضعف في جسمي كله. ونظرت حولي. كان البحر الأزرق الواسع خاويا مثل السماء الصافية الخالية من السحب من فوقي. لم تكن هناك بيجي سو. لم تكن هناك أية سفن. لا شيء. لا أحد. ناديت وناديت مرات على أمي وأبي، وظللت أنادي حتى اغرورقت عيناي بالدموع ولم أعد أستطيع النداء، وحتى أدركت أنه لا فائدة في النداء، ووقفت هنالك بعض الوقت أحاول أن أفهم كيف انتهيت إلى هذا المكان، وكيف تسنى لي أن أنجو، وقد اختلطت الذكريات في رأسي، بعضها يقول إنهما أنقذاني، وبعضها يقول إنني على متن السفينة بيجي سو، لكنني الآن واثق أن هذا محال، لا بد أنني رأيت ذلك في المنام، وحلمت بكل ذلك. لا بد أنني تعلقت بكرة القدم فظللت طافيا حتى ألقتني الأمواج على الشاطئ. وخطرت ببالي كرة القدم عندها، لكنني لم أستطع رؤيتها في أي مكان.
ولم يكن يعني ستلا، بطبيعة الحال، تساؤلي عن الأسباب والعلل، بل ظلت تأتي لي ببعض العصي حتى أقذفها فتجري خلفها ركضا لتحضرها من البحر دون أن يقلقها شيء في الدنيا.
ثم عادت أصوات العواء القادمة من جهة الأشجار، فاستفزت ستلا حتى وقف شعر رقبتها، وانطلقت تجري على الشاطئ وهي تنبح وتنبح حتى تأكدت أنها قد أسكتت آخر الأصداء. ولكن العواء هذه المرة كان موسيقيا يشبه النواح ولا يوحي بأي تهديد على الإطلاق. وقلت في نفسي إنني أعرف مصدر هذه الأصوات. فلقد سمعت أصواتا تشبهها ذات يوم في زيارة إلى حديقة الحيوان في لندن. إنها أصوات قردة «الجيبون»، وكان والدي يسميها «الجيبون الجبانة». ولا أزال أجهل سر هذه التسمية، وإن كان جرس الألفاظ يستهويني. وربما كان ذلك هو السبب الذي جعلني أتذكرها، وقلت لستلا: «ليست سوى قردة الجيبون! الجيبون الجبانة! وهي لن تؤذينا.» ولكنني لم أكن واثقا أنني كنت على صواب.
وكنت أستطيع من الموقع الذي وقفت فيه أن أرى أن الغابة تخف كثافة أشجارها على جانب تل عظيم يقع على مبعدة من الشاطئ، وخطر لي عندها أنني لو استطعت الوصول إلى الصخور الناتئة الجرداء عند القمة فسوف أتمكن من مد بصري إلى مسافة أبعد في البحر. أو ربما كان هناك منزل أو مزرعة إذا ابتعدنا أكثر عن الشاطئ، وقد يكون هناك طريق من الطرق، وعندها أجد من يمد لي يد المساعدة. لكنني قلت في نفسي: لنفرض أنني غادرت الشاطئ فعادا للبحث عني، فماذا يكون حالي؟ وقررت أن من واجبي أن أغتنم تلك الفرصة.
وانطلقت أجري، وستلا أرتوا في أعقابي، وسرعان ما وجدت نفسي في ظل الغابة الرطيب. واكتشفت مسلكا ضيقا صاعدا في التل، ورأيت أنه يمثل الوجهة الصحيحة. وهكذا سرت فيه جريا ثم أبطأت السرعة عندما أصبح التل شديد الانحدار. كانت الغابة عامرة بالكائنات الحية. كنت أسمع وقوقة الطيور وصرخاتها عند ذوائب الأشجار العالية من فوقي، وأصوات العواء القديم ينقلها الهواء كأنها النواح من خلال الأشجار، وإن بدا أنني ابتعدت عنها الآن.
ولكن مصدر قلقي لم يكن أصوات الغابة، بل العيون! إذ شعرت بأن ألف عين مستطلعة تراقبني. وأظن أن ستلا شعرت بذلك أيضا، إذ إنها التزمت بصمت غريب منذ أن دخلنا الغابة، وكانت دائما ما تتطلع إلي طلبا للاطمئنان والراحة. وبذلت قصارى جهدي في ذلك، ولكنها كانت تشعر أيضا أنني كنت خائفا.
ولكن مسيرتي التي كنت أظنها جولة قصيرة بدت لي الآن رحلة كبيرة في داخل تلك الأرض، فبعد أن خرجنا منهكين من وسط الأشجار، صعدنا بصعوبة وجهد جهيد ركاما صخريا حتى استطعنا أخيرا أن نقف فوق القمة.
كانت الشمس الساطعة شديدة الحرارة. ولم أكن قد أحسست بحرارتها اللافحة حتى تلك اللحظة. وألقيت نظري على الأفق كله. وأمعنت النظر حتى أرى إن كان هناك شراع ما يلوح على البعد، لكنني لم أشاهد شيئا. ثم قلت في نفسي: فلنفرض أنني شاهدت شراعا ما، ماذا يمكنني أن أفعل؟ لم أكن أستطيع إشعال نار، فليست معي أعواد ثقاب. كنت أعرف أن إنسان الكهوف كان يشعل النار بحك العصي بعضها بالبعض، لكنني لم أجرب ذلك من قبل، ونظرت حولي الآن في كل اتجاه. البحر. البحر. البحر. لا شيء سوى البحر من جميع الاتجاهات. كنت في جزيرة. وأنا وحدي هنا.
لم يكن يبدو أن الجزيرة يزيد طولها على ثلاثة كيلو مترات أو أربعة، لا أكثر. وكان شكلها يشبه قليلا حبة فول سوداني طويلة، وإن كانت أعرض في جانب منها من الجانب الآخر. ورأيت على كل جانب منها شاطئا يمتد كأنه شريط أبيض لامع، وفي آخرها الآخر، وجوانبه أشد انحدارا وتنمو عليها غابات أشد كثافة، لكنه لا يبلغ ارتفاع التل الذي أقف فوقه، وكانت الجزيرة كلها تبدو مغطاة تماما بالغابات باستثناء القمة الجرداء لكل من هذين التلين. وحسبما استطعت أن أرى، لم أجد أي دليل على أية حياة بشرية. وأنا أذكر الآن - حتى أثناء وقوفي هناك في أول صباح أقضية في ذلك المكان، وقد غمرتني المخاوف من عواقب وقفي الرهيب - أنني قلت في نفسي ما أروع تلك الجزيرة؛ فهي كالزمردة الخضراء في إطار أبيض، والبحر يحيط بها من كل مكان، بلون أزرق حريري متلألئ. ومن الغريب أنني لم أشعر إطلاقا بالاكتئاب، وربما كان الجمال الفذ لذلك المكان هو الذي أتاني بالتسرية والراحة.
ومن الغريب أيضا أنني أحسست، على العكس من ذلك، بالزهو! كنت على قيد الحياة! وكذلك كانت ستلا أرتوا! لقد نجونا!
وجلست في ظل صخرة كبيرة، وقامت قردة الجيبون بتشكيل جوقة إنشاد جديدة من العواء والنعيب في الغابة، وجعلت جماعة من الطير ذات أصوات جشاء تردد صياحا كالصليل من خميلة الأشجار تحت موقعنا ثم طارت فعبرت الجزيرة لتحط فوق الأشجار القائمة على جانب التل المقابل.
وقلت لستلا: «سنكون بخير! أمي وأبي سوف يعودان إلينا لا بد أن يعودا، بل من المؤكد أن يعودا، سوف تشفى والدتي ويعودان إلينا، لن تتركنا هنا، سوف تعثر علينا وسوف ترين. ليس علينا إلا أن نواصل ترقبنا لهما، وأن نظل على قيد الحياة. الماء! سوف نحتاج إلى الماء. ألا تحتاج إليه هذه القردة؟ كل ما علينا هو أن نحاول العثور عليه، لا أكثر. ولا بد أن يكون هنا أغذية أيضا؛ فواكه أو بندق، أو أي شيء. ومهما يكن ما تأكله القردة فسوف نأكله .»
وساعدني التعبير بصوت عال عن أفكاري لستلا، وأعانني على إخماد الذعر الذي كان يدهمني الآن في موجات، وأما أهم ما ساعدني على تحمل تلك الساعات الأولى في الجزيرة، فكان صحبة ستلا لي.
بدا لي من المعقول ألا أغوص في أعماق الغابة فورا بحثا عن الماء، والحق أن خوفي كان يمنعني على أية حال، بل أن أستكشف منطقة الشاطئ أولا، فربما عثرت على جدول أو نهر يصب في البحر، وإذا صادفني بعض الحظ فربما وجدت شيئا أستطيع أن آكله أيضا.
وانطلقت مستبشرا، هابطا الركام الصخري وثبا كأنني من الماعز الجبلي. وقال لي عقلي إننا نستطيع أن نعيش حيث يعيش القرود. وجعلت أقول ذلك لنفسي. وسرعان ما اكتشفت أن الطريق الذي يتوسط الأشجار لم تكن فيه أية نباتات تؤكل. شاهدت فعلا فواكه من نوع ما، أو ما بدا لي أنه فواكه على أية حال. كانت هناك أشجار جوز الهند أيضا، لكنه كان من المستحيل تسلقها. كان طول بعضها يزيد على ثلاثين مترا، والبعض الآخر يزيد على ستين. لم أر في حياتي قط مثل هذه الأشجار العملاقة.
كان الخميلة المتشابكة الأغصان تمثل المأوى المنشود هربا من قيظ النهار، على الأقل، ومع ذلك فقد غدوت أشعر بالعطش الشديد، وكذلك غدت ستلا. كانت تمشي بجواري بخطى خافتة طول الطريق، وقد أخرجت لسانها. كانت ترمقني بنظرات الألم كلما التقت عيوننا، لكنني لم أكن أستطيع التسرية أو التخفيف عنها.
وعدنا إلى شاطئنا من جديد ثم انطلقنا نطوف بالجزيرة، ملتزمين قدر الطاقة بحافة الغابة، حتى نسير في الظل. لكننا أيضا لم نجد أي جداول. ورأيت من جديد فواكه كثيرة، لكنها كانت في أشجار بالغة الارتفاع، كما كانت جذوعها ملساء ناعمة من المحال تسلقها. وعثرت على كثير من ثمار جوز الهند على الأرض، ولكنها كانت دائما مكسورة ومفتوحة وخاوية.
وعندما وصلنا إلى قرب نهاية الشاطئ اضطررنا إلى أن نضرب في شعاب الغابة نفسها. وهنا وجدت طريقا ضيقا أستطيع السير فيه، وأصبحت الغابة في هذه اللحظة صماء ظلماء تنذر بالأخطار . توقفت أصوات العواء ، وحل محلها شيء أشد إنذارا بالشر؛ أصوات ارتجاف أوراق الأشجار، وقعقعة تكسير الغصون، وخشخشات خفية مفاجئة، وكانت جميعا قريبة مني وتحيط بي في كل مكان. وعرفت، بل أصبحت على ثقة تامة، أن هناك عيونا تراقبنا. كان هناك من يقتفي خطانا.
وأسرعت الخطى وأنا أحاول قدر الطاقة أن أبتلع مخاوفي. وجالت بخاطر صور قردة الجيبون التي رأيتها في حديقة الحيوان، وحاولت أن أقنع نفسي بأنها كانت تبدو بريئة أبعد ما تكون عن إيذاء أحد. وقلت في نفسي: لسوف تتركنا وما نحن فيه ولن تهاجمنا أبدا؛ إنها لا تأكل لحم البشر، ولكنه عندما زاد اقتراب أصوات الخشخشة، وزاد ما يكمن فيها من نذر الخطر، ازدادت صعوبة إقناع نفسي بما أقول، وبدأت أجري، وظللت أجري حتى انتهى الطريق بنا إلى الصخور، إلى ضوء النهار الرحيم الجميل، ورأيت البحر من جديد.
كان هذا الطرف من طرفي الجزيرة يبدو ساحة تناثرت فيها الجلاميد الهائلة القائمة مثل الصخور السامقة التي سقطت على طول البحر. وجعلنا نثب من جلمود إلى جلمود، وقد ركزت بصري بحثا عن قطرات المياه التي يمكن أن تصبح جدولا يجري بين الصخور منحدرا من الغابة العالية، لكنني لم أجد شيئا.
وشعرت آنذاك بالإرهاق الشديد. فجلست لأستريح، وقد جف حلقي وأحسست برأسي ينبض ويخفق، وعذبتني خواطر اليأس فقلت ربما أموت عطشا وربما مزقت القرود جسمي وقطعتني إربا إربا.
وتطلعت عينا ستلا إلى عيني، فقلت لها: «لا بد أن يكون هنا ماء، لا بد.» وقالت عيناها: إذن، ماذا تفعل بجلوسك هنا تتأسى على حالك؟
أرغمت نفسي على الوقوف وواصلت المسير. كانت مياه البحر في الغدران بين الصخور باردة ومغرية، وذقتها، لكنها كانت ملحة ومرة غليظة، فلفظتها من فمي فورا. كل من يشربها يصاب بالجنون. كنت متأكدا من ذلك.
كانت الشمس قد هبطت في السماء عندما وصلنا إلى شط البحر على الجانب الآخر من الجزيرة، ووفقا لحساباتي لم نكن قطعنا سوى نصف المسافة حول الجزيرة. كان هذا المكان أكبر كثيرا مما بدا لي من موقعي فوق التل السامق هذا الصباح. وعلى كثرة ما بحثت وفتشت لم أجد أي ماء، ولا طعام. لم أكن أستطيع الاستمرار في السير، ولا ستلا، كانت ترقد متمددة بجواري على الرمال وهي تلهث من فرط الجهد. كان لا بد لنا من قضاء الليل حيث كنا، خطر لي أن أدخل الغابة قليلا حتى أرقد على الأرض تحت الأشجار، وقد أستطيع أن أصنع لنفسي فراشا من الأوراق الجافة اللينة، فأرضية الغابة زاخرة بها، ولكنني لم أجرؤ على المغامرة بالدخول، خصوصا وظلال الليل تهبط بسرعة على الجزيرة.
وكانت أصوات العواء قد بدأت من جديد في أقاصي الغابة، فبدت أنشودة مساء رخيمة أخيرة، واستمر ذلك الغناء دون توقف حتى غشي الظلام الجزيرة كلها. وكانت أصوات أزيز وأنين الحشرات (أو ما افترضت أنها حشرات على أية حال) تصلني من الغابة. وسمعت أصوات نقر أجوف، مثل أصوات طائر نقار الخشب إذا انهمك في نقر جذع شجرة بمنقاره. وسمعت أصوات صرير وخدش ونخر وحز مثل نقيق الضفادع، كانت فرقة الغابة الموسيقية كلها تضبط أوتارها، ولكن مصدر خوفي لم يكن الأصوات، بل العيون الخفية مثل الأشباح، كنت أريد أن أبتعد قدر طاقتي عن تلك العيون، فوجدت كهفا صغيرا في أحد طرفي الشاطئ، أرضيته من الرمل الجاف.
واستلقيت على الأرض وحاولت النوم، ولكن ستلا لم تسمح لي بالنوم، إذ ظلت تئن إلى جواري من ألم الجوع والعطش، فلم أستطع أن أنام إلا نوما متقطعا.
كانت الغابة تطن وتوقوق وتنعق، ولم يتركني البعوض طول الليل كذلك. كان يئز فوق أذني فيصيبني بالجنون، وسددت أذني بيدي حتى لا أسمع أصواته. وتكورت حول ستلا، محاولا أن أنسى أين كنت وأن أغرق نفسي في أحلامي، وتذكرت عندئذ أن اليوم عيد ميلادي، وذكرت آخر عيد ميلاد لي في الوطن مع إدي ومع مط، وحفل الشواء الذي أقمناه في الحديقة، وطيب رائحة السجق الرائعة. وخلدت إلى النوم أخيرا.
واستيقظت في الصباح وأنا أشعر بالبرد والجوع وأرتجف، وقد ملأت جسمي لدغات البعوض، واستغرقت لحظات في تذكر أين كنت وكل ما حدث لي. وغلبني فجأة إحساسي بأهوال الواقع المرير هولا بعد هول: وحدتي التامة، وانفصالي عن أمي وأبي، والأخطار المحيقة بي.
وبكيت بصوت عال لما أنا فيه من شقاء، حتى أدركت أن ستلا قد ذهبت، فخرجت أجري من الكهف، لكنني لم أجدها في أي مكان. ناديتها، وأصخت السمع، ولكن قرود الجيبون فقط هي التي أجابتني، ثم استدرت فرأيتها. كانت تقف على الصخور العالية المطلة على الكهف، شبه مختفية عن نظري، ومع ذلك فقد استطعت أن أرى أنها قد انحنت برأسها على الأرض. كانت بوضوح تركز اهتمامها على شيء ما، ومن ثم صعدت الصخور لاستجلاء الأمر.
سمعت صوتها وهي تشرب قبل أن أصل، إذ كانت تلعق الماء بانتظام وبصوت عال كشأنها دائما، بل إنها لم ترفع رأسها حين اقتربت منها، وعندها رأيت أنها تشرب من وعاء صغير؛ وعاء من الصفيح القديم، ثم لاحظت وجود شيء غريب على رف مسطح من الصخر فوقها.
وتركت ستلا تهنأ بالارتواء وتسلقت صخورا أخرى لفحص الموضوع. كان على الرف وعاء آخر به ماء، وبجواره بعض خوص النخيل المرصوص على الصخرة وشبه مغطى بوعاء مقلوب من الصفيح. وجلست وشربت الماء فورا دون أن أتوقف لالتقاط أنفاسي. لم أشرب في حياتي ماء أطيب مذاقا من هذا الماء. كنت لا أزال ألهث، لكنني أزحت الغطاء الصفيح. سمك! شرائح رقيقة من السمك الأبيض شبه الشفاف، عشرات منها، مصفوفة بعناية فوق الخوص، وخمس أو ست بل سبع موزات حمراء صغيرة. موز أحمر!
بدأت بأكل السمك، متلذذا بكل شريحة ثمينة على حدة، لكنني كنت، حتى أثناء الأكل، أنظر حولي بحثا عن أي ارتجاف لأوراق الأشجار على حافة الغابة ينبئني بما وراءه، أو عن آثار أقدام في الرمال. لكنني لم أر شيئا. ولكن لا بد أن شخصا ما قد أحضر هذا كله من أجلي، لا بد أن يكون هناك شخص ما، لا بد أن شخصا ما يراقبني. ولم أكن واثقا إن كان علي أن أخاف من هذا الاكتشاف أو أن أطير فرحا به.
لكن ستلا كانت تقاطع أفكاري. كانت تصدر نشيجا يثير الأسى وهي واقفة تنظر إلي من الصخرة من تحتي، وكنت أعرف أنها لا تطلب الحب أو التسرية. كانت تلتقط كل شريحة سمك ألقيها إليها، وتلتهمها دفعة واحدة وتنتظر شريحة أخرى، وقد مال رأسها إلى جانبها، وانتصبت إحدى أذنيها. وبعد ذلك كنت آكل شريحة وألقى لها بشريحة. لم تكن نظراتها المستعطفة تسمح لي بغير هذا.
لم يكن السمك مطبوخا، لكنني لم آبه. لم يكن جوعي الشديد يسمح لي بأن آبه، وكذاك كانت ستلا. أما الموز الأحمر فقد احتفظت به لنفسي. وأكلت جميع الموزات. لم تكن مثل الموز الذي اعتدناه في الوطن، بل كانت ذات مذاق أحلى بكثير، وأكثر عصارة، وأشهى وألذ كثيرا. كان يمكنني أن آكل عشر موزات أخرى.
وعندما انتهيت من الطعام وقفت وألقيت نظرة فاحصة على الغابة. إن من أسدى إلي هذا المعروف - مهما يكن، ورجلا كان أو امرأة - لا بد أن يكون قريبا مني. كنت واثقا أنه لا يوجد ما يدعوني للخوف. وكان علي أن أتصل به اتصالا ما، فوضعت يدي كالبوق حول فمي وجعلت أهتف مرارا «شكرا لك! شكرا لك! شكرا لك!» وترددت أصداء كلماتي في أرجاء الجزيرة. وفجأة سرت الحياة في الغابة وانطلقت الأصوات: نشاز عظيم من الغناء والنعيب والعواء والنعيق والنقيق. وجعلت ستلا ترد عليها بنباحها الشديد. وأما أنا فأحسست بالفرح، والزهو، والسعادة، والنشوة. وجعلت أتواثب وأنا أضحك وأضحك، حتى تحولت ضحكاتي إلى دموع الفرح. لم أكن وحدي في هذه الجزيرة! ومهما يكن ذلك الشخص فهو يضمر لي الود. وإلا فلماذا أطعمنا؟ ولكن لماذا لا يظهر نفسه؟
وقلت في نفسي إنه لا بد أن يعود ليأخذ الأوعية. وقررت أن أترك له رسالة. وجدت حجرا حاد الطرف فانحنيت، ونقشت رسالتي على الصخرة بجوار الأوعية، وهي: «شكرا لك. اسمي مايكل. سقطت من سفينة. من أنت؟»
وقررت بعد ذلك أن أبقى على الشاطئ طول ذلك النهار، قريبا من كهفي والصخرة التي تطل عليه حيث ترك صاحبنا السمك لنا . لا بد ألا تغفل عيني عنها، حتى أستطيع على الأقل أن أشاهد الذي ساعدني.
وانطلقت ستلا تجري أمامي فنزلت البحر، وهي تنبح لي كي تدعوني لمشاركتها. لم أكن بحاجة إلى إقناع. فألقيت بنفسي في الماء وأنا أتواثب وألهو وأهتف وأضربه بيدي ورجلي، وكانت هي أثناء مرحي الطليق تنطلق سابحة لا تلوي على شيء. كانت تبدو عليها سيماء الجد دائما عندما تسبح، رافعة ذقنها، وتضرب الماء بقوائمها في ثقة.
كان البحر ساجيا هادئا ولا تكاد ترى فيه أدنى حركة للموج. لم أجرؤ على السباحة في المنطقة العميقة، فلقد نلت ما يكفيني العمر كله من جراء ذلك! وخرجت من البحر أشعر بالنظافة والانتعاش والحيوية - خرجت شخصا جديدا. كان البحر مصدر شفاء عظيم. كانت آثار لذع البعوض ما زالت موجودة ولكنها لم تعد تؤلمني.
وقررت اكتشاف المزيد من منطقة الشاطئ، وحتى آخره إذا استطعت، بشرط ألا يغيب كهفي عن بصري لحظة واحدة. كانت هنا قواقع بحرية، ملايين القواقع، بعضها ذهبي اللون وبعضها وردي، ملقاة في صفوف طويلة بحذاء الشاطئ، وقبل وقت طويل شاهدت ما بدا لي من مسافة بعيدة نتوءا صخريا مسطحا لا يخرج إلا قليلا عن مستوى الرمال. وكانت ستلا تخمش الأرض بحماس في طرفه، واتضح أنه لم يكن من الصخر على الإطلاق بل كان لوحا معدنيا طويلا علاه الصدأ - والواضح أنه كان كل ما بقي من جانب هيكل سفينة غدا الآن دفينا في أعماق الرمال، وقلت في نفسي ترى ماذا كانت تلك السفينة، وكم مضى من الزمن على تحطمها. ترى هل دفعتها عاصفة رهيبة نحو الجزيرة؟ هل نجا من ركابها أحد؟ أيمكن أن يكون أحدهم مقيما هنا حتى الآن؟ وانحنيت على الرمل وتحسستها بيدي. وعندها لاحظت وجود قطعة من الزجاج الشفاف فوق الرمل على مسافة قريبة، وربما كانت ما بقي من إحدى الزجاجات. كانت بالغة السخونة فلم أستطع أن ألمسها، ناهيك بأن أمسكها بيدي.
وخطر لي خاطر كالبرق. كان إدي قد علمني الطريقة، وكنا جربناها في فناء المدرسة ، مختبئين خلف صناديق القمامة حيث لا يشاهدنا أحد. قطعة من الورق وشظية من الزجاج والشمس، وأشعلنا النار! لم تكن لدي أية أوراق، ولكن أوراق الشجر تصلح. وانطلقت أجري على الشاطئ وجمعت ما استطعت أن أجده من تحت الأشجار؛ قطع من العصى والأغصان وشتى أنواع ورق الشجر - ما رق منها - حتى أصبح مثل ورق الكتابة وجف جفافا تاما. ووضعتها في كومة صغيرة على الرمل وجلست بجوارها. وأمسكت بقطعة الزجاج في يدي بالقرب من ورق الشجر وضبطت الزاوية حتى تجمع ضوء الشمس. كان علي أن أجلس ساكنا، بل ساكنا تماما، وأنتظر أول بشائر الدخان.
وجلست طويلا، وجاءت ستلا فأزعجتني، إذ كانت تريد أن تلعب، فدفعتها بعيدا عني، وذهبت آخر الأمر ممتعضة واجمة، وجعلت تتمدد وهي تتنهد في ظل أشجار النخيل، كانت حرارة الشمس حارقة، ولكن لم يحدث شيء. وبدأت ذراعي تؤلمني، وهكذا أقمت هيكلا من الغصون فوق أوراق الشجر، ووضعت الزجاجة فوقه، وقبعت بجواره وانتظرت. ولكن لم يحدث شيء أيضا.
وفجأة هبت ستلا من رقادها، وفي حلقها صوت زمجرة عميقة. والتفتت وانطلقت تجري نحوي، ثم استدارت كي توجه نباحها الغاضب إلى الغابة، ثم رأيت ما أزعجها.
كان تحت الأشجار ظل يتحرك قادما بخطى متثاقلة نحونا. كان قردا، قردا عملاقا، لم يكن من قرود الجيبون على الإطلاق. كان يمشي الهوينى على أطرافه الأربعة، لونه بني؛ بني ضارب إلى الصفرة. كان سعلاة، أو ما يسمى أيضا إنسان الغابة، وكنت واثقا من ذلك. وقعد ذلك القرد على مبعدة خطوات معدودة مني وأخذ يحدق في، لم أجرؤ على الحركة، ولما شاهد ما يكفيه، حك رقبته دون اهتمام واستدار، ثم عاد يسير على أربع ببطء عائدا إلى الغابة. واستمرت ستلا في زمجرتها حتى بعد أن مضى بفترة طويلة.
إذن كانت هنا السعالي أيضا إلى جانب قردة الجيبون. بل ربما كانت السعالي هي التي كانت تصدر أصوات العواء لا قرود الجيبون، ربما كنت مخطئا منذ البداية. كنت شاهدت ذات يوم فيلما يلعب فيه كلينت إيستوود دور البطولة ويصور أحد السعالي، كان ذلك القرد في الفيلم ودودا إلى حد كبير. وتمنيت أن يكون هذا مثله.
ثم رأيت الدخان. شممت رائحة الدخان. ظهر بصيص نار وسط كومة الأوراق التي وضعتها، فقبعت على الفور وجعلت أنفخ فيها نفخا لطيفا. وتحول البصيص إلى ألسنة لهب، فأضفت المزيد من ورق الشجر، ثم وضعت غصنا جافا أو غصنين، ثم بعض الأغصان الكبيرة. وأشعلت النار! أشعلت النار!
وانطلقت مسرعا في الغابة فجمعت كل الركام الذي وجدته، كل قشور جوز الهند الجافة، وكل ما وجدته من حطب. وجعلت أتحرك جيئة وذهابا حتى أصبحت النار تتأجج ولها عجيج مسموع كالجحيم! كان الشرر يتطاير عاليا في الهواء، والدخان يرتفع وسط الأشجار من خلفي. وعرفت أنني لا أستطيع أن أستريح الآن، فالنار تحتاج المزيد من الحطب، وقطعا أكبر من الخشب، بل ومن فروع الأشجار، وأن علي أن أذهب لإحضار ذلك حتى أتأكد أنني جمعت ما يلزم لاستمرارها، وجمعت الكفاية من المخزون.
ولاحظت أن ستلا رفضت أن تصحبني إلى الغابة، وبقيت في مكانها تنتظرني بجوار النار. وكنت أعرف السبب خير المعرفة، بل إنني كنت أنا نفسي أحذر عودة السعلاة، لكنني كنت أركز انتباهي كله على النار فلم أكترث كثيرا لذلك القرد.
كانت كومة الحطب التي جمعتها قد أصبحت هائلة، لكنني مع ذلك ذهبت إلى الغابة مرة أخيرة، خشية أن تلتهم النار كل شيء فتنطفئ بأسرع مما توقعت. وكان علي أن أذهب إلى مسافة أبعد في الغابة، وهو ما استغرق وقتا أطول.
كنت خارجا من وسط الأشجار، وقد حملت مقدارا كبيرا من الحطب بين يدي، حين أدركت أن الدخان المتصاعد قد قل، وأن ألسنة اللهب اختفت، وعندها، ومن خلال الدخان، شاهدت القرد، تلك السعلاة. كان يقبع على الأرض، وقد أخذ يهيل الرمل على النار. ونهض وسار نحوي، فانحسرت عنه سحائب الدخان واتضحت حقيقته. لم يكن سعلاة على الإطلاق: كان رجلا.
الفصل الخامس
أنا، كنسوكي
كان رجلا ضئيل الجرم، لا يزيد طوله عن طولي، ولم أشهد في حياتي عجوزا أكبر منه سنا . لم يكن يرتدي إلا سروالا باليا ذا حزام في وسطه، وتحت الحزام سكين كبيرة، كان نحيفا أيضا، وفي بعض أجزاء جسمه - تحت إبطيه، وحول رقبته وبطنه - كان جلد بشرته النحاسية مجعدا مطويا كأنما انكمش جسمه وتقلص داخل جلده. وأما الشعرات القليلة في رأسه وذقنه فكانت طويلة ونحيلة وبيضاء.
أدركت على الفور أنه ثائر، فذقنه ترتعش، وعيناه اللتان تدلى جفناهما غاضبتان ترمقانني بنظرات اتهام، وصرخ صرخة حادة في وجهي وهو يقول: «داميدا! داميدا!» كان جسده كله يرتجف من فرط الغضب. وتراجعت وهو يهرول نحوي على الشط، ملوحا بعصاه في انفعال شديد، ويخاطبني بحماس. وعلى الرغم من تقدمه في السن ونحافته الشديدة، كان يتقدم نحوي بسرعة، بل يكاد يجري. وهتف من جديد «داميدا! داميدا!» لم أكن أعرف معنى تلك الكلمة، وربما كانت صينية أو يابانية.
كنت أوشك أن أستدير وأجري عندما رأيت ستلا التي امتنعت بغرابة عن أن تنبحه على الإطلاق، تتركني فجأة وتجري متواثبة نحوه. كان شعر رقبتها منتصبا، لكنها لم تكن تزمجر، ودهشت حين شاهدتها تحييه كأنها تحيي صديقا قديما لم تره من زمن طويل.
وحين وقف لم يكن يبعد عني سوى خطوات معدودة، وقفنا نحدق في بعضنا البعض صامتين لحظات قليلة. كان يتكئ على عصاه، ويحاول التقاط أنفاسه. ثم سألني: «أمريكاجين؟ أمريكاجين؟ أمريكاجين؟ إيكوكويين؟ بريطاني؟»
قلت له: «نعم»، وأحسست بالراحة لأنني فهمت شيئا ما أخيرا. وقلت: «إنجليزي، أنا إنجليزي.»
وبدا أنه يكافح حتى يخرج الكلمات من فمه، وهو يقول: «خطأ. النار خطأ. تفهم؟ لا نار.» وبدا أنه أقل غضبا الآن. «ولكن والدتي، والدي، قد يشاهدان النار، يشاهدان الدخان» كان واضحا أنه لم يفهمني. فأشرت إلى البحر لأشرح له الأمر قائلا: «هناك! إنهما هناك. سوف يشاهدان النار ويحضران لأخذي.»
وعادت لهجته العدوانية على الفور فصرخ قائلا: «داميدا!» وهو يلوح بعصاه في وجهي. «لا نار!» وظننت لحظة أنه سوف يهاجمني، لكنه لم يفعل، بل بدأ ينبش الرمل بعصاه عند قدمي. كان يرسم خطوط شيء ما، ويتفوه بألفاظ غير مفهومة طيلة الوقت . وبدا ما رسمه في البداية مثل ثمرة فاكهة من نوع ما، ربما مثل لوزة، أو حبة الفول السوداني. وعندها فهمت، كانت خريطة للجزيرة. وعندما انتهى جلس على ركبتيه بجوار الرسم، وأهال كومتين من الرمال، كومة عند كل طرف، كانتا تمثلان التلين. وبعدها رسم، بدقة شديدة، خطا مستقيما يقسم الرسم نصفين ويفصل نصف الجزيرة الأصغر عن نصفها الأكبر.
وقال: «أنت يا غلام، أنت هنا.» وأشار إلى كهفي في أحد طرفي الشاطئ. وأضاف «أنت»، وهو يغرس إصبعه في كومة الرمل التي تمثل التل الذي أقيم عنده، ثم بدأ يكتب شيئا على الخريطة الرملية كلها، لم تكن الحروف حروفا على الإطلاق، بل كانت رموزا - شتى ألوان العلامات والأهرام والصلبان والخطوط الأفقية والمائلة والخربشة - وكتب ذلك كله في الاتجاه العكسي، في أعمدة، من اليمين إلى الشمال.
وجلس على عجزه ودق صدره، قائلا: «كنسوكي. أنا كنسوكي. جزيرتي»، ثم هوى بيده على الرسم بحدة مثل السكين فقسم الجزيرة قسمين، قائلا: «أنا، كنسوكي، هنا. أنت يا غلام هنا.» ولم يكن لدي الآن أدنى شك فيما يعنيه. وفجأة وقف من جديد وأشار لي بعصاه أن أبتعد. «اذهب يا غلام. لا نار. داميدا. لا نار. هل تفهم؟»
لم أناقشه، بل مضيت في سبيلي فورا. وعندما جرؤت بعد فترة أن ألتفت وأنظر، كان لا يزال راكعا بجانب ما بقي من النار، وهو يهيل المزيد من الرمال عليها.
كانت ستلا لا تزال في صحبته. فصفرت أستدعيها. وجاءتني، وإن كان ذلك بعد فترة. كان من الواضح أنها ترفض مفارقته. كان سلوكها بالغ الغرابة، فلم تكن ستلا أرتوا تأنس في يوم من الأيام إلى صحبة الغرباء قط! وأحسست أنها خذلتني، بل وأنها خانتني قليلا.
وعندما نظرت إلى الوراء في المرة التالية لم تكن النار تصدر أي دخان، فقد انطفأت تماما، واختفى الرجل الهرم من ناظري.
ومكثت بقية ذلك اليوم في كهفي. كنت، لسبب ما، أشعر بالأمان فيه. وربما كنت بدأت أعتبره بيتي. لم يكن لي بيت سواه. وأحسست بما يحس به اليتيم، من تخلى الناس عنه فأصبح وحيدا في الدنيا. كنت أشعر بالخوف، وبالجوع، وبالحيرة الغامرة.
وجلست في الكهف أحاول أن أجمع شتات أفكاري. ففي حدود ما أعرف - وإن لم أكن واثقا من صحة ذلك - لم يكن في هذه الجزيرة سوى اثنين، العجوز وأنا. وفي هذه الحالة، يقول المنطق إنه لا أحد سواه قد ترك لي السمك والموز والماء. ولا بد أن يكون ذلك بادرة عطف، دليلا على الصداقة، أو على الترحيب؟ ومع ذلك، فإن هذا الرجل نفسه قد نفاني الآن إلى طرف من طرفي الجزيرة كأنني مجذوم، وبين لي بوضوح وجلاء أنه لا يرغب في أن نلتقي مرة أخرى. هل ينحصر السبب في أنني استوقدت نارا؟ كل ذلك يجافي المنطق تماما، إلا إذا كان الرجل مخبولا فقد عقله تماما.
وجعلت أتأمل وأتملى موقفي طويلا. لقد ألقت بي السفينة وحدي على جزيرة في مجاهل الدنيا، وربما كان رفيقي فيها مجنونا، إلى جانب حشد من القرود التي تعوي (ومن بينها سعلاة واحدة على الأقل) - والله أعلم بما تخبئه الغابة وتخفيه عني أيضا - وملايين البعوض التي تلتهمني حيا كل ليلة، كنت واثقا من شيء واحد: يجب علي أن أهرب، ولكن كيف؟ كيف يمكنني أن أخرج من هذه الجزيرة إلا إذا استطعت أن أجعل إحدى السفن العابرة تنتبه لوجودي؟ البديل أن أبقى هنا لآخر عمري. وهو ما لا أحتمل التفكير فيه.
وتساءلت في نفسي عن الزمن الذي قضاه ذلك الرجل في الجزيرة، وعما أتى به إليها أول الأمر. ترى من هو؟ وبأية سلطة يمنح نفسه الحق في أن يأمرني وينهاني؟ ولماذا أطفأ النار التي أوقدتها؟
وتكورت في كهفي، وأغمضت عيني، وتمنيت لو عدت وحسب إلى الوطن، أو إلى السفينة بيجي سو مع أمي وأبي. وكادت هذه الأحلام الرائعة أن تأتيني بالنوم، ولكن البعوض والعواء الصادر من الغابة سرعان ما عادا بي إلى الوعي، حتى أواجه من جديد كل العواقب الرهيبة لما أنا فيه من محنة مزرية.
وخطر لي فجأة أنني سبق لي أن شاهدت وجه الرجل العجوز في مكان ما. ولم أعرف كيف يكون ذلك، وبينما كنت راقدا أقلب هذا الأمر على وجوهه، أحسست بقطعة الزجاج في جيبي تضغط على فخذي، واستبشرت فجأة. كانت زجاجة إشعال النار لا تزال معي، لسوف أوقد النار من جديد، ولكن هذه المرة في مكان لا يستطيع اكتشافه. لسوف أنتظر مقدم سفينة، ولسوف أنجح في البقاء على قيد الحياة حتى ذلك الحين، لقد نجح العجوز من قبلي في هذا المكان. فإذا كان قد نجح فسوف أنجح، وأستطيع أن أعتمد على نفسي أيضا، ولن أحتاج إليه.
شعرت من جديد بالجوع والعطش. سأذهب غدا إلى الغابة وأحضر الطعام لنفسي. وسوف أجد الماء. وبطريقة ما سوف أصيد السمك. فأنا ماهر في صيد السمك. وما دمت استطعت صيد السمك في مياه الخزان وعلى ظهر السفينة بيجي سو، فسوف أصيده هنا أيضا.
وقضيت تلك الليلة ألعن أسراب الحشرات الطنانة التي تنقض علي، وأصوات الثرثرة في الغابة التي لا تسكت، ولا تريدني أن أسكت. وظللت أتصور مياه الخزان في خيالي، ووالدتي وهي تضحك لابسة قبعة ربان السفينة. وأحسست بالدموع في عيني وحاولت ألا أفكر فيها. وفكرت في الرجل، وكنت لا أزال أحاول أن أتذكر اسمه عندما غلبني النعاس.
واستيقظت وعرفت على الفور أنه جاءنا. كان الأمر يبدو كالحلم. ويبدو أن ستلا رأت في منامها الحلم نفسه، إذ بدأت فورا تتواثب فوق الصخور المطلة على الكهف. ووجدت ما كانت تتوقع بوضوح أن يكون موجودا؛ إناء الماء الخاص بها وقد امتلأ من جديد. وكان هناك أيضا، على الرف الصخري المرتفع وراءها، نفس الصفيحة المقلوبة وبجوارها وعاء الماء الخاص بي، تماما مثلما حدث في صباح اليوم السابق، كنت أعرف أنه سيكون ممتلئا، وكنت أعرف وأنا أزيح الصفيحة أن الطعام سيكون موجودا.
وجلست فوق الصخرة واضعا ساقا على ساق، أمضغ بنهم شرائح السمك وألقي بقطعة منه إلى ستلا حتى تلتقطها، وعندها أدركت المعنى الذي كان يرمي إليه بذلك تماما. لم نكن أصدقاء، بل ولن نكون أصدقاء. فهو يريدني أن أبقى على قيد الحياة، وكذلك ستلا، بشرط أن أتبع القواعد التي يضعها. فكان علي أن ألتزم بجانبي من الجزيرة، وألا أشعل النار أبدا. كان كل ذلك واضحا تماما.
ومع تضاؤل أي رجاء حقيقي في الإنقاذ العاجل، ازداد تقبلي لحالي يوما بعد يوم. كنت أعرف أنه لا خيار لي سوى أن أقبل شروطه، وأتبع النظام الذي وضعه، مؤقتا. كان قد وضع الآن الحدود الجغرافية، إذ رسم على الرمال خطا يمتد من الغابة إلى البحر على جانبي الجزيرة، وكان كثيرا ما يجدده، كلما احتاج إلى تجديد. كانت ستلا تتجاوزه بطبيعة الحال، فلم أكن أستطيع أن أمنعها، لكنني لم أتجاوزه. لم تكن لذلك قيمة. وعلى الرغم من العداء الذي رأيته في عينيه والسكين الضخمة التي شاهدتها في حزامه، فلم أكن أتصور حقا أنه يمكن أن يؤذيني يوما ما لكنني كنت أخشاه، وبسبب هذه الخشية، ولأنني كنت أعرف أنني سأفقد الكثير، لم أكن أريد أن أواجهه، فهو على أية حال يقدم لنا كل ما نحتاجه من طعام وماء كل يوم.
كنت قد بدأت العثور على بعض الثمار الصالحة للأكل بنفسي، وخصوصا ثمرة ذات قشرة شائكة (اكتشفت فيما بعد أن اسمها «رامبوتان» أي ذات الشعر)، كان طعمها لذيذا لكنني لم أكن أجد ما يكفي منها، كما أن ستلا ترفض أن تأكلها. كنت أحيانا أجد ثمار جوز الهند السليمة، ولكن لبنها ولحمها كثيرا ما كانا فاسدي المذاق. وحاولت مرة أو مرتين أن أتسلق بعض أشجار جوز الهند، لكنها كانت بالغة الارتفاع، وسرعان ما توقفت عن المحاولة.
حاولت صيد السمك في المياه الضحلة، بعد أن أعددت لذلك حربة بدائية، وهي عصا طويلة سننت طرفها بالصخور، ولكن السمك كان يفلت مني لبطء ضربتي. كانت المياه تزخر بالأسماك في حالات كثيرة، لكنها كانت بالغة الصغر وشديدة السرعة. وهكذا، وسواء شئنا أم أبينا، كنا لا نزال في مسيس الحاجة إلى حصة الطعام اليومية من السمك والفواكه والماء التي كان العجوز يأتي بها إلينا.
وكنت قد بحثت في طرف الجزيرة الذي أقيم فيه عن الماء العذب فلم أجد أيا منه. وكثيرا ما خطر لي أن أتخطى الحدود فأدخل جانب الغابة المخصص للعجوز، لكنني لم أجرؤ على ذلك. كنت في الغالب الأعم ألتزم بعدم الابتعاد عن مسالك الغابة.
لم يكن ما يمنعني من المغامرة بدخول جانب الغابة المخصص للرجل العجوز يقتصر على القوانين التي وضعها، ولا على عواء القردة - وهو ما انتهيت إلى إدراك أنه تحذير أو إنذار - بل كان يضم أيضا خوفي من السعلاة. كان ذلك القرد يبدو هادئا مسالما، ولكنني لم أكن أستطيع التنبؤ بما عساه أن يفعل هو وأصدقاؤه إذا وجدونا في منطقتهم. وكنت أتساءل في نفسي أيضا عما تخفيه الغابة عن عيني من مخلوقات أخرى، تتربص بي أو تكمن لي في الظلمة الرطبة داخل الغابة. فإذا كانت الأصوات الدائمة الصادرة من الغابة تصلح أساسا للحكم عليها، قلت إن ذلك المكان يزخر بشتى الأنواع الزاحفة من المخلوقات الرهيبة.
كان مجرد التفكير في السعلاة وأهوال مجاهل الغابة كافيا لردعي، وكافيا لوأد فضولي وشجاعتي. وهكذا التزمت في أغلب الأوقات بالبقاء على الشاطئ، وفي كهفي، وبطريق الغابة الموصل إلى قمة التل الخاص بي.
ومن موقعي المرتفع على ذلك التل كنت أستطيع أحيانا أن ألمح العجوز. كنت أراه كثيرا في الصباح وهو يصيد السمك برمحه في المياه الضحلة، وكان أحيانا وحده، وإن كان الأعم أن تصحبه مجموعة من السعالي، وكانت هذه القردة تجلس على الشاطئ ترقبه، وكان عددها يبلغ ذات يوم أربعة عشر أو خمسة عشر. وأحيانا كان يحمل أحد صغارها على ظهره، وكان حين يمشي وسطها، يبدو كأنما كان واحدا منها.
وحاولت مرارا أن أظل مستيقظا حتى يأتي العجوز ليلا بالطعام، لكنني لم أفلح قط. لم أستطع قط أن أسمعه على الإطلاق. ولكنني كنت أجد الماء كل صباح، والسمك (وكثيرا ما كان بطعم السمك المدخن هذه الأيام، وهو ما كنت أفضله). ولكن الفاكهة كانت تختلف من يوم ليوم. وكانت كثيرا ما تفوح برائحة غريبة لا تستهويني إطلاقا. لكنني كنت آكلها. فإلى جانب الموز وجوز الهند والنبق، كان يترك لي أحيانا فواكه تسمى «فاكهة الخبز» و«فاكهة البحارة» (وإن كنت آنذاك لا أدري، بطبيعة الحال، ما يمكن أن تكون). كنت آكل كل شيء، ولكن ليس بنفس النهم القديم، فكنت أحاول ادخار بعض الفواكه للعشاء، لكنني لم أكن قادرا قط على إجبار نفسي على ادخار الموز الأحمر، إذ كان مذاقه الرائع يرغمني على التهامه فورا.
كان كابوسي المتكرر هو البعوض ليلا، فمنذ أن يبدأ الغسق، يشرع في البحث عني، فيئز ويطن حولي، ويأكلني حيا. لم أكن أجد مهربا منه. كانت كل ليلة عذابا طويلا ممدودا، وكنت في الصباح أحك بشرتي ألما حتى أجرحها في عدة أماكن. وقد تورمت بعض اللدغات، وخصوصا في رجلي، فأصبحت دمامل حمراء لها رءوس صفراء، ولم أكن أجد الراحة من الألم إلا بغمر جسدي كثيرا في مياه البحر الباردة.
وحاولت الرقاد في كهف آخر، أعمق وأظلم، ولكن الرائحة كانت بشعة. وما إن اكتشفت أنه يزخر بالخفافيش، حتى تركته على الفور. وأينما رقدت كان البعوض لا يتأخر في اكتشاف مكاني. وساء الحال حتى أصبحت أخشى مقدم الليل كل يوم، وكنت أتوق إلى الصباح، إلى برودة البحر وبرد النسيم على قمة التل الذي يخصني.
وهناك كنت أقضي سحابة يومي، جالسا على القمة نفسها، أتطلع إلى البحر، وأنا أتمنى، وأحيانا أدعو الله أيضا، أن تظهر في الأفق سفينة. كنت أغمض عيني تماما وأدعو الله أطول مدة ممكنة ثم أفتحهما من جديد، وكنت أحس في كل مرة، بل أعتقد حقا، أن الله سوف يستجيب لدعواتي، وأنني حين أفتح عيني هذه المرة سوف أجد بيجي سو وهي تبحر عائدة لإنقاذي، ولكن المحيط الشاسع العظيم كان دائما خاويا، وخط الأفق مستمرا دون انقطاع. كنت دائما أحس بخيبة الأمل، بطبيعة الحال، وكثيرا ما يصيبني الاكتئاب، لكنني لم أكن أصل إلى الإحباط التام في تلك الأسابيع الأولى.
كنت أواجه مشكلات أخرى أيضا بسبب لفح الشمس الحارق. ولم أتعلم إلا بعد وقت طويل أن أظل مرتديا جميع ملابسي دائما. كنت صنعت لنفسي قبعة لحماية وجهي ورقبتي من الشمس. كانت القبعة عريضة جدا وتشبه القبعات الصينية، صنعتها من خوص النخيل، بعد تضفيره في بعضه البعض، وكنت سعيدا إلى حد كبير بما صنعته يداي.
واكتشفت أن لفح الشمس الحارق من المنغصات التي أستطيع تفاديها، وأن ماء البحر قادر على تلطيف معاناتي. فعند الظهيرة كنت أهبط من التل قاصدا الاحتماء في كهفي من لظى الهجير وقيظ شمس العصر، وبعدها أذهب للسباحة. وكانت هذه هي اللحظة التي تتوق إليها ستلا كل يوم. كنت أقضي ساعات طويلة أقذف لها فيها بالعصي حتى تحضرها. كانت تستمتع بذلك، والحق أنني كنت أيضا أستمتع به. كان ذلك يمثل ذروة نشاط اليوم. لم نكن نتوقف إلا عندما يهبط الظلام - وكان يهبط دائما بسرعة تدهشني - ويضطرنا إلى العودة من جديد إلى معركتي الليلية مع مصاصات الدماء التي تعذبني.
وذات يوم، بعد قضاء صباح عقيم آخر في التطلع إلى البحر من فوق التل، كنت خارجا مع ستلا من الغابة حين لمحت شيئا فوق الرمل قريبا من كهفنا. بدا لي على البعد قطعة من ركام الخشب الطافي. ووصلت ستلا إليه قبلي وجعلت تتشممه في حماس. وعندما اقتربت أدركت أنه ليس خشبا على الإطلاق، بل حصيرة من القش مطوية. ونشرتها فوجدت داخلها ملاءة مطوية بعناية، ملاءة بيضاء. إذن كان يعرف! كان الرجل العجوز يعرف ألوان معاناتي ومنغصاتي، ويدرك كل ما أحتاج إليه. لا بد أنه كان يراقبني طول الوقت، وعن كثب أيضا. لا بد أنه رآني وأنا أحك بشرتي. وشاهد العلامات الحمراء في رجلي وعلى ذراعي، وأبصرني وأنا أجلس في البحر كل صباح لتخفيف آلام اللدغات. أفلا يعني هذا أنه صفح الآن عن إشعالي النار؟
حملت الحصيرة إلى داخل الكهف، ونشرتها، ولففت جسمي بالملاءة، وظللت في مكاني لا أفعل سوى أن أقهقه فرحا، كنت أستطيع أن أغطي وجهي بالملاءة أيضا، وإذن فلن تستطيع تلك البعوضات الملعونة أن تجد سبيلا إلى لدغي الليلة. لسوف تبيت جائعة هذه الليلة.
وذهبت جريا على الشاطئ حتى وصلت إلى خط الحدود الذي رسمه فوقفت، وجعلت من يدي بوقا أمام فمي وهتفت: «شكرا لك! شكرا على سريري! شكرا لك! شكرا لك!» لم أكن في الواقع أتوقع ردا، ولم يأتني الرد على أية حال. كنت آمل أن يأتي هو نفسه، لكنه لم يأت. وهكذا كتبت عبارات الشكر في الرمل إلى جانب خط الحدود ووقعته باسمي. لكم كنت أرجو أن أراه من جديد، وأن أتحدث إليه، وأن أسمع صوتا بشريا. كانت ستلا أرتوا أروع رفيق لي، تحسن كتمان السر، ورائعة لتبادل الأحضان، ورائعة في اللعب معي، ولكنني كنت أفتقد بشدة صحبة البشر؛ والدتي، ووالدي، اللذين كانا غائبين عني الآن، وربما إلى الأبد. كنت أتشوق لرؤية الرجل العجوز، وللحديث معه، حتى ولو كان مخبولا بعض الشيء، وحتى مع أنني لم أكن أستطيع أن أفهم الكثير مما يقوله.
كنت قد اعتزمت تلك الليلة أن أظل مستيقظا حتى يأتي، ولكنني كنت أحس بالراحة في فراشي الجديد على الحصيرة، وأستمتع بالالتفاع بالملاءة التي تحميني، فسرعان ما جاءني النوم ولم أصح مرة واحدة طول الليل.
وفي صباح اليوم التالي، بعد إفطاري الذي كان يتكون من السمك وفاكهة البحارة وجوز الهند، قمت أنا وستلا بصعود التل الخاص بي إلى قمته، وقد أصبحت أطلق عليه اسم «تل المراقبة»، وأما التل الآخر فقد أسميته «التل الخاص به» وحسب. كنت أقوم بإصلاح قبعتي الصينية، وتغيير بعض الخوص فيها، إذ لم تكن، فيما يبدو، قادرة على التماسك معا فترة طويلة، ونظرت إلى البحر فإذا بي أرى سفينة في الأفق. لم أكن مخطئا، كان ما أرى هو الصورة الجانبية الطويلة لإحدى الناقلات العملاقة.
الفصل السادس
أبوناي!
انتصبت واقفا على الفور، وأنا أصيح بأعلى صوت وألوح بيدي في جنون. وتواثبت في مكاني، وأنا أصرخ مناشدا من فيها أن يتوقفوا، أن يسمعوني، أن يروني. «أنا هنا! هنا! أنا هنا!» ولم أتوقف إلا عندما بدأ حلقي يؤلمني وعجزت عن الصياح. واستمرت الناقلة تسير ببطء وإغراء يغيظ بحذاء الأفق. لم تستدر، وأدركت عندها أنها لن تستدير. كنت أعرف أيضا أنه لن يكون فيها من ينظر تجاهنا، وحتى لو نظر أحدهم فإن هذه الجزيرة كلها لن تبدو أكثر من أكمة بعيدة غائمة على الأفق. كيف يمكنهم إذن أن يروني؟ لم يكن في وسعي سوى أن أستمر في النظر، عاجزا ومذهولا، والناقلة تمضي لا تلوي على شيء في طريقها، ويزداد ابتعادها عني حتى بدأت تختفي فوق الأفق. واستغرق ذلك الصباح كله، فكان صباحا من اللوعة الرهيبة.
وبينما كنت واقفا على قمة تل المراقبة أتطلع إلى البحر، أحسست بأن يأسي قد حل محله غضب ملتهب. لو أنه سمح لي بأن أبقي على النار، لظلت الفرصة قائمة على الأقل في أن يلمحوا الدخان. صحيح أن العجوز قد أحضر لي فراشا من حصير، وملاءة أتغطى بها، وصحيح أنه يرعاني ويبقيني على قيد الحياة، ولكنه أيضا حكم علي بالحبس.
وعندما غاب آخر أثر للناقلة عن بصري، قطعت على نفسي عهدا بألا أدع مثل هذه الفرصة تفلت من يدي مرة أخرى. وتحسست جيبي فوجدت أنني ما زلت أحتفظ بقطعة الزجاج التي أشعل بها النار. وصممت أن أشعل النار، لسوف أستوقد نارا أخرى، ولكن ليس على الشاطئ حيث يستطيع العثور عليها بل هنا فوق تل المراقبة، خلف الصخور، وبعيدا تماما عن عينه، حتى إن كانت لديه نظارات مقربة، وكان علي أن أفترض الآن أن لديه هذه النظارات. لسوف أجمع قدرا من الأخشاب يكفي لإقامة منار عظيم، لكنني لن أوقد فيه النار، بل سأتم تجهيزه وأنتظر اللحظة التي ألمح فيها إحدى السفن. كنت أقول في نفسي ما دامت هذه السفينة قد أتت فسوف تأتي سفينة أخرى، بل لا بد أن تأتي، وعندما تأتي، سأكون مستعدا بزجاجة إشعال النار، وبمخزون من أوراق الأشجار النحيلة مثل ورق الكتابة، والجافة جفافا مطلقا. ولسوف أشعل نارا عظيمة تتصاعد منها ألسنة لهيب جبارة، وترتفع منها إشارة شاهقة من الدخان، بحيث يتحتم على السفينة التالية التي يتصادف مرورها أن تلاحظها.
وهكذا لم أعد أقضي أيامي جالسا وحسب فوق تل المراقبة أنتظر، بل كنت أقضي كل ساعة هناك في بناء المنار. كنت أجر فروعا ضخمة فوق الركام الصخري من الغابة أسفله وأضعها في كومة عالية، ولكن في جانب التل المواجه للبحر، وهو المكان المثالي الذي يتيح للسفن مشاهدته عند إشعال النار فيه، وفي الوقت نفسه لا يتيح لعين العجوز الفاحصة أن تلمحه، وكنت أعتبره الآن السجان الذي يحبسني. ولا شك أنه سوف يراقبني، وكنت واثقا من ذلك كل الثقة. ولذلك حرصت على ألا يلمحني إطلاقا أثناء قيامي بإحضار الحطب وحمله، كان من المحال على أحد أن يعرف ما أفعل إلا إذا نظر من ناحية البحر، ولم تكن في البحر أية عيون ترقبني.
وقضيت عدة أيام في العمل الشاق ببناء مناري السري. وكنت قد قاربت الانتهاء منه عندما اكتشف أحدهم فعلا ما أنا بصدده، لكنه لم يكن العجوز.
كنت أحمل فرعا هائلا وأضعه فوق الكومة حين أحسست فجأة بظل يغشاني. كانت سعلاة تقف فوق الصخرة العلوية وتنظر إلي من عل، لكنني لم أكن واثقا أنها كانت نفس القرد الذي شاهدته من قبل. كان واقفا على أطرافه الأربعة، وقد تحدبت كتفاه العظيمتان، وخفض رأسه، وجعل ينظر إلي نظرة جانبية. لم أجرؤ على الحركة. كانت مواجهة صامتة، كتلك التي حدثت من قبل على الشاطئ.
واعتدل في جلسته وظل ينظر إلي باهتمام فاتر برهة من الوقت، ثم حول بصره عني، وحك وجهه في غير مبالاة، ثم انحدر هابطا التل، وإن توقف مرة واحدة ليلقي علي نظرة من فوق كتفه قبل أن يواصل سيره في ظل الأشجار ويبتعد، وخطر لي وأنا أرقبه أنه ربما كان مرسلا للتجسس علي، وربما عاد ليخبر الرجل العجوز بما شاهدني أفعله. أعرف أنها كانت فكرة سخيفة مضحكة، لكنني أذكر أنها خطرت ببالي.
وهبت عاصفة على الجزيرة تلك الليلة، عاصفة رهيبة عاتية، وكان هزيم الرعد الرهيب المصاحب للبرق عاليا، إلى جانب صخب الأمطار وزفيف الرياح، حتى استحال علي تماما أن أنام. كانت الأمواج العالية تهدر في البحر، وتلطم الشاطئ وتهز الأرض من تحتي. وفرشت حصير نومي في آخر مكان بالكهف، وكانت ستلا ترقد بجانبي، بل في أحضاني، وكم أحببت ذلك!
ولم تسكن العاصفة إلا بعد أربعة أيام كاملة، ولكن - حتى في ذروة طغيانها - كنت لا أزال أجد سلة السمك والفواكه في انتظاري كل صباح تحت صفيحتي، وهي التي كان العجوز يحشرها الآن حشرا تحت الرف الصخري. والتزمت أنا وستلا بمأوانا ومخبئنا في الكهف، ولم نكن نرى سوى سياط المطر المنهمر خارجه. وكنت أتطلع في رهبة إلى قوة الأمواج الجبارة المنحدرة من المحيط العريض، فكانت تتكور وتهوي وتتفجر وهي تتكسر على الشاطئ، كأنما كانت تحاول تقطيع الجزيرة بالضرب المتوالي ثم ابتلاعنا جميعا في جوف اليم، وكثيرا ما كنت أفكر في أمي وأبي والسفينة بيجي سو، وأتساءل في نفسي: ترى أين الجميع الآن؟ وكل ما كنت أرجوه هو أن يكونوا قد نجوا من هذا الإعصار المداري الذي شهدته، ويسمى إعصار «التايفون».
ثم حدث ذات صباح أن توقفت العاصفة فجأة مثلما هبت فجأة. وسطعت الشمس في السماء الزرقاء، واستأنفت الغابة سيمفونية أصواتها بعد انقطاعها، فخرجت من الكهف، وانطلقت فتسلقت تل المراقبة فورا؛ لأنظر إن كانت هناك سفينة، ربما تكون قد خرجت عن مسارها، وربما كانت قد أوت إلى الجزيرة كي تحتمي بها من العاصفة. لكنني لم أشاهد شيئا. وخاب أملي، لكنني - على الأقل - رأيت مناري لا يزال منتصبا. كان البلل يغمره بطبيعة الحال، لكنه كان سليما. كان البلل يغشى كل شيء. وكان من المحال إشعال النار الآن، حتى يجف كل شيء.
كان الجو حارا وخانقا طول النهار. ولم يكن من اليسير أن أتحرك على الإطلاق، بل كان التنفس عسيرا. لم يكن في وسع ستلا إلا أن ترقد وتلهث. وكان مكان الابتراد الوحيد هو البحر، فقضيت معظم ذلك النهار في الاسترخاء في الماء، متكاسلا، وإن كنت أحيانا أرمي بعصي حتى تحضرها ستلا وتشعر بالسعادة.
كنت شبه راقد في الماء، لا أفعل سوى أن أطفو مع أحلام اليقظة، حين سمعت صوت الرجل العجوز. كان يجري على الشاطئ مهرولا نحوي ، وهو يصيح بنا ويلوح بعصاه بشدة في الهواء. وقال الرجل: «ياميرو! أبوناي! خطر. تفهم؟ لا سباحة.» لم يكن يبدو أنه غاضب مني، مثلما كان من قبل، وإن بدا من الواضح أن شيئا ما أزعجه.
ونظرت حولي. كان صدر البحر لا يزال يصعد ويهبط، وإن كان ذلك بلطف ورقة، كأنما كان يزفر آخر زفرات العاصفة، وكانت الأمواج تتهادى بفتور وتسكن منهكة على الشاطئ. لم أكن أستطيع أن أرى أي خطر خاص.
وأجبته: «ولم لا؟ ماذا هناك؟»
وكان قد ألقى عصاه على الشاطئ وجعل يخوض في الماء تجاهي من خلال الأمواج. «لا سباحة. داميدا! أبوناي! لا سباحة.» وإذا به يمسكني من ذراعي ويقودني قسرا إلى خارج ماء البحر. كانت قبضته مثل الكماشة. لم تكن هناك فائدة في المقاومة. ولم يطلق سراحي إلا عندما عدنا إلى الشاطئ. ووقف يلهث عدة لحظات. «خطر. بالغ السوء. أبوناي!» وكان يشير إلى البحر وهو يتكلم. «لا سباحة. بالغ السوء. لا سباحة. هل تفهم؟» وكان يحدق في عيني تحديقا صارما، حتى لا يدع لدي شكا في أن ما يقوله ليس مجرد نصيحة بل هو أمر لا بد لي من طاعته. ثم استدار وابتعد داخلا الغابة، بعد أن التقط عصاه مرة ثانية. وجرت ستلا خلفه، لكنني دعوتها للعودة.
وشعرت في تلك اللحظة أنني أريد أن أتحداه وأعصيه صراحة. لسوف أنزل البحر من جديد ولسوف ألهو وألعب بأقصى ما أستطيعه من صخب واستفزاز. لسوف ألقنه درسا. كان بي غضب شديد من هذا الظلم الفادح. فلقد منعني أولا من إشعال النار، ثم نفاني بعدها وحدد إقامتي في أحد طرفي الجزيرة، وهو الآن لا يسمح لي حتى بالسباحة. كنت أريد أن أشتمه بكل الشتائم التي أعرفها، لكنني لم أفعل. ولم أعد إلى السباحة في البحر أيضا. واستسلمت. سلمت له بما أراد، لأنني مرغم. فأنا في حاجة إلى طعامه وشرابه. وكان علي أن أنفذ ما يقوله حتى يجف تماما مناري الخشبي، وحتى تأتي السفينة التالية. ومع ذلك، فقد صنعت من الرمل تمثالا بالحجم الطبيعي له على الأرض خارج كهفي، وجعلت أتواثب فوقه غضبا وإحباطا، فأحسست ببعض الراحة، وإن لم تكن راحة كبيرة.
وباستثناء ما كان ينتابني عرضا من آلام الحنين للوطن والإحساس بالوحشة، وهي الآلام التي كانت تعصر حشاي عصرا، كنت قد نجحت بصفة عامة في الحفاظ على روحي المعنوية العالية. ولكن صبري نفد. إذ ظل مناري مبتلا لا يريد أن يجف. وكنت كل يوم أصعد تل المراقبة آملا أن ألمح سفينة، والبحر يمتد أمامي كل يوم وفي جميع الاتجاهات خاليا خاويا. وازداد باطراد إحساسي بالعزلة وبالشقاء. وقررت آخر الأمر ألا أصعد تل المراقبة أبدا، فلا غناء في ذلك. وبدلا من ذلك كنت أمكث في كهفي، وأتكور فوق حصير فراشي ساعات طويلة أثناء النهار. كنت أرقد هنا غارقا في أحزاني، وقد سيطر على فكري خاطر أوحد هو اليأس الذي أواجهه، وكيف أنني لن أنجح يوما ما في الخروج من هذه الجزيرة، وأنني سوف أموت هنا، وأن أمي وأبي لن يعرفا أبدا حتى ما حدث لي. لن يعرف أحد ذلك إلا العجوز، المجنون، سجاني الذي يضطهدني.
وظل الجو ثقيل الوطأة مشبعا بالرطوبة. كم كنت أود أن أغطس في المحيط، لكنني لم أجرؤ. فالمؤكد أنه لن يغفل عن مراقبتي. وكل يوم يمر كان يزيد من كراهيتي لذلك الرجل، على الرغم من مواصلته إحضار السمك والفواكه والماء إلي. ربما كنت أحس بالضيق والاكتئاب، لكنني كنت أشعر أيضا بالغضب. وبدأ هذا الغضب تدريجيا يولد في نفسي تصميما جديدا على الهرب، ورفع هذا التصميم روحي المعنوية. فاستأنفت صعود تل المراقبة كل يوم، وبدأت أجمع مخزونا جديدا من أوراق الشجر والأغصان الجافة من حافة الغابة، خبأتها جميعا في شق عميق من شقوق الصخر حتى أضمن دائما أنها جافة، عندما تحين اللحظة المناسبة. وكان مناري قد جف آخر الأمر، فأضفت إليه الكثير حتى ارتفع وزاد ارتفاعه. وعندما فعلت كل ما في طوقي جلست في انتظار اللحظة المنشودة، وكنت واثقا أنها سوف تأتي، يوما بعد يوم، وأسبوعا بعد أسبوع، كنت أجلس فوق تل المراقبة وقد وضعت زجاجة إشعال النار، بعد صقلها، في جيبي، ومناري جاهز ينتظر.
وقد تصادف أنه حينما حانت اللحظة المنتظرة لم أكن فوق تل المراقبة! إذ حدث أنني خرجت ذات صباح من كهفي، والنعاس لا يزال برأسي فشاهدتها. سفينة! كانت سفينة ذات أشرعة غريبة لونها بني ضارب إلى الحمرة، وقلت في نفسي إنها سفينة من نوع «الينك» الصيني ذي القاع المسطح، ولم تكن على مسافة بعيدة داخل البحر. وغلبني الانفعال فانطلقت في عجل واضطراب أجري على الشاطئ، صائحا صارخا هاتفا بكل ما أوتيت من قوة. ولكنني أدركت فورا أن الأمر ميئوس منه، فرغم أن السفينة لم تكن بعيدة بعدا كبيرا في البحر، فإنها كانت أبعد من أن يراني من فيها أو يسمعني أحدهم. وحاولت تهدئة نفسي، وحاولت التفكير ... النار! أشعل النار!
وغدوت أجري طول الطريق صاعدا التل دون أن أتوقف مرة واحدة، وستلا في أعقابي كظلي وهي تنبح. وكانت الغابة من حولي تضج بأصوات النقيق والوقوقة والصراخ الحاد احتجاجا على ذلك الإزعاج المفاجئ. وجهزت مخزوني من أوراق الشجر الجافة وأمسكت بزجاجة إشعال النار ثم قبعت بجوار المنار لإشعال ناري. لكنني كنت أرتجف من فرط الانفعال والإرهاق فلم أستطع الحفاظ على ثبات يدي إلى الحد اللازم. وهكذا بنيت هيكلا من الغصون ووضعت الزجاجة فوقه، مثلما سبق لي أن فعلت. وعندها جلست إلى جواره، راجيا أن تضطرم النار في ورق الشجر.
وكلما نظرت إلى البحر وجدت تلك السفينة، أو الينك. كانت تبتعد ببطء عنا، ولكنها كانت لا تزال هناك.
كنت أشعر كأنما مر علي دهر في جلستي قبل أن ألمح خيطا رفيعا من الدخان، وبعد ذلك بقليل وهجا رائعا لألسنة النار الجميلة الرائعة، وهي تنتشر في طرف ورقة من أوراق الأشجار. وانحنيت فوقها حتى أنفخ فيها كي تضطرم.
وفي تلك اللحظة أبصرت قدميه، فرفعت بصري. كان العجوز واقفا قبالتي، وقد امتلأت عيناه غضبا واستياء. لم يتفوه بحرف واحد، بل انطلق يخمد ناري الوليدة. واختطف من يدي زجاجة إشعال النار ورمى بها بعيدا على الصخرة أسفل التل فتفتتت وتناثرت شظاياها. لم أكن أملك إلا أن أنظر ما يحدث وأبكي، وهو يحطم مناري ويلقي بالغصون والفروع واحدا بعد الآخر إلى أسفل التل. وفي أثناء ذلك تجمع حشد من قرود السعالي لمشاهدة ما يحدث.
وسرعان ما اختفى مناري عن آخره ولم يبق منه شيء. لم يعد حولي فوق الركام الصخري سوى أطلال المنار المتناثرة، وانتظرت منه أن يصرخ في وجهي، لكنه لم يفعل، بل تكلم بهدوء شديد وهو يضغط عامدا على الحروف، قائلا: «داميدا.»
وصحت قائلا: «ولكن لماذا؟ فأنا أريد العودة للوطن. وهناك سفينة في البحر، ألا تستطيع أن تراها؟ كل ما أريده هو العودة إلى الوطن وحسب. لماذا لا تدعني أرجع؟ لماذا؟» ووقف وهو يحدق في. وخيل إلي في لحظة أنني لمحت بريق الفهم في عينيه. وعندها انحنى انحناءة حادة من وسطه، وقال: «جوميناساي. جوميناساي. آسف. آسف جدا.» وبعدها تركني في مكاني وانطلق عائدا إلى الغابة، ومن خلفه السعالي.
وظللت جالسا أرقب سفينة الينك وهي تبتعد حتى لم تعد سوى نقطة على حافة الأفق، بل لم أعد أحتمل النظر إليها. وعندما حانت هذه اللحظة كان رأيي قد استقر على أفضل صورة لعصيانه. كان الغضب قد بلغ مني مبلغا لم أعد معه أكترث بالعواقب. لم أعد آبه. فقمت وستلا بجانبي وانطلقت أمشي على الشاطئ حتى وصلت إلى الحد الفاصل الذي رسمه على الرمل بيننا فوقفت، ثم تجاوزته بصورة عامدة، كما تعمدت وأنا أتجاوزه أن أجعله يعرف تماما ما كنت أفعله.
وهتفت بصوت عال: «هل تراني أيها العجوز؟ انظر! لقد تجاوزت الحدود فدخلت منطقتك. لقد عبرت الحد الفاصل السخيف. والآن سوف أستحم. لا يهمني ما تقول. لا يهمني أن تمتنع عن إطعامي. هل تسمعني أيها العجوز؟» وعندها استدرت وانطلقت على الشاطئ فنزلت البحر. وجعلت أسبح بقوة ونشاط حتى أصابني الإنهاك الشديد وابتعدت كثيرا عن الشاطئ. وظللت أضرب الماء بأقدامي طافيا وأضرب بيدي سطح الماء في غضبي حتى بدأ يرغي ويزبد من حولي. وصحت أقول : «البحر ينتمي لي مثلما ينتمي لك. وسوف أسبح فيه وقتما أشاء.»
وشاهدته عند ذلك. ظهر فجأة على حافة الغابة. كان يصيح ببعض الألفاظ الموجهة لي، ويلوح بعصاه في الهواء. وكانت هذه هي اللحظة التي أحسست فيها بالألم، كان ألما لاذعا كاويا في قفاي، ثم في ظهري وذراعي أيضا. وشاهدت أحد قناديل البحر يطفو بجواري: كان أبيض شفافا، وله أذرع تتحسسني. حاولت السباحة من جديد لكن قنديل البحر جاء خلفي لاصطيادي. كان الألم مباشرا فوريا مبرحا. وتغلغل الألم في سائر جسمي مثل صدمة كهربائية واحدة متصلة. وأحسست أن عضلاتي قد تصلبت. وجعلت أرفس الماء محاولا العودة إلى الشاطئ لكنني لم أستطع، وأحسست أن رجلي مشلولتان، وذراعي أيضا. كنت أغرق. ولم يكن في طوقي أن أمنع نفسي من الغرق. وشاهدت قنديل البحر يقف مستعدا لتوجيه ضربته القاضية أمامي الآن. وصرخت، فامتلأ فمي بالماء. كنت أختنق. كنت على شفا الموت. كنت على وشك الغرق لكنني لم أكترث. كل ما أردته هو أن يتوقف الألم. وكنت أعرف أن الموت سوف يقضي على الألم.
الفصل السابع
كل ما قاله الصمت
شممت رائحة الخل، وظننت أنني في منزلي. كان والدي دائما يعود إلينا يوم الجمعة بعشاء من السمك والبطاطس المقلية، وكان يحب أن يصب الخل على نصيبه من ذلك الطعام، حتى إن رائحة الخل كانت تشيع في المنزل طول المساء. وفتحت عيني. كان الظلام يدل على أننا في المساء، لكنني لم أكن في منزلي. كنت في كهف ما، لكنه لم يكن كهفي. واستطعت أن أشم رائحة دخان أيضا. كنت راقدا على فراش من حصير وأتغطى بملاءة تكسوني حتى ذقني. حاولت أن أجلس حتى أتطلع إلى ما حولي لكنني لم أستطع الحركة. حاولت أن أدير رأسي، ولكن رقبتي كانت متصلبة. لم أكن أستطيع تحريك شيء سوى عيني، لكنني كنت لا أزال قادرا على الإحساس. كانت بشرتي بل كان كل جسمي يرتجف من الألم المبرح، كأنما اكتوى جسدي كله بنار حارقة. حاولت أن أنادي، ولكنني لم أستطع سوى الهمس بصعوبة. وعندها تذكرت قنديل البحر. تذكرت تلك الحادثة كلها.
كان العجوز منحنيا فوقي، ويده تمسح جبيني برفق. وقال: «لقد شفيت الآن. اسمي كنسوكي. لقد شفيت الآن.» وأردت أن أسأل عن ستلا، فأجابتني بنفسها بأن دست أنفها البارد في أذني.
لا أعرف كم يوما قضيت هناك، أنام وأصحو على فترات، ولا أعرف إلا أنني كلما صحوت وجدت كنسوكي يجلس بجانبي دائما. نادرا ما كان يتكلم، ولم أكن أنا أستطيع الكلام، ولكن الصمت بيننا كان يقول أكثر مما تقوله أية كلمات. وهكذا، فإن هذا الرجل الذي كان عدوا لي حتى الآن. هذا الذي كان سجاني، قد أصبح منقذي ومخلصي. كان يرفعني بيديه حتى يصب عصير الفواكه أو الحساء الساخن في حلقي. كان يمسح جسدي بإسفنجة ملئت بالماء البارد، وعندما كنت أصرخ من فرط الألم، كان يحضنني ويغني لي أغاني رقيقة حتى أعود للنوم. كان الأمر غريبا، فعندما كان يغني لي، كان صوته يبدو رجعا لأصداء الماضي؛ ربما كان صوت والدي، لا أدري. وببطء رحل عني الألم. وظل يتولى تمريضي حتى عدت للحياة. وعندما استطعت من جديد تحريك أصابعي رأيته يبتسم لأول مرة.
وعندما استطعت أخيرا أن أدير رأسي، كنت أشاهده وهو يدخل ويخرج، وهو يقوم بالعمل في أرجاء الكهف، وكانت ستلا كثيرا ما تأتي وترقد إلى جواري، وعيناها تتابعان ما يفعله أيضا.
وفي كل يوم كان إدراكي يزداد للمكان الذي أرقد فيه. كان مكانا شاسعا بالمقارنة بكهفي على شاطئ البحر. ولولا سقفه الصخري المرتفع ما أدركت تقريبا أنه كهف. ولم يكن فيه ما يدل إطلاقا على أنه كهف بدائي. كان أشبه بمنزل أزيلت الجدران بين غرفه منه إلى الكهف. فكان به مطبخ، وغرفة جلوس، وغرفة مكتب، وغرفة نوم، وكأنما جمعت جميعا في مكان واحد.
كان يقوم بطهو الطعام على موقد صغير يتصاعد منه الدخان دائما في آخر الكهف، وكان الدخان يتصاعد ويخرج من فتحة صغيرة في الصخر فوق رءوسنا، وقلت في نفسي إن ذلك قد يكون سبب عدم وجود بعوض يضايقني . وكان يبدو لي دائما وجود شيء معلق في حامل خشبي له ثلاث أرجل فوق الموقد، إما أنه قدر سوده السناج، وإما ما يبدو في شكله ورائحته مثل شرائح طويلة من السمك المدخن.
كنت أستطيع رؤية البريق المعتم لأواني الطهو المعدنية المصفوفة على رف خشبي قريب. وكانت هناك أرفف أخرى اصطفت عليها العلب الصفيح والقدور الفخارية، من عشرات الأشكال والأحجام المختلفة، وتتدلى تحتها حزم لا تحصى من الأعشاب والأزهار المجففة. وكثيرا ما كان يقوم بخلط هذه أو طحنها، لكنني لم أكن واثقا من غرضه. وأحيانا كان يقوم بإحضارها لي حتى أشمها.
لم يكن في بيت الكهف أثاث كثير. كانت في أحد جوانب الكهف منضدة خشبية غير عالية، لا تكاد ترتفع عن الأرض بما يزيد على ثلاثين سنتيمترا أو نحو ذلك. وكان يضع عليها الفرشات التي يستخدمها في الرسم، وكانت دائما مصفوفة بعناية، والمزيد من القدور الفخارية والزجاجات والأطباق الصغيرة.
وكان كنسوكي يقوم بعمله دائما تقريبا بالقرب من مدخل الكهف حيث ضوء النهار. وكان في الليل يبسط الحصير الذي ينام عليه في المكان المواجه لمرقدي في الكهف، في ظل الجدار. وأحيانا ما كنت أصحو في الصباح مبكرا وأظل أرقبه وهو نائم. وكان دائما ما ينام على ظهره، وقد لف ملاءته حول جسمه، دون أن تصدر عنه أية حركة.
وكان من عادة كنسوكي أن يقضي ساعات طويلة كل يوم منحنيا فوق المنضدة مستغرقا في الرسم. كان يرسم ما يرسمه على أصداف بحرية ضخمة، لكنه لم يطلعني يوما ما على ما رسمه، وهو ما كان يصيبني بالإحباط. والواقع أنه نادرا ما كان يبدو راضيا عن عمله، إذ كان عادة عندما ينتهي منه يمسح الرسم ويبدأ العمل من جديد.
وكان في الجانب الأقصى من باب الكهف نضد طويل مخصص للعمل، وتتدلى عاليا فوقه صفوف منتظمة من الأدوات: مناشير ومطارق وأزاميل، وغيرها. وكانت خلف نضد العمل ثلاثة صناديق خشبية ضخمة، كان كثيرا ما يبحث فيها عن قوقعة أو صدفة - ربما - أو ملاءة نظيفة. كنا نستعمل ملاءات نظيفة كل ليلة .
وكان يرتدي داخل الكهف رداء طويلا يلف به جسده (عرفت فيما بعد أنه يسمى «كيمونو»). وكان يحافظ على النظافة المطلقة لبيت الكهف، فيقوم بكنسه مرة كل يوم على الأقل. وكان يضع إناء كبيرا مليئا بالماء في داخل باب الكهف، وكان كلما عاد يغسل قدميه ويجففهما قبل الولوج إلى داخل الكهف.
وكانت أرضية الكهف مغطاة تماما بحصر منسوجة من الأسل المضفر، مثل الحصر التي ننام عليها. وكانت جدران الكهف كلها مبطنة بالخيزران، من الأرض وحتى مسافة تعادل أو تزيد على طول القامة. كان المنزل بسيطا، لكنه كان منزلا. كان لكل شيء مكانه وغرض يؤديه.
وعندما تحسنت صحتي، كان كنسوكي يخرج ويتركني وحدي، والحمد لله أن ذلك لم يكن لفترات طويلة. وكان عندما يعود، وهو يغني في أحيان كثيرة، كان يحمل السمك، وقد يحمل الفواكه أيضا أو جوز الهند أو الأعشاب، وكان يعرضها علي مزهوا. وكانت قردة السعالي تعود أحيانا معه، لكنها كانت تتوقف عند مدخل الكهف. وكانت تحدق في وجهي، وفي ستلا التي كانت دائما ما تحافظ على ابتعادها عنها. ولم يكن يحاول الدخول إلا الصغار، ولم يكن على كنسوكي إلا أن يصفق في وجهها وسرعان ما تبتعد مهرولة.
كم كنت أتمنى في تلك الأيام الأولى في الكهف لو استطعنا التحادث: كان هناك ألف لغز ولغز، وألف شيء وشيء أريد أن أعرفه. ولكن الكلام كان لا يزال يؤلمني، كما أنني كنت سعيدا تماما بالصمت الذي يسود بيننا، وأحسست أنه يفضله كذلك بصورة ما. كان يبدو أنه شخص شديد التكتم، وأنه راض بأن يظل كذلك.
وذات يوم، بعد أن قضى كنسوكي عدة ساعات منحنيا يرسم إحدى لوحاته، جاءني وأراني إياها. كانت صورة شجرة، شجرة مزهرة. وقالت بسمته كل شيء. ثم قال: «لك! شجرة يابانية. أنا من اليابان.» وبعد ذلك أراني كنسوكي جميع اللوحات التي رسمها، حتى تلك التي مسحها فيما بعد. كانت جميعا باللونين الأبيض والأسود، لقرود السعالي والجيبون، والفراشات، والدلافين، والطيور، والفواكه. لم يكن يحتفظ بإحداها إلا فيما ندر، فيقوم بتخزينها بعناية في أحد الصناديق. ولاحظت أنه يحتفظ بعدة لوحات للأشجار، وكانت دائما أشجارا مزهرة، أو «شجرة يابانية»، كما كان يسميها، وكنت أدرك أنه يجد متعة خاصة في عرضها علي. كان من الواضح أنه يريدني أن أشاركه شيئا عزيزا جدا على قلبه. وأحسست أن في ذلك تكريما لي.
وكان يجلس بجواري يرقبني عندما يخبو ضوء النهار كل يوم، وقد سقطت آخر أشعة شمس الغروب على وجهه. كنت أحس أن نظرات عينيه تجلب لي الشفاء. وكنت في الليل كثيرا ما أفكر في أبي وأمي. لكم تمنيت أن أراهما من جديد، وأن أخبرهما أنني ما زلت حيا، ولكن الغريب أنني لم أعد أفتقدهما.
وبمرور الوقت عادت قدرتي على الكلام، إذ فقد الشلل سيطرته علي وعادت لي قوتي، فأصبحت أستطيع الخروج مع كنسوكي، كلما دعاني إلى ذلك، وكثيرا ما كان يدعوني. كنت في البداية أجلس القرفصاء على الشاطئ مع ستلا وأشاهده وهو يصيد السمك في المياه الضحلة. كان يقف ثابتا ساكنا ثم يضرب السمكة بسرعة البرق. ثم قام ذات يوم بصنع رمح لي، إذ أصبح علي أن أشاركه صيد السمك. أرشدني إلى مكان الأسماك الكبيرة. وأراني أماكن اختفاء الأخطبوط تحت الصخور، وعلمني كيف أقف ساكنا مثل طائر مالك الحزين وأنتظر، وقد جهزت رمحي وصوبته فوق الماء، وظلي يمتد خلفي حتى لا تخاف الأسماك فتهرب. والحق أن صيد سمكة بالرمح لأول مرة كان يشبه إحراز هدف لفريق «مدلاركس» لكرة القدم في الوطن؛ سأفضل إحساس تقريبا يمكن أن يحسه الإنسان.
كان كنسوكي، فيما يبدو، يعرف كل شجرة في الغابة، ويعرف مكان كل شجرة من أشجار الفاكهة، ما كان ناضجا من الثمار وما كان فجا، وما كان جديرا بتسلق الشجرة من أجله. كان يستطيع أن يتسلق الأشجار التي قد يستحيل تسلقها بخفة وثبات قدم ودون خوف. لم يكن يزعجه شيء في الغابة، لا قرود الجيبون التي تعوي وتتأرجح فوق رأسه لتصرفه عن ثمارها، ولا النحل الذي يحتشد حوله حين يعود هابطا بقرص الشهد من فجوة في شجرة عالية (كان يستخدم عسل النحل في تسكير الفواكه وحفظها في زجاجات). وكانت أسرته من السعالي تصحبنا دائما، فتتبعنا كظلنا في الغابة، وقد تستطلع المسارب التي سنسير فيها أو تهرول خلفنا في الطريق. لم يكن على كنسوكي إلا أن يغني فتأتي، وكانت تبدو جميعا مسحورة برنين صوته. كانت تشعر بالحيرة إزائي وإزاء ستلا، ولكنها كانت تقلق منا ونقلق منها، وهكذا حافظنا مؤقتا على ابتعادنا عن بعضنا البعض.
وذات مساء، بينما كنت أرقب كنسوكي وهو يصيد السمك، فوجئت بأحد قرود السعالي الصغيرة يصعد ركبتي ويقبع في حجري ويبدأ في فحص أنفي بإصبعه، ثم انتقل إلى فحص أذني. وشدها بقوة لم أسترح لها؛ لكنني لم أصرخ. وبعد ذلك حذت الأخرى حذوه، كأنما كنت جهاز تسلق تلعب فوقه. بل إن الكبار أنفسها، الأضخم جسما كانت تمد أيديها وتلمسني من وقت لآخر، لكنها والحمد لله كانت دائما متحفظة، أشد حذرا من الصغار. وأما ستلا فكانت لا تزال تراعي المسافة التي تفصلها عن القرود، وتفصل القرود عنها.
وعلى مدى هذه الفترة الزمنية كلها - ولا بد أنني كنت قضيت عدة شهور، على ما أظن، في الجزيرة - لم يكن كنسوكي قد قال إلا أقل القليل. كان يصعب عليه بوضوح أن ينطق بالألفاظ الإنجليزية القليلة التي يعرفها. وعندما كانت أية ألفاظ تستخدم في الحديث بيننا لم تكن تساعد كثيرا في التفاهم. وهكذا لجأنا في معظم الأحيان إلى البسمات والإيماءات، وإلى التلويحات والإشارات، بل إننا كنا أحيانا نرسم صورا في الرمل لشرح مقاصدنا. كان ذلك يكفي وحسب لاستمرار التواصل، ولكنني أتحرق شوقا إلى معرفة الكثير. ما السبب الذي جعله يعيش هنا وحده في هذه الجزيرة؟ وكم مضى عليه هنا؟ وكيف تأتى له الحصول على كل هذه القدور والأواني والأدوات، وعلى السكين التي يحملها دائما في حزامه؟ كيف أصبح أحد صناديقه الخشبية مكدسا بالملاءات؟ من أين أتت؟ ما موطنه؟ ولماذا يبدي كل هذا العطف تجاهي الآن، ويحافظ على مشاعري بهذه الصورة، بعد أن كان يظهر استياءه الشديد مني بوضوح أول الأمر ؟
لكنني كنت إذا طرحت عليه أيا من هذه الأسئلة هز رأسه وحسب وأشاح عني كأنه رجل أصم يشعر بالعار من صممه. ولم أكن واثقا في يوم من الأيام إن كان لا يفهمني حقا أو لا يريد وحسب أن يفهم. ومهما يكن الأمر كنت أرى أنه يقلقه فأقلعت عن طرح المزيد من الأسئلة. كانت الأسئلة فيما يبدو تدخلا في حياته الخاصة، فوطنت نفسي على الانتظار.
كانت حياتنا معا عامرة بالنشاط دائما، ومنتظمة مثل عقارب الساعة. كنا نستيقظ في الفجر وننطلق في أحد المسارب فنسير قليلا للاستحمام في الجدول حيث ينحدر بمياهه الباردة العذبة من جانب التل فيصل إلى مرجل عظيم من الصخور الملساء. وكنا نغسل ملاءاتنا وملابسنا فيه هنا أيضا (وكان قد صنع لي الثوب الفضفاض، أي الكيمونو، الخاص بي من قبل)، فكنا نضرب الصخور بالملابس ونقرعها فيها قبل أن ننشرها لتجف على أحد فروع الأشجار القريبة. كان الإفطار يتكون من عصير الفواكه الغليظ السميك، وكانت الفاكهة تختلف من يوم ليوم، فيما يبدو، إلى جانب الموز أو جوز الهند. لم أشعر بالملل من الموز يوما ما، لكنني سرعان ما سئمت جوز الهند. وكنا نقضي الصباح إما في صيد السمك في المياه الضحلة أو في جمع الفواكه من الغابة. وكنا أحيانا نقوم بعد هبوب إحدى العواصف، بتمشيط الشاطئ بحثا عن الأصداف التي كان يرسم عليها - ولم تكن تصلح إلا أكبر الأصداف وأشدها تسطيحا - أو بحثا عن الركام الطافي الذي يلقيه البحر حتى نضيفه إلى مخزون الخشب في آخر الكهف. كان من الواضح أن المخزون ينقسم إلى قسمين، الأول يستخدم بوضوح حطبا، وأما الثاني فأظن أنه كان مخصصا لأشغاله اليدوية، وكنا بعد ذلك نعود إلى البيت - في الكهف - لتناول الغداء الذي كان يتكون من السمك النيئ (وهو دائما لذيذ) وفاكهة الخبز عادة (وكانت دائما لطيفة الطعم يصعب بلعها)، وبعد أن ينام كلانا فترة قصيرة بعد الغداء، يشرع هو في الرسم على منضدته، وأنهمك أنا في مشاهدته ومتابعة عمله حتى يستغرقني تماما فأتمنى ألا تغرب شمس النهار. وقد نطبخ حساء السمك فوق الموقد، دون أن نستبعد أي جزء من أجزاء السمكة، لا رأسها ولا ذيلها، ونضيف عشرة أعشاب مختلفة، فلم يكن كنسوكي يفرط في شيء على الإطلاق، وبعد ذلك يأتي الموز الأحمر، وكان لي أن آكل منه كل ما أريد. لم أكن أحس مطلقا بالجوع. وعندما ينتهي العشاء كنا نجلس عند باب الكهف ونشهد غروب الشمس في البحر، وبعد ذلك، ودون أن يتفوه بكلمة واحدة، ينهض. ومن ثم ينحني كل منا لصاحبه، فينشر هو حصير فراشه ويتركني أنشر حصيري.
كانت مشاهدة كنسوكي وهو يعمل مصدر عجب دائم لي، فلقد كان يتمتع بالقدرة على التمعن والتركيز الشديد في كل شيء يفعله. ولكن مشاهدته وهو يرسم تأتي في المرتبة الأولى. كان أولا لا يسمح لي إلا بأن أنحني بجواره لأراقبه. وكنت أشعر أنه حتى في ذلك أيضا كان يحب التكتم و«الخصوصية» بحيث لا يزعجه أحد. كان يضع على المنضدة أمامه ثلاثة أطباق صغيرة: أحدها لحبر الأخطبوط (فلم يكن كنسوكي يعتبر الأخطبوط طعاما فقط) والثاني فيه ماء، والثالث لخلط الحبر بالماء. وكان دائما يمسك بريشته منتصبة بزاوية قائمة وهي دائما ثابتة في يده، وأصابعه تقبض عليها من جانب وإبهامه عليها من الجانب الآخر. وهو ينحني منكبا على عمله، حتى تكاد شعرات لحيته تلمس الصدفة التي يرسم عليها، وأظن أنه ربما كان يعاني قليلا من قصر النظر، وكنت أقضي ساعات طويلة في مشاهدته، دهشا من دقة عمله ورهافته، ومن الثقة البادية في إتقانه.
وذات يوم أثناء هطول المطر عصرا - وكان المطر عندما ينهمر، ينهمر مدرارا - وجدت أنه قد جهز لي صدفة، وثلاثة أطباق وفرشاة رسم. كان يستمتع كثيرا بتعليمي، وبكل محاولة عرجاء أقوم بها. وأذكر أنني في أول عهدي بالرسم حاولت أن أرسم قنديل البحر الذي هاجمني، فإذا به يضحك ملء شدقيه، لا سخرية مني بل اعترافا وتذكرا بما جمع بين قلبينا. كنت دائما أحب الرسم، لكنني تعلمت من كنسوكي أن أعشقه، وتعلمت منه أن الرسم أو التلوين يحتاج مني أولا إلى دقة الملاحظة، ثم تكوين شكل الصورة في ذهني قبل أن أرسل بها عبر ذراعي إلى طرف الفرشاة، ومنها إلى الصدفة. وقد علمني ذلك كله دون كلام، كان يبين لي ذلك وحسب.
كانت الأدلة على أنه فنان بارع عظيم بادية حولي في كل مكان، فلا بد أنه هو الذي قام بتأثيث بيته في هذا الكهف كله، ومعظمه من الركام الطافي: الصناديق، ونضد العمل نفسه، والرفوف، والمنضدة. ولا بد أنه هو الذي نسج الحصير من الأسل، وما يغطي الجدران من الخيزران، وكل شيء. وعندما فحصته بدقة وجدت أنه يتميز بكمال التشطيب وجماله، فلا مسامير، ولا براغي، بل تضفير وتشبيك دقيق محكم. كان يستخدم بعض أشكال الصمغ إذا اقتضى الأمر، وكذلك الدوبار أو خيوط القنب. وكانت الحبال اللازمة للتسلق والرماح المستخدمة في صيد الأسماك، وشباك الصيد، وقصب صيد الأسماك كلها موضوعة في أحد أركان الكهف (ولو أنني لم أشاهده يستخدم قصبة صيد السمك مرة واحدة). كان لا بد أنه هو الذي صنعها كلها.
وكان قد صنع فرشات الرسم أيضا، وسرعان ما عرفت طريقة صنعها. كانت لكنسوكي سعلاة يحبها، أنثى ضخمة كان يسميها «توموداكي»، وكانت كثيرا ما تأتي وتجلس إلى جواره كي يمشط شعرها وينظفه. وكان منهمكا في ذلك ذات يوم خارج باب الكهف، وعلى مقربة منه، والسعالي الأخرى تشهد ما يفعل، حين رأيته يعمد إلى نزع أطول الشعرات وأشدها سوادا من ظهرها. وأمسك الشعرات بيده فأراني إياها، وهو يبتسم ابتسامة عريضة تعبيرا عن نية مبيتة. لم أفهم حقا حينذاك ما كان يعتزمه، ثم رأيته فيما بعد عند نضد العمل يشذب الشعرات بسكينة، ثم يغمسها في سائل كنت شاهدته يستخرجه من إحدى الشجرات في ذلك الصباح نفسه، ثم يقطع قطعة صغيرة مجوفة من الخيزران ويملؤها بشعر «توموداكي». وبعد مرور يوم واحد كان الصمغ قد جف وأصبحت لديه فرشاة رسم، ويبدو أن كنسوكي قد وجد السبل الكفيلة بتلبية جميع احتياجاته.
كنا صامتين مستغرقين في الرسم ذات يوم ، والمطر يهطل بغزارة وصخب على الغابة، عندما توقف، ووضع فرشاة الرسم، وقال ببطء شديد وبأسلوب محسوب بدقة، كأنما كان يفكر في صياغته منذ وقت طويل: «أعلمك الرسم يا ميكا» (وكانت هذه أول مرة يناديني فيها باسمي) «وتعلمني أن أتكلم الإنجليزية. أريد أن أتحدث الإنجليزية. علمني أنت.»
كانت تلك بداية درس في اللغة الإنجليزية قدر له أن يستمر شهورا. كنت في كل يوم، من الفجر إلى الغسق، «أترجم» له الدنيا من حوله إلى اللغة الإنجليزية. كنا ما زلنا نفعل ما كنا نفعله دائما؛ ولكنني كنت الآن أتكلم طول الوقت وهو يردد كل كلمة أقولها، وكل عبارة يريدها. وكانت الغضون تبدو على جبينه من فرط الجهد المبذول.
كان كأنما يكفيه ترديد الكلمة لابتلاعها في ذهنه. وما إن ينطقها ويستعملها حتى تثبت في عقله فلا ينساها أبدا، وإذا تصادف أن نسى كلمة ما، كان دائما يبدي غضبه الشديد من نفسه. وكنت أحيانا ألاحظه وأنا أتلفظ بكلمة جديدة فأجد عينيه تبرقان. كان يومئ ويبتسم كأنما تعرف على الكلمة، أو كأنما يحيي صديقا قديما. كان يكررها مرات ومرات، كأنما يتلذذ بمذاق رنينها قبل أن يحفظها في ذاكرته إلى الأبد. وكان كلما ازدادت معرفته بكلمات جديدة، ازدادت محاولته - بطبيعة الحال - لتجربتها. وسرعان ما نمت الكلمات المفردة فأصبحت عبارات مبتورة ثم غدت جملا كاملة. ومع ذلك، فإن أسلوب نطقه لم يتحسن قط، مهما يحاول تحسينه. مايكل كان دائما ميكا، وأحيانا ميكاسان، وغدونا الآن نستطيع على الأقل أن نتحادث معا بسهولة أكبر، وانتهى عهد الصمت الطويل الذي تشكلت فيه صداقتنا. لم يكن الصمت في يوم ما حاجزا يفصل بيننا، لكنه كان يفرض علينا حدودا.
كنا نجلس بجوار باب الكهف عند غروب الشمس عندما قال: «انظر الآن إذا كنت أستطيع الفهم يا ميكاسان. قص علي قصتك. أين تعيش. لماذا أتيت إلى جزيرتي هنا. منذ أن كنت طفلا حتى الآن. وسوف أستمع.»
وقصصت عليه قصتي. حكيت له عن أمي وأبي، وعن إغلاق مصنع الطوب. عن كرة القدم مع إدي وفريق «مدلاركس» وعن السفينة بيجي سو ورحلتنا حول العالم، وعن كرة القدم في البرازيل، والأسود في أفريقيا والعناكب في أستراليا، وعن مرض والدتي، وعن الليلة التي سقطت فيها من السفينة.
وقال عندما انتهيت: «ممتاز. أفهم. ممتاز. إذن تحب كرة القدم. عندما كنت صغيرا كنت ألعب كرة القدم أيضا. وقت سعيد جدا، من زمن طويل، في اليابان، في وطني.» وجلس صامتا برهة، ثم عاد يقول: «أنت بعيد جدا عن وطنك يا ميكاسان. تبدو حزينا جدا أحيانا. أفهم. وإذن، أجعلك سعيدا. نذهب غدا لصيد السمك وربما أحكي لك قصتي أنا أيضا. قصتي وقصتك. ربما تكون نفس القصة الآن.» كانت الشمس قد غربت، فوقفنا وانحنينا نحيي بعضنا البعض. وقال: «أوياسومي ماساي.»
وقلت له: «تصبح على خير.» لم يكن تكلم باليابانية طول النهار إلا في تلك اللحظة، ولكنه كان يغني باليابانية غالبا، كنت علمته أغنية «عشر زجاجات خضراء»، وكانت تجعله يضحك كلما غناها. وكنت أحب ضحكته. لم تكن قهقهة مجلجلة قط، بل أقرب إلى الضحكة الخافتة المديدة. لكنها كانت دائما تثلج صدري.
وفي صباح اليوم التالي حمل قصبتين من قصبات صيد السمك، وشبكة، وسار أمامي إلى داخل الغابة، ثم قال لي: «نصيد اليوم سمكا كبيرا يا ميكا، لا سمكا صغيرا.» كان يسير بي إلى ذلك الجانب الذي قذفتني الأمواج عليه منذ شهور طويلة، وإن لم أكن أجد ما يدعوني إلى زيارته من جديد، بسبب ندرة الفواكه فيه أو انعدامها. وكان علينا أن نسلك دربا شاقا خلال الغابة قبل أن نمضي في طريق صخري يتلوى منحدرا إلى خليج رملي خفي. وما إن خرجنا من الغابة إلى الشاطئ، حتى انطلقت ستلا تعدو وتتواثب فورا في المياه الضحلة، وهي تنبح داعية إياي إلى اللعب معها.
وفجأة قبض كنسوكي على ذراعي قائلا: «انظر يا ميكاسان. ماذا ترى؟» كانت عيناه تنمان عن الإثارة والاستفزاز. ولم أعرف ما المفترض أن أنشده. فقال: «لا شيء هنا؟ صحيح؟ أنا رجل ماهر جدا. انظر وسوف أريك.» واتجه إلى آخر الشاطئ، وسرت خلفه. وعندما وصل بدأ يشد ويسحب طبقة النباتات الصغيرة النامية بين الأشجار، ودهشت حين رأيته ينتزعها بسهولة. وشاهدت أولا ما بدا كأنه كتلة خشبية في وسط الرمل، لكنه عندما أزال المزيد من الفروع أدركت أنه جانب من قارب، زورق بمسندين خشبيين، بل كان قاربا مصنوعا من جذع شجرة مقور، وله هيكل من المساند الخشبية على الجانبين. وكان مغطى بالخيش، ومن ثم بدأ يطوي الغطاء ببطء شديد ليكشف عن القارب وهو يضحك ضحكته الخافتة.
وكانت في قاع القارب، بجوار مجداف طويل، كرة القدم المهداة لي، ومد يده فالتقطها وألقاها إلي. كانت قد فقدت شدة انتفاخها، كما كان جانب كبير من الجلد الأبيض مشققا حائل اللون، لكنني كنت أستطيع أن أرى بصعوبة اسم إدي.
الفصل الثامن
كل من في نجاساكي مات
طرت فرحا. لقد وجدت جزءا مني كنت ظننت أنني فقدته إلى الأبد. وقال كنسوكي ناظرا إلي بوجه مشرق بالبسمات: «أنت الآن سعيد يا ميكاسان. وأنا أيضا سعيد. نذهب لصيد السمك. أقول لك بعد قليل أين وجدت هذه الكرة. سرعان ما أحكي لك كل شيء. لم تعد الأسماك الصغيرة طيبة المذاق الآن. وليست كثيرة أيضا. نحتاج إلى أسماك كبيرة أحيانا من البحر العميق. ندخن السمك، وعندها يصبح عندنا دائما سمك كثير جاهز للأكل، تفهم؟»
كان الزورق ذو المسندين أثقل كثيرا مما بدا لي. وساعدت كنسوكي في جره على الشاطئ وإنزاله إلى الماء. وقال ونحن نحمل ستلا إلى داخل القارب: «هذا قارب ممتاز. هذا القارب لا يغرق أبدا. صنعته بنفسي. قارب مأمون تماما.» ودفع القارب في الماء وركبنا. لن أتوقف يوما عن الدهشة من قوته الفذة ورشاقة حركته الفائقة. كان يجدف بمجداف واحد. واقفا في مؤخرة القارب كأنه يقود قاربا مسطحا بمجداف واحد. وسرعان ما تجاوزنا الخليج الآمن وانطلقنا نركب أمواج البحر الشاسع.
كنت أجلس محتضنا كرتي، وستلا عند قدمي، أتطلع إليه وأنتظر أن يبدأ قصته. كانت الحكمة تقضي بألا أضايقه بإلحاحي الآن، كما كنت أعرف. فصيد السمك له أولوية. وهكذا وضع كل منا الطعم في الشص، وجلسنا في صمت نصيد، كل واحد في جانب من جانبي القارب. كانت بي رغبة شديدة في سؤاله عن كرة القدم، وكيف عثر عليها، لكنني لم أجرؤ، خوفا من أن يتقوقع على نفسه فلا يقول شيئا. وبعد وقت طويل بدأ يتكلم، ولكن ما قاله كان جديرا بانتظاري.
قال: «سأحكي لك الآن كل شيء يا ميكاسان، حسبما وعدتك. أنا عجوز، لكنها ليست قصة طويلة. ولدت في اليابان. في نجاساكي. مدينة ضخمة جدا، على البحر، ونشأت في تلك المدينة، وعندما كبرت درست الطب في طوكيو. وسرعان ما أصبحت طبيبا. الدكتور كنسوكي أوجاوا. وكنت فخورا جدا. فأنا أرعى أمهات كثيرات، وكثيرا من الأطفال أيضا. كنت أول شخص يراه أطفال كثيرون في هذه الدنيا. ثم ذهبت إلى لندن. وقمت بالدراسة في لندن، في مستشفى «جاي». هل تعرف ذلك المكان؟» وهززت رأسي. «وبطبيعة الحال تعلمت قليلا من الإنجليزية هناك. وبعدها عدت إلى نجاساكي. اقترنت بزوجة جميلة اسمها كيمي. ثم جاءني ابن صغير أيضا، ميشيا. كنت بالغ السعادة في تلك الأيام. ولكن الحرب سرعان ما أتت. أصبح جميع الذكور اليابانيين جنودا، وربما بحارة. ودخلت البحرية. أصبحت طبيبا في سفينة حربية كبيرة.»
وجاءت سمكة فشدت خيط سنارته، لكنها أكلت الطعم وتفادت الشص. واستأنف حديثه وهو يضع طعما جديدا في الشص، قائلا: «مضى على هذه الحرب زمن طويل.» كنت أعرف بعض المعلومات عن نشوب حرب مع اليابان - وكنت شاهدتها في الأفلام - لكنني لم أكن أحيط إلا بأقل القليل عن الحرب. وهز رأسه، قائلا: «مات الكثيرون في تلك الحرب. كانت تلك الحرب زمنا عصيبا جدا. غرقت سفن كثيرة. وانتصر الجيش الياباني في معارك كثيرة. وكان الشعب الياباني بالغ السعادة، مثل كرة القدم، عندما تفوز تشعر بالسعادة. وعندما تخسر تحزن. كنت أعود كثيرا إلى البيت، فأرى زوجتي كيمي وابني الصغير ميشيا في نجاساكي، كبر بسرعة، أصبح غلاما، وكنا أسرة سعيدة جدا.» «ولكن الحرب استمرت زمنا طويلا. جاء الكثير من الأمريكيين. سفن كثيرة، طائرات كثيرة، قنابل كثيرة. لم تعد الحرب الآن في صالح اليابان . وقت بالغ السوء. دخلنا معارك بحرية كثيرة، وجاءت الطائرات الأمريكية. وسقطت القنابل على سفينتي. اشتعلت النار وصعد الدخان. دخان أسود. واحترق رجال كثيرون. ومات رجال كثيرون. وقفز رجال كثيرون من السفينة في البحر. لكنني بقيت. فأنا طبيب. مكثت مع مرضاي. وجاءت الطائرات من جديد. وألقت المزيد من القنابل الكثيرة. كنت متأكدا أنني لا شك سوف أموت. لكنني لم أمت. نظرت حولي في السفينة. كل المرضى ماتوا. كل البحارة ماتوا. كنت الحي الوحيد على ظهر السفينة، ولكن المحرك لا يزال يعمل. والسفينة تسير وحدها. كانت تسير الآن إلى أي مكان تريده. لا أستطيع أن أدير عجلة القيادة. لا أستطيع أن أفعل شيئا. ولكنني أستمع إلى الراديو. يقول الأمريكيون في الراديو، إن قنبلة كبيرة ألقيت على نجاساكي، قنبلة ذرية. مات الكثيرون، حزنت حزنا شديدا. أعتقد أن كيمي ماتت، وميشيا مات. وأمي تعيش هناك أيضا، وكل أسرتي. أعتقد أنهم جميعا ماتوا.
وسرعان ما قال الراديو إن اليابان استسلمت. واستبد بي الحزن حتى أردت أن أموت.» وظل يركز على صيد السمك برهة ثم استأنف قصته، قائلا: «وسرعان ما توقف محرك السفينة. ولكن السفينة لم تغرق. وهبت ريح شديدة، عاصفة شديدة. وقلت في نفسي إنني ميت الآن ولا شك. ولكن البحر حمل السفينة وأتى بي إلى هنا، إلى هذه الجزيرة. رست السفينة على الشاطئ، لكنني لم أكن قد مت.
وسرعان ما وجدت الطعام. ووجدت الماء أيضا. وعشت مثل الشحاذين فترة طويلة. كنت أشعر في أعماقي أني شخص سيئ، وأقول في نفسي: لقد مات كل أصدقائي، ومات أفراد أسرتي جميعا، وأنا حي لم أكن أريد أن أعيش. ولكن سرعان ما قابلت السعالي، كانت تلك القردة تشفق علي. هذا مكان جميل جدا، مكان يسوده السلام. لا حرب هنا، لا أشرار. قلت لنفسي، يا كنسوكي أنت رجل محظوظ جدا لأنك حي ربما تستطيع البقاء هنا.» «أخذت أشياء كثيرة من السفينة. أخذت الأغذية، وأخذت الملابس والملاءات. أخذت الأواني وأخذت الزجاجات. وأخذت السكين. وأخذت الأدوية. وجدت أشياء كثيرة، وأدوات كثيرة أيضا. أخذت كل شيء وجدته. وعندما انتهى كنسوكي، لم يكن قد بقي في السفينة شيء يذكر، وأؤكد لك، ووجدت الكهف. وخبأت كل شيء في الكهف. وسرعان ما هبت عاصفة رهيبة، وتحطمت السفينة على الصخور، وسرعان ما غاصت في البحر.» «وجاء الجنود الأمريكيون ذات يوم. فاختبأت. لم أكن أريد أن أستسلم، فهو ليس شيئا مشرفا. كنت خائفا جدا أيضا. واختبأت في الغابة مع السعالي. وأشعل الأمريكيون النار على الشاطئ. وكانوا يضحكون بالليل. كنت أسمعهم. كانوا يقولون إن كل من في نجاساكي ماتوا. وكانوا سعداء جدا بذلك. ويضحكون. وعندها تأكدت أنني سوف أبقى في هذه الجزيرة. لماذا أعود إلى الوطن؟ وسرعان ما رحل الأمريكيون. كانت سفينتي قد غرقت من قبل. فلم يستطيعوا العثور عليها. وسفينتي لا تزال هنا، تحت الرمال الآن، أصبحت الآن جزءا من الجزيرة.»
وتذكرت هيكل السفينة الذي علاه الصدأ وشاهدته في أول يوم لي في الجزيرة! لقد بدأت أمور كثيرة تتضح لي الآن. وفجأة ابتلعت سمكة الطعم من سنارتي، فكادت تنتزع القصبة كلها من يدي. وانحنى كنسوكي ليساعدني. وقضينا عدة دقائق ونحن نرفع السمكة من الماء إلى السطح، ولكننا نجحنا معا في حملها إلى القارب. وجلسنا ونحن نشعر بالإرهاق بعدها، والسمكة تتلوى متواثبة في قاع القارب، عند أقدامنا. كانت هائلة الحجم، أكبر حتى من أكبر سمكة رأيتها في حياتي، وهي سمكة الكراكي التي صادها أبي في مياه الخزان، في الوطن. وأخمد كنسوكي حركتها بسرعة، بضربة حادة خلف عنقها بمقبض سكينه، قائلا: «سمكة جيدة، بل سمكة ممتازة، أنت صياد سمك ماهر يا ميكا. نعمل جيدا معا، ربما استطعنا صيد المزيد الآن.»
ولكن ساعات طويلة مضت قبل أن نصيد سمكة أخرى، وإن لم تكن تشبه هذه. وحكى لي كنسوكي عن حياته وحيدا على الجزيرة، كيف تعلم أساليب البقاء، وكيف يعيش من خير الأرض. وقال إنه تعلم معظم ما تعلمه من مراقبة السعالي وما تأكله، وما لا تأكله. وتعلم تسلق الأشجار مثلها، وتعلم أن يفهم لغتها، وأن يراعي إشارات تحذيرها، مثل البريق في العينين وحك الجسم بقلق شديد. واستطاع ببطء أن ينشئ رابطة ثقة معها، وأن يصبح واحدا منها.
وبحلول موعد عودتنا إلى البيت في ذلك المساء، ونحن نحمل ثلاث سمكات كبيرة في قاع القارب - وأظن أنها كانت من سمك التونة - كان قد انتهى من قصته. كان يتحدث وهو يضرب المجداف في الماء. «بعد الأمريكيين، لم يأت رجال آخرون إلى جزيرتي. عشت وحدي سنوات كثيرة. أنا لم أنس كيمي، لم أنس ميشيا، ولكنني أحيا، وبعد ذلك ربما بسنوات أتى الرجال. رجال بالغو السوء، رجال قتلة، معهم بنادق. وهم يصيدون الحيوان. ويطلقون الرصاص، كنت أغني للسعالي صديقتي، فكانت تأتي إلي حين أغني، وهي خائفة جدا. كانت تأتي وتختبئ جميعا في كهفي. ونختبئ معا فلا يستطيع القتلة أن يعثروا علينا. ولكنهم يطلقون النار في الغابة على قرود الجيبون، وهو الاسم الذي قلته لي. كانوا يطلقون النار على الأمهات، ويأخذون الأطفال. ما الذي يدعوهم إلى ذلك؟ وكنت غاضبا جدا. كنت أعتقد أن كل الناس قتلة. كنت أكره جميع الناس، فيما أظن. لم أكن أريد أن أرى الناس مرة أخرى.
وحدث ذات يوم أن أردت صيد سمكة كبيرة لتدخينها، فذهبت للصيد في هذا القارب. وهبت الريح في الاتجاه المعاكس فابتعدت عن الشط. كان البحر يجذبني بقوة شديدة. حاولت العودة إلى جزيرتي لكنني لم أستطع. فأنا عجوز، وذراعاي ليستا قويتين، وعندما أتى الليل كنت لا أزال بعيدا. وشعرت بخوف شديد، فجعلت أغني؛ فالغناء يمنحني الشجاعة، وسمعت صرخة، وأبصرت ضوءا، وظننت أنني أحلم، ثم سمعت أغنية أخرى في البحر، في الظلام، وأتيت مسرعا قدر طاقتي، فوجدتك ووجدت ستلا والكرة. كنت شبه ميت يا ميكاسان، وكانت ستلا كلبة شبه ميتة.» إذن كان كنسوكي هو الذي انتشلني من البحر، كنسوكي هو الذي أنقذني. لم يجل ذلك بخاطري قط.
وعاد يقول: «وفي الصباح أعادنا البحر إلى جزيرتي. كنت سعيدا جدا لأنك لم تمت، لكنني كنت غاضبا جدا أيضا. فأنا أردت أن أكون وحدي. لم أكن أريد أن أرى الناس. إذ كان جميع الناس في نظري قتلة. لم أكن أريدك في جزيرتي. حملتك. تركتك على الشاطئ. كنت أترك لك ماء حتى لا تموت. لكنك أشعلت النار. وأنا لا أريد أن يأتي الناس. لا أريد الناس أن يأتوا فيجدوني هنا على جزيرتي، وربما يأتون، وربما يطلقون النار فيقتلون السعالي، ويقتلون قرود الجيبون. وربما يجدونني، ويأخذونني معهم أيضا. كنت غاضبا جدا، فأطفأت النار، ولم أكن أريد أن أتكلم معك، ولم أكن أريد أن أراك، فرسمت خط الحدود الفاصل في الرمل.
وهبت عاصفة كبيرة، أكبر عاصفة رأيتها في حياتي، وامتلأ البحر بعد العاصفة بقناديل البحر البيضاء، وأنا أعرف قناديل البحر هذه، بالغة السوء، إذا لمستك تموت في الحال. أعرف ذلك. أقول لك لا تسبح، فهو خطر جدا. وسرعان ما أرى أنك أشعلت نارا كبيرة على قمة التل، واعتقدت أنك شخص شرير جدا. كنت غاضبا جدا هذه المرة، وكنت أنت غاضبا جدا أيضا. فسبحت في البحر. ولدغتك قناديل البحر. وقلت من المؤكد أنك مت. ولكنك قوي جدا، فعشت. أتيت بك إلى الكهف. عندي خل أصنعه من النبق، والخل يقتل السم. أنت حي يا ميكا، لكنك كنت مريضا جدا زمنا طويلا. أصبحت الآن قويا، وأصبحنا الآن أصدقاء. بيننا صداقة متينة.»
هذا إذن ما حدث؛ القصة كلها، وتوقف عن التجديف برهة وتبسم لي من جديد، قائلا: «أنت مثل ابني الآن، ونحن سعداء؛ فنحن نرسم، ونصيد السمك، ونحن سعيدان، نمكث معا. لقد أصبحت الآن أسرتي، يا ميكاسان. صحيح؟»
وقلت له: «نعم! صحيح!» وكنت أعني ما أقول وأشعر به.
وتركني أقوم بالتجديف، وبين لي كيف أجدف بأسلوبه، وأنا واقف وقدماي منفرجتان ثابتتان. لم يكن الأمر بالسهولة التي صورها لي. كان من الواضح أنه يثق في قدرتي على التجديف حتى يعود بنا القارب إلى الشاطئ، إذ اضطجع في جلسته في مقدم الزورق ذي المسندين، حتى يستريح واستغرق في النوم حالما جلس تقريبا، فاتحا فاه، وخداه غائران. كان دائما يبدو في سباته أكثر هرما مما هو عليه. وأثناء تطلعي إليه حاولت أن أرسم في خيالي صورة لوجهه في الماضي، ما لا بد أنه كان عليه حين قدم أول مرة إلى هذه الجزيرة، منذ هذه السنين الكثيرة البعيدة، منذ أربعين عاما. كنت مدينا له بدين كبير، كبير جدا، فقد أنقذ حياتي مرتين وأطعمني وصادقني. كان على صواب. كنا سعيدين، وكنت أنا «أسرته».
لكنه كانت لي أسرة أخرى. وتذكرت آخر مرة ركبت فيها سفينة، وفكرت في أمي وأبي، وكيف أنهما لا شك يحزنان لفقدي كل يوم وكل ليلة، وبعد هذا الوقت الطويل لا بد أنهما يعتقدان أنني غرقت، قطعا، وأن احتمال وجودي على قيد الحياة معدوم، لكنني لم أغرق، بل أنا حي لا بد أن أجعلهما يعرفان ذلك بوسيلة ما، وبينما كنت أكافح عصر ذلك اليوم للعودة بالزورق ذي المساند إلى الجزيرة غمرني إحساس مفاجئ قوي بالشوق إلى رؤيتهما من جديد، إلى صحبتهما، وخطر لي أن أسرق القارب. من الممكن أن أجدف به حتى أبتعد، ومن الممكن أن أشعل النار مرة أخرى، لكنني كنت أعرف حتى أثناء هذه الخواطر أنني لن أستطيع تنفيذها. كيف يمكنني الآن أن أتخلى عن كنسوكي بعد كل ما فعله من أجلي؟ كيف أخون ثقته؟ وحاولت إبعاد الفكرة برمتها عن ذهني، وكنت أعتقد حقا أنني نجحت في استبعادها، لولا أنني - في الصباح التالي مباشرة - رأيت زجاجة الكوكاكولا البلاستيك على الشاطئ بعد أن جرفتها الأمواج، فعادت فكرة الهروب من جديد، وتملكتني من جديد ليلا ونهارا، ولم تكن تتركني إطلاقا.
وقمت بدفن زجاجة الكوكاكولا في الرمل عدة أيام كنت أثناءها أصارع ضميري، أو بالأحرى أبرر لنفسي ما أريد أن أفعله، وقلت لنفسي إنها لن تكون خيانة حقيقية، أعني ليست خيانة بالمعنى المفهوم، وحتى لو وجد أحدهم الزجاجة فلن يعرف أحد المكان الذي يأتي إليه، ولن يعرف إلا أنني على قيد الحياة، وعقدت العزم على تنفيذ خطتي، وأن يكون ذلك في أقرب الآجال.
كان كنسوكي قد ذهب إلى البحر لصيد الأخطبوط، وكنت قد لزمت الكهف لأنتهي من الرسم على صدفة ، أو ذلك ما قلت له. وجدت ملاءة قديمة في قاع صندوق من صناديقه، فقطعت ركنا صغيرا من أركانها، ثم انحنيت على المنضدة، وبسطتها أمامي وكتبت رسالتي عليها بحبر الأخطبوط، وهي:
إلى السفينة بيجي سو، فيرهام، إنجلترا
عزيزي أمي وأبي،
أنا حي في صحة جيدة. وأعيش في جزيرة لا أعرف مكانها. تعاليا وخذاني.
مع حبي
مايكل
وانتظرت حتى تجف تماما، ثم طويتها، وأخرجت زجاجة الكوكاكولا من الرمل، وأدخلت رسالتي فيها ثم أغلقت فوهة الزجاجة إغلاقا محكما. تأكدت تماما أن كنسوكي كان لا يزال منهمكا في الصيد، ثم انطلقت. وأخذت أجري من أول الجزيرة إلى آخرها ملتزما دائما بالغابة، حتى لا تتاح لكنسوكي فرصة رؤية المكان الذي أقصده أو ما عقدت العزم عليه، وكانت قرود الجيبون تعوي باتهاماتها لي طول الطريق، والغابة توقوق وتصرخ بإدانتي. كل ما كنت أرجوه ألا ترد ستلا على ذلك بنباحها فتكشف مكاني، لكنها لحسن الحظ لم تنبح.
ووصلت أخيرا إلى الصخور أسفل تل المراقبة. وجعلت أقفز من صخرة لصخرة حتى أصبحت أقف في أقصى أطراف الجزيرة، والأمواج تتكسر عند أقدامي. ونظرت حولي، فلم أجد شاهدا علي سوى ستلا، وقذفت بالزجاجة إلى أبعد مدى استطعته في البحر، ثم وقفت أنظرها وهي تتواثب بعيدا فوق صفحة ماء البحر وقلت في نفسي لقد بدأت الرحلة.
لم أستطع أن أذوق حساء السمك الذي قدمه لي كنسوكي ذلك المساء، فظن أنني مريض. لم أكن قادرا تقريبا أن أتحدث إليه، ولم أستطع أن أجعل عيني تواجه عينيه. وظللت راقدا طول الليل في عذاب ممض يؤرقني الإحساس بالذنب، ومع ذلك - وفي نفس الوقت - آملا، على استحالة الأمل، أن يلتقط أحدهم زجاجتي.
كنت مع كنسوكي نقوم بالرسم في عصر اليوم حين دخلت ستلا الكهف بخطى خافتة. وكانت زجاجة الكوكاكولا في فمها، وألقت بها أمامي وتطلعت إلي، وهي تلهث وتشعر بالسعادة والزهو بما فعلت.
وضحك كنسوكي وانحنى ومد يده فالتقط الزجاجة، وأعتقد أنه يوشك أن يعطيها لي عندما لاحظ وجود شيء فيها. وأدركت من الطريقة التي حدجني بها بنظره ، بل تأكدت أنه عرف على الفور ما كانت تحتويه.
الفصل التاسع
ليلة السلاحف البحرية
هبط بيننا صمت طويل أليم. لم يؤنبني كنسوكي قط على ما فعلت. لم يكن غاضبا مني أو متجهم الوجه معي. ولكنني كنت أعرف أنني جرحت مشاعره جرحا عميقا. لم نمتنع عن التحادث معا - بل كنا نتحادث - ولكننا لم نعد نتحادث بالروح التي كنا نتحادث بها من قبل. كان كل منا يعيش في شرنقته الخاصة، ملتزمين بالسلوك المهذب، والتأدب دائما، لكننا لم نعد «معا» كما كنا من قبل. كان قد انغلق على نفسه، وحبس نفسه في أفكاره الخاصة. ذهب الدفء من عينيه، وحل الصمت محل الضحك في الكهف. لم يصرح بذلك قط، فلم يكن بحاجة إلى التصريح، لكنني عرفت أنه يفضل الآن أن يرسم وحده، وأن يصيد السمك وحده، وأن يكون وحيدا.
وهكذا كنت أقوم كل يوم بالتجول في الجزيرة مع ستلا، وأنا أرجو أن أجده عندما أعود وقد صفح عني، وأن نعود أصدقاء مثلما كنا. ولكنه كان دائما يحافظ على المسافة التي تفصل بيننا. وحزنت حزنا عميقا على صداقتي الضائعة. وأذكر أنني كنت كثيرا ما أذهب في تلك الفترة إلى طرف الجزيرة الآخر، إلى تل المراقبة، وهناك أجلس زمنا طويلا، ولم أعد أرقب مرور السفن بالجزيرة، بل كنت أجرب بصوت عال ما أقدمه له من تفسير أو إيضاح لما فعلت، ولكنني مهما حاولت وجربت، لم أكن أستطيع أن أقنع حتى نفسي أن ما فعلته كان يمثل شيئا آخر سوى الخيانة. والذي حدث آخر الأمر، على أية حال، هو أن كنسوكي نفسه هو الذي شرح الأمر لي.
كنا قد أوينا إلى الفراش لتونا ذات ليلة عندما جاءت السعلاة توموداكي إلى باب الكهف وجلست القرفصاء عنده. كانت قد فعلت ذلك مرة أو مرتين قبل ذلك في الآونة الأخيرة، وكانت تجلس دقائق معدودة وحسب، وتتطلع إلينا ثم تمضي إلى حال سبيلها. وسمعت صوت كنسوكي في الظلام يقول: «إنها تفتقد كيكانبو من جديد» ثم أضاف: «إنها دائما ما تفتقد صغيرها . كيكانبو طفل شرير جدا. كثيرا ما يهرب، ويجعل توموداكي أما حزينة جدا.» وصفق بيديه ليصرفها صائحا، ثم هتف: «كيكانبو ليس هنا يا توموداكي. ليس هنا أقول.» ولكن توموداكي ظلت في مكانها. وأظن أنها كانت تريد التسرية عن نفسها أكثر من أي شيء آخر، وكنت قد لاحظت من قبل أن السعالي كانت كثيرا ما تأتي إلى كنسوكي عندما تكون قلقة أو خائفة، لا لشيء إلا للشعور بالاطمئنان إلى جواره. وبعد فترة انسلت توموداكي خفية في جنح الليل وتركتنا وحدنا من جديد، يفصلنا صخب الغابة والصمت.
وفجأة خرق صوت كنسوكي الصمت، قائلا: «عندي أفكار كثيرة، هل نمت يا ميكاسان؟» لم يكن قد ناداني باسمي أسابيع متوالية، منذ حادثة زجاجة الكوكاكولا.
قلت له: «لا.»
فقال: «رائع، أريد أن أقول كلاما كثيرا. فاستمع، وسوف أتكلم. لدي أفكار كثيرة. عندما أفكر في توموداكي أفكر أيضا في والدتك. أمك أيضا تفتقد طفلها. تفتقدك أنت. وهذا أمر محزن جدا لها. ربما تأتي لتبحث عنك فلا تجدك. ربما لا تكون أنت هنا عندما تأتي هي. لسوف تظن أنك مت ولن تعود أبدا، ولكنها تراك في خاطرها، بل الآن وأنا أتكلم ربما كانت تراك في ذهنها. أنت دائما هناك. أعرف ذلك. فلدي ابن أنا أيضا. لدي ميشيا. وهو دائما في رأسي. مثل كيمي. لا شك أنهما ماتا، ولكنهما في رأسي. إنهما في رأسي إلى الأبد.»
وساد الصمت بيننا فترة طويلة لم ينطق فيها بحرف واحد. كنت أظن أنه نام، لكنه عاد للحديث مرة أخرى فقال: «سأقول لك كل ما أفكر فيه يا ميكاسان. هذه أفضل طريقة. إنني أظل في هذه الجزيرة لأنني أريد أن أمكث في هذه الجزيرة، لا أريد أن أعود إلى الوطن في اليابان، لكن الأمر مختلف في حالتك؛ فأنت تريد العودة إلى الوطن عبر البحار، وهذا هو الصواب، هذا هو ما يصلح لك، لكنه لا يصلح لي؛ إنه في حالتي أمر محزن جدا. لقد عشت سنوات طويلة هنا وحدي، وأنا سعيد هنا، ثم أتيت أنت. كنت أكرهك عندما أتيت أول الأمر، ولكن بعد فترة أصبحت مثل ابني، وأظن أنني قد أكون مثل والدك، وأنك مثل ابني. وسأحزن كثيرا عندما ترحل؛ فقد أحببت الحديث معك، وأحببت الاستماع إليك، وأحببت رنين صوتك عندما تتكلم. وكنت أريدك أن تبقى هنا في هذه الجزيرة، هل تفهم؟»
وقلت له: «أظن ذلك.»
فعاد يقول: «ولكنك فعلت شيئا غاية في السوء؛ نحن أصدقاء، ولكنك لا تخبرني بما تشعر به. لا تقول لي ما تفعله، وليس هذا أمرا مشرفا. وعندما وجدت الزجاجة وقرأت الكلمات أحسست بالحزن الغامر الشديد، لكنني بعد فترة قصيرة فهمت. أعتقد أنك تريد أن تمكث معي هنا وأن تعود أيضا إلى الوطن. وهكذا عندما وجدت الزجاجة كتبت الرسالة. ولم تخبرني بما تفعل لأنك تعرف أنه يجعلني حزينا. هل هذا صحيح؟»
وقلت له: «نعم.»
فقال: «أنت صغير جدا يا ميكاسان، وأنت ترسم صورا جيدة، صورا ممتازة؛ مثل هوكوساي، وتنتظرك حياة طويلة حافلة. لا تستطيع أن تعيش حياتك كلها في هذه الجزيرة مع رجل عجوز قد يأتيه الموت في أية لحظة. وهكذا، جعلتني هذه الأفكار أغير رأيي. هل تعرف ما سنفعله غدا؟» ولم ينتظر إجابتي، بل استمر قائلا: «سنشرع في بناء مستوقد لنار جديدة، نار عظيمة، حتى نكون مستعدين عندما نلمح سفينة، وعندها تعود إلى وطنك، كما أننا سنفعل شيئا آخر. سنلعب كرة القدم؛ أنت وأنا. ما رأيك في هذا؟»
وقلت: «لا بأس.» لم أكن أستطيع أن أقول أكثر من ذلك. لقد تمكن في تلك اللحظات القليلة أن يزيح عبء إحساسي بالذنب كله من على كاهلي وأن يمنحني سعادة غامرة، بل أملا جديدا مشرقا براقا. «لا بأس لا بأس. فلتنم الآن. لدينا عمل كثير غدا. وأيضا كثير من كرة القدم.»
وفي صباح اليوم التالي بدأنا نقيم منارا على قمة التل فوق منزلنا بالكهف. واستخدمنا معظم كومة الحطب التي كنا جمعناها لموقد الطهو، وقمنا بتخزين الخشب الجاف في آخر الكهف، بل إنه ضحى ببعض أفضل قطع الخشب التي كانت من الركام الطافي، ولم يكن الأمر يقتضي نقلها لمسافة بعيدة، وهكذا لم يمر وقت طويل حتى كنا قد جمعنا ما يكفي لإشعال نار ضخمة، وقال كنسوكي إن ذلك يكفي مؤقتا، وإننا نستطيع أن نجلب المزيد من الغابة، وأن نزيد المقدار يوميا بالكمية التي نريدها. وقال: «سرعان ما نشعل نارا هائلة يستطيعون رؤيتها في أي مكان حتى في اليابان»، وضحك، ثم أضاف: «نتناول الغداء الآن، وبعدها ننام قليلا، وبعدها كرة القدم. موافق؟»
وفي عصر ذلك اليوم نفسه استعضنا عن قوائم المرمى بالعصي التي غرسناها في الرمل وجعلنا نتناوب دور حارس المرمى واللاعب الذي يصوب الكرة إلى المرمى؛ كانت الكرة قد فقدت الكثير من الهواء الذي نفخت به، فلم تكن ترتد حين تضرب الرمل بها خيرا من ارتدادها من الطين الذي كان يكسو الملعب الذي كنا نلعب فيه في الوطن، لكن ذلك لم يكن مهما. قد يكون كنسوكي شيخا يتوكأ على عصا، وقد يكون قد بلغ أرذل العمر، لكنه كان يجيد تصويب الكرة إلى المرمى وإحراز أهداف لم أستطع صدها، المرة بعد المرة.
ما أروع الوقت الذي قضيناه في اللعب لم يكن أينا يريد له أن ينتهي. كان حشد من قرود السعالي يشاهدنا في حيرة، وكانت ستلا تتدخل وتجري وراء الكرة كلما أحرز أحدنا هدفا، حتى هبط الظلام فأرغمنا على العودة آخر الأمر، صاعدين التل، وكان الإرهاق قد بلغ منا حدا لم يتح لنا سوى أن نجرع قدرا كبيرا من الماء، ونأكل موزة أو موزتين، قبل أن نأوي إلى حصير النوم.
ولم يتأت لي سوى بعد المصالحة أن أعرف كنسوكي خيرا مما كنت أعرفه في يوم من الأيام. حديثه بالإنجليزية كان يزداد طلاقة باطراد، وكان من الواضح أنه أصبح يحب التحدث بالإنجليزية. ولسبب لا أعرفه كان أشد سعادة بالحديث معي دائما ونحن نصيد السمك في زورقه ذي المساند. لم نكن نقوم بهذه الرحلات للصيد كثيرا، ولم نكن نقوم بها إلا حين تقل الأسماك في المياه الضحلة فنضطر إلى صيد السمك الكبير لتدخينه وحفظه.
كانت القصص تتدفق من فمه ونحن في البحر. فتحدث كثيرا عن طفولته في اليابان، وعن أخته التوأم، وكيف كان يندم على دفعها من فوق شجرة الكرز في حديقة منزلهما، وكيف كسرت ذراعها، وكيف تذكره شجرة الكرز التي يرسمها بأخته دائما، ولكنها كانت هي الأخرى في نجاساكي عندما ألقيت القنبلة، وأذكر أنه ذكر لي أيضا عنوان المنزل الذي كان يقيم فيه أثناء دراسته في لندن، رقم 22 شارع كلانريكارد جاردنز، ولم أنس ذلك العنوان قط. وقال إنه ذهب إلى ملعب كرة القدم ليشاهد فريق تشيلسي، وبعدها جلس بجانب تمثال أسد في ميدان ترافالجار (الطرف الأغر) فأمره شرطي بالرحيل.
ولكن أكثر من كان يتحدث عنه كانت زوجته كيمي وابنه ميشيا، وكان يقول كم كان يود أن يرى ميشيا وقد أصبح رجلا، وقال إنه لولا القنبلة التي ألقيت على نجاساكي لأصبح ميشيا في الخمسين من عمره، ولكانت كيمي في مثل سنه الآن أي في الخامسة والسبعين. وكنت نادرا ما أقاطعه عندما يكون على هذه الحال. حاولت التسرية عنه مرة فقلت: «القنابل لا تقتل الجميع. وربما كانا الآن على قيد الحياة. من يدري! تستطيع أن تعرف. يمكنك أن تعود.» ونظر إلي نظرة غريبة كأنما لم يكن قد خطر له ذلك الاحتمال من قبل قط، وفي هذه السنين كلها. واستأنفت حديثي قائلا: «ولم لا؟ عندما نرى سفينة ونشعل النار ويأتي من في السفينة لاصطحابي تستطيع أن تأتي معنا. يمكنك أن تعود إلى اليابان. لست مرغما على البقاء هنا.»
وفكر في الأمر برهة، ثم هز رأسه قائلا: «لا! لقد ماتا. كانت تلك قنبلة هائلة، قنبلة رهيبة فظيعة. وقال الأمريكيون إن نجاساكي دمرت، كل منزل هدم. سمعتهم، أفراد أسرتي ماتوا قطعا. سأبقى هنا. أنا هنا آمن. سأظل في جزيرتي.»
وكنا في كل يوم نزيد من الأخشاب التي بنينا المنار منها، فغدا الآن هائلا، بل أضخم من المنار الذي كنت أقمته على تل المراقبة، وأصبح من عادة كنسوكي في كل صباح، وقبل الذهاب إلى البركة للاستحمام، أن يرسلني إلى قمة التل حاملا منظاره المقرب. وكنت دائما أفحص الأفق بمزيج من الرجاء والخوف. كنت قطعا أتوق إلى رؤية سفينة، لا شك في هذا، كنت أتوق إلى العودة إلى الوطن، ولكنني كنت أخشى في الوقت نفسه ما يعنيه ذلك. كنت أحس بالاطمئنان والراحة كثيرا مع كنسوكي. وكانت فكرة الفراق تملؤني بحزن رهيب، وعقدت العزم على بذل قصارى جهدي لإقناعه باصطحابي، إذا مرت بنا سفينة أو عندما تأتي سفينة.
كنت أنتهز كل فرصة الآن لأحدثه عن العالم خارج هذه الجزيرة، وكلما تحدثت ازداد اهتمامه، فيما يبدو، بما أقول، ولم أكن أشير، بطبيعة الحال، إلى الحروب والمجاعات والكوارث. بل كنت أرسم أفضل صورة استطعت أن أرسمها لذلك العالم. كان يجهل الكثير الكثير. وكان يبدي دهشته من كل ما أحكيه، من فرن «الميكروويف» في مطبخنا، والكمبيوتر وما يستطيع أن يؤديه، وطائرة الكونكورد التي تطير بسرعة تزيد على سرعة الصوت، والذين ذهبوا للقمر، والأقمار الصناعية. وكان الحديث عن تلك الأشياء يتطلب الشرح المفصل قطعا. بل إنه لم يكن يصدق بعضها، في أول الأمر على الأقل.
وأتى دوره في طرح الأسئلة علي، وكان يسألني بصفة خاصة عن اليابان، لكنني لم أكن أعرف الكثير عن اليابان، إلا أنني كنت أرى في وطني إنجلترا عبارة «صنع في اليابان» على أشياء كثيرة، من بينها فرن «الميكروويف»، وكذلك السيارات، والآلات الحاسبة، ومسجل الصوت الاستريو الخاص بوالدي، وجهاز تجفيف الشعر عند والدتي.
وضحك قائلا: «أنا شخص «صنع في اليابان»! آلة قديمة جدا، لكنها لا تزال صالحة، لا تزال بالغة القوة.»
ورغم محاولاتي الدائبة للنبش في ذاكرتي، لم أجد بعد فترة ما أقوله له عن اليابان، لكنه كان ما يفتأ يسأل: «أنت واثق أنه لا توجد حرب في اليابان هذه الأيام؟» كنت واثقا، إلى حد كبير، أنه لا توجد حرب فيها وقلت له ذلك. وعاد يسأل: «وهل عمروا نجاساكي بعد القنبلة؟» وقلت له إن هذا صحيح، راجيا أن أكون على صواب. لم يكن في طوقي سوى بث الاطمئنان في قلبه قدر ما استطعت ، إلى جانب سرد القليل الذي أعرفه وتكراره المرة بعد المرة. وكان فيما يبدو يتلذذ بسماع ذلك، مثل طفل يستمتع بقصة خيالية مفضلة.
وذات يوم بعد أن أفضت في الحديث من جديد عن نوعية الصوت المدهشة لجهاز التسجيل «الاستريو» الذي يملكه والدي، وهو من ماركة «سوني»، والذي يجعل المنزل كله يرتج بذبذبات الصوت، قال بصوت خافت هادئ: «ربما أعود يوما ما قبل أن أموت إلى وطني. ربما أعود يوما ما إلى اليابان. ربما.» لم أكن واثقا أنه كان يعني ما يقول، ولكن قوله كان يعني أنه ينظر في الأمر على الأقل، وهو ما جعلني أتفاءل. لكنني لم أصدق أن كنسوكي كان جادا حقا إلا في ليلة السلاحف البحرية.
كنت غارقا في النوم عندما أيقظني، قائلا: «تعال يا ميكاسان، تعال بسرعة. هيا! تعال معي!»
وسألته: «لماذا؟» لكنه كان قد انطلق. وعدوت خلفه في ضوء القمر فأدركته في منتصف الطريق المؤدي إلى البحر. وسألته مرة أخرى: «ماذا نفعل؟ وأين نذهب؟ هل جاءت سفينة؟»
وقال: «سترى فورا. سترى في الحال.» كانت ستلا تجري في أعقابي حتى وصلنا إلى الشاطئ. لم تكن مغرمة بالخروج في الظلام، ونظرت حولي فلم أجد شيئا. كان الشاطئ فيما يبدو مهجورا خاويا. وكانت الأمواج تصطدم بقلق. والقمر يركب متن السحب، وبدا العالم من حولي كأنما يمسك أنفاسه. لم أبصر ما يحدث حتى ركع كنسوكي على ركبتيه فجأة في الرمال. قائلا: «إنها صغيرة جدا، وليست قوية جدا في بعض الأحيان. وأحيانا تأتي الطيور في الصباح وتأكلها.» وهنا شاهدتها.
كنت أظن أولا أنها سرطانات بحرية أي كابوريا، ولكنني كنت مخطئا، كانت سلاحف بحرية دقيقة الحجم، أصغر من الحمسة أي سلحفاة الماء العذب، وكانت تتسلق بعناء جحورا في الرمل ثم تسرع الخطى عدوا على الشاطئ نحو البحر. شاهدت أولا واحدة، ومن بعدها أخرى فثالثة، ثم نظرت إلى الشاطئ فوجدت عشرات منها، بل مئات، وربما آلاف، وهي تهرع جميعا على الرمال التي يسطع عليها ضوء القمر وتنزل البحر. كان كل مكان في الشاطئ ينبض بحركتها. واقتربت ستلا من إحداها تتشممها فنهرتها، فتثاءبت ونظرت ببراءة إلى السماء تتطلع إلى القمر.
ورأيت أن إحداها قد انقلبت على ظهرها في قاع أحد الجحور، وأرجلها تركل الهواء في هياج. ومد كنسوكي يده فالتقطها برفق ووضعها على أقدامها من جديد فوق الرمل، قائلا: «اذهبي إلى البحر أيتها السلحفاة الصغيرة، ولتعيشي فيه الآن، وسرعان ما تكبرين وتصبحين سلحفاة بحرية جميلة. وربما تعودين يوما ما وتقابلينني.» وجلس على عجزه وهو يرقبها تجري، والتفت إلي قائلا: «هل تعرف ماذا تفعل هذه يا ميكا؟ إن السلاحف الأمهات تضع بيضها في هذا المكان. وفي ليلة معينة من كل عام، ودائما عندما يسطع نور البدر، تولد السلاحف الصغيرة. والطريق إلى البحر طويل. ويموت كثير منها. ولهذا أسهر عليها دائما. أساعدها. وأطارد الطيور حتى لا تأكل السلاحف الصغيرة. وبعد أعوام كثيرة، عندما تكبر السلاحف، تعود إلى هنا لتضع البيض من جديد. قصة حقيقية يا ميكاسان.»
وسهرنا طول الليل نرعى المواليد الكثيرة، ونرقب صغار السلاحف وهي تجري في البحر حتى تنجو. وقمنا معا بالمرور على الشاطئ، وكنا نمد أيدينا في كل جحر نجده لنرى إن كان فيه سلاحف أخرى لا تستطيع الخروج أو جنحت فتعثرت. ووجدنا عددا منها لا تقوى على المسير وإتمام الرحلة، فحملناها إلى البحر بأنفسنا، وبدا أن البحر يبعث فيها الحياة، إذ كانت تنطلق سابحة دون حاجة إلى درس في السباحة. وساعدنا عشرات منها كانت مقلوبة على الوقوف على أقدامها، ورافقناها حتى وصلت إلى البحر سالمة.
وعندما بزغ الفجر وانقضت الطيور تريد أن تلتهمها، كنا جاهزين لطردها وإبعادها. كما شاركت ستلا في الطراد نابحة إياها، وكنا نجري نحوها صارخين ملوحين بأيدينا أو كنا نقذفها بالحصى. لم يكن نجاحنا كاملا؛ ولكن معظم السلاحف نجحت في الوصول إلى البحر، ولكنها لم تكن آمنة تماما في الماء، فعلى الرغم من جهودنا المستميتة، تمكنت الطيور من التقاط عدد كبير منها بمناقيرها وطارت بها.
وما إن انتصف النهار حتى انتهى كل شيء. كان كنسوكي يقف على الشط وقد غمر الماء عقبيه، وهو يرقب آخر السلاحف وهي تسبح بعيدا عنا. وضع يده على كتفي قائلا: «إنها بالغة الضآلة يا ميكاسان، ولكنها شجاعة جدا. إنها أشجع مني. إنها لا تعرف ما سوف تجده في البحر، ولا ما سوف يحدث لها، ولكنها تخوضه مهما يكن الأمر. شجاعة بالغة. ربما تعلمت منها درسا نافعا. لقد استقر رأيي الآن؛ عندما تأتي سفينة يوما ما، ونشعل النار، ويعثرون علينا، فسوف أرحل. سأرحل مثل السلاحف البحرية. سأذهب معك. سأعود إلى وطني في اليابان. ربما وجدت كيمي، وربما وجدت ميشيا. سوف أعرف الحقيقة. سأذهب معك يا ميكاسان.»
الفصل العاشر
وصول القتلة
بعد ذلك بوقت قصير هطلت الأمطار وأرغمتنا أن نحتمي أياما متوالية في منزلنا بالكهف. وتحولت مسارب الغابة إلى سيول، وأصبحت الغابة مستنقعا. كنت أتوق إلى عواء قرود الجيبون، بدلا من هدير المطر المنهمر على الأشجار خارج الكهف. لم يكن المطر يهطل في نوبات متقطعة كما كان عليه الحال في الوطن، بل باستمرار ودون توقف. وانتابني القلق على المنار الذي غدا مشبعا بالماء ويزداد بلله مع كل يوم يمر. كيف يتسنى له أن يجف في يوم من الأيام؟ ولكن كنسوكي كان يبدي الصبر والجلد إزاء ذلك كله. كان يقول لي: «سوف ينقطع المطر حين ينقطع. لا تستطيع أن توقف هطوله بأن تريد له ذلك. أضف إلى ذلك أن المطر مفيد نافع. فهو يساعد الثمار على النمو، ويحافظ على تدفق الجدول، وعلى حياة القرود، وحياتك أيضا وحياتي أنا.»
كنت أندفع بأقصى سرعة كل صباح إلى قمة التل ومعي المنظار المقرب، وإن كنت لا أدري سببا لذلك ولا أرى له جدوى، فأحيانا كان المطر ينهمر بغزارة إلى الحد الذي لم أكن أستطيع معه أن أرى البحر على الإطلاق.
كنا أحيانا ننطلق مسرعين إلى الغابة لنجمع كمية من الفاكهة اللازمة لطعامنا. كانت الغابة تزخر بأنواع النبق، وكان كنسوكي يصر على قطفها، فلم يكن يكترث بالبلل الشديد مثلما كنت أكترث. كنا نأكل بعضها، ولكن كنسوكي كان يستخدم معظمها في إعداد الخل ، ويحفظ الباقي في زجاجات خاصة مع عسل النحل والماء. وكان يقول، إنها محفوظة «لوقت الحاجة الماسة، صحيح؟» ويضحك (كان يحب «تجربة» التعابير الجديدة التي تعلمها). كنا نأكل الكثير من السمك المدخن، وكان فيما يبدو لديه مخزون كاف دائما بصفة احتياطية. كان يجعلني أشعر بالعطش الشديد، لكنني لم أكن أضيق به قط.
وأنا أتذكر الموسم المطير بسبب انكبابنا على الرسم فيه أكثر من أي سبب آخر. كنا نقوم بالرسم معا ساعات متوالية، حتى ينفد حبر الأخطبوط. وكان كنسوكي يميل هذه الأيام إلى الرسم من الذاكرة أكثر من الرسم من الطبيعة، فكان يرسم منزله في نجاساكي، وعدة لوحات لزوجته كيمي وابنه ميشيا واقفين معا، دائما تحت شجرة الكرز. ولاحظت أنه يترك الوجه دائما دون تحديد أي ملامح. وقد شرح لي ذلك ذات يوم (وكانت طلاقة حديثه بالإنجليزية تزيد باطراد).
قال لي: «أنا أتذكر من هما، وأذكر أين هما. وأستطيع أن أسمعهما في رأسي، لكنني لا أستطيع أن أراهما.»
وقضيت أياما متوالية في إحكام محاولتي رسم صورة سعلاة. كانت توموداكي. كانت كثيرا ما تقبع عند باب الكهف ووجهها يفيض بالحب وجسمها يتساقط منه ماء المطر، كأنما كانت تدعوني لرسمها. وهكذا اغتنمت الفرصة كاملة.
كان كنسوكي سعيدا باللوحة التي رسمتها إلى حد النشوة، وأغدق علي عبارات الإطراء. وقال: «يوما ما يا ميكاسان سوف تصبح فنانا عظيما، مثل هوكوساي، ربما.» وكانت تلك أول لوحة على صدفة أرسمها فيحتفظ بها كنسوكي في صندوقه. وأحسست بالزهو الشديد. وبعد ذلك كان يصر على الاحتفاظ بالكثير من أصدافي المرسومة، وكثيرا ما كان يخرجها من الصندوق ويدرسها بعناية، مبينا لي أوجه النقص، ولكن دائما بسماحة. وفي ظل رعايته، وبوحي تشجيعه، كانت كل صورة أرسمها تبدو أكثر إحكاما، وأقرب إلى ما كنت أريد لها أن تكون.
وذات صباح عادت قردة الجيبون تعوي، وتوقف المطر، وخرجنا لصيد السمك في المياه الضحلة، ثم خرجنا إلى البحر العميق أيضا، وسرعان ما أعدنا ملء مخزوناتنا من السمك المدخن وحبر الأخطبوط، وعدنا إلى لعب كرة القدم من جديد، وكان المنار فوق قمة التل يجف ماؤه يوما بعد يوم.
وكنا أينما ذهبنا الآن نأخذ معنا المنظار المقرب، من باب الاحتياط، وكاد ذلك المنظار يضيع منا ذات يوم عندما سرقه كيكانبو، ولد توموداكي «الشقي»، وانطلق يجري به في الغابة. كان أشد صغار السعالي صفاقة وأكثرها ميلا إلى اللهو واللعب، وعندما أدركناه لم يكن يريد إعادة المنظار. واضطر كنسوكي آخر الأمر إلى رشوته: موزة حمراء في مقابل منظار مقرب.
لكنه مع مرور الوقت كنا بدأنا نعيش كأنما اعتزمنا البقاء في الجزيرة إلى الأبد، وهو ما بدأ يقلقني قلقا عميقا، كان كنسوكي يقوم بإصلاح زورقه ذي المساند، وإعداد المزيد من الخل، وكان يجمع الأعشاب ويجففها في الشمس. وكان يبدو أن اهتمامه بترقب وصول أية سفينة يقل باطراد، بل كان يبدو أنه نسى الموضوع برمته.
وشعر كنسوكي بقلقي واضطرابي. كان منهمكا في إصلاحات زورقه ذات يوم وأنا أستكشف الأفق من خلال المنظار المقرب، إذ لم يبارحني الأمل قط، حين قال: «تزداد سهولة الأمر عندما تكون عجوزا مثلي يا ميكاسان.»
وسألته: «سهولة ماذا؟»
فقال: «سهولة الانتظار. سوف تأتي سفينة يوما ما يا ميكاسان. ربما يكون ذلك في القريب العاجل، وربما لا يكون في القريب العاجل. لكن السفينة سوف تأتي. يجب ألا نقضي الحياة في الرجاء دائما والانتظار دائما. فغاية الحياة أن نحياها.» كنت أعرف أنه على صواب، بطبيعة الحال، لكنني لم أكن أستطيع - إلا حينما أستغرق في الرسم - أن أطمس حقا كل تفكير في الإنقاذ، وكل تفكير في أمي وأبي.
وصحوت ذات صباح وستلا تنبح خارج منزل الكهف. نهضت وخرجت للبحث عنها. لم أستطع في البداية أن أراها في أي مكان. وحين وجدتها كانت تقف عاليا فوق التل، وكانت تصدر أصواتا تتراوح بين الزمجرة والنباح، وقد انتصب شعر رقبتها. وسرعان ما أدركت السبب. كانت سفينة من نوع الينك! سفينة صغيرة في البحر. وهرعت نازلا التل فقابلني كنسوكي خارجا من منزل الكهف، وكان يربط حزام سرواله. وهتفت به: «جاءت سفينة! النار! فلنشعل النار !»
وقال كنسوكي: «دعني أنظر أولا.» ورغم كل احتجاجاتي عاد إلى منزل الكهف لإحضار المنظار المقرب. وانطلقت أجري إلى قمة التل من جديد. كانت السفينة قريبة جدا من الشاطئ. ولا بد أن يرى من فيها الدخان. كنت واثقا من ذلك. وكان كنسوكي يصعد التل لمقابلتي ببطء يغيظ. لم يكن يبدو أنه في عجلة على الإطلاق. وأخذ يحدق في السفينة من خلال المنظار ويدرسها بعناية، فاستغرق في ذلك وقتا طويلا.
وقلت له: «لا بد أن نشعل النار، لا بد لا بد.»
وقبض كنسوكي فجأة على ذراعي، وقال: «إنها نفس السفينة يا ميكاسان. لقد أتى الرجال القتلة. إنهم يقتلون قرود الجيبون ويسرقون أطفالها. لقد عادوا، أنا واثق تماما؛ فأنا لم أنس السفينة. أنا لا أنسى أبدا. إنهم أناس أشرار جدا، لا بد أن نذهب بسرعة. لا بد أن نجد جميع السعالي. لا بد أن نأتي بها جميعا إلى الكهف. ستكون آمنة فيه.»
لم يستغرق وقتا طويلا في استدعائها. لم يفعل كنسوكي سوى أنه بدأ يغني ونحن نسير في الغابة.
وإذا بها تظهر من حيث لا ندري، كل اثنتين معا، وكل ثلاث، حتى اجتمع خمس عشرة، لم تحضر أربع منها، فتوغلنا إلى مسافات أبعد في الغابة للعثور عليها، وكنسوكي يغني طول الوقت. وفجأة أتت ثلاث وهي تصطدم في سيرها بالأشجار، وكانت من بينها توموداكي. لم يكن غائبا سوى الصغير كيكانبو.
ووقف كنسوكي في باحة مكشوفة في الغابة، تحيط به السعالي، وشرع يغني لكيكانبو المرة بعد المرة، ولكن الصغير لم يأت. ثم سمعنا صوت تشغيل محرك، في مكان ما بالبحر، محرك مثبت خارج السفينة. وعاد كنسوكي للغناء بصوت أعلى، وبنبرات أشد إلحاحا. وأصخنا السمع عسى أن يصدر كيكانبو صوتا، وبحثنا عنه وناديناه.
وقال كنسوكي أخيرا: «لا نستطيع الانتظار أكثر من ذلك، سأسير في الأمام وتسير يا ميكاسان في الخلف. أحضر السعالي الأخيرة معك، هيا، بسرعة.» وانطلق عند ذلك، سالكا المسرب وسط الغابة، وهو يقود أحد السعالي بيده، ولا يزال يغني. وأذكر أنني خطرت لي، ونحن نسير خلفه، صورة عازف المزمار الأسطوري الذي سحر الأطفال بموسيقاه فاتبعوه حتى اختفوا في كهف في جانب الجبل.
أما أنا فكانت مهمتي محددة في آخر الحشد، كانت بعض الصغار تحب أن تلعب لعبة «الاستغماية» أكثر من اهتمامها بالسير وراء الكبار. واضطررت في النهاية إلى أن التقط اثنتين منها وأحملهما، كل واحدة في ذراع. كان وزنها أكبر كثيرا مما يدل عليه منظرها، وظللت ألقى النظرات خلفي، من فوق كتفي، عسى أن أرى كيكانبو، وأناديه ولكنه لم يحضر رغم كل ذلك.
وتوقف صوت محرك السفينة، وسمعت بعض الأصوات. كانت عالية، أصوات رجال، وضحكات. كنت الآن أجري، والصغيرتان متعلقتان برقبتي، وكانت الغابة ترتج بأصوات النعيب والعواء في انزعاج في كل مكان حولي.
وعندما وصلت إلى الكهف سمعت صوت أولى الطلقات التي تردد صداها في الفضاء. وهب كل طائر وكل خفاش في الغابة طائرا، حتى اسود لون السماء التي امتلأت بصرخاتها الحادة. وحشدنا السعالي معا في آخر الكهف، وانكمشنا في الظلام معها، وأصوات طلقات الرصاص لا تنقطع.
كانت توموداكي أشد السعالي قلقا واضطرابا، لكنها جميعا في حاجة إلى التسرية وبث الاطمئنان في قلوبها دائما، وهو ما كان كنسوكي يقوم به، إذ لم يتوقف عن الغناء لها طيلة هذا الكابوس الرهيب.
كان الصيادون قد اقتربوا، بل اقتربوا اقترابا شديدا، وهم يطلقون النار ويصيحون. وأغلقت عيني ودعوت الله. وكانت السعالي تئن بصوت مرتفع كأنما تغني مع كنسوكي، وكانت ستلا طول الوقت ترقد عند قدمي، وفي حلقها زمجرة مستمرة. وكنت أقبض على غضون عنقها طول الوقت، تحسبا للمفاجآت. وكانت صغار السعالي تدفن رءوسها في جسمي حيثما استطاعت، تحت ذراعي، وتحت ركبتي، وتتشبث بي.
كانت الطلقات تدوي الآن على مقربة شديدة منا، تشق الهواء ويرجع الكهف أصداءها. وسمعت صيحات انتصارات بعيدة، وكنت أعرف خير معرفة ما لا بد أن يعنيه ذلك.
وابتعد موقع الصيد بعد ذلك. لم نعد نسمع أية أصوات، باستثناء الطلقة العارضة، ثم ساد الصمت. سكتت الغابة كلها. ومكثنا حيث كنا ساعات طويلة. كنت أريد أن أغامر بالخروج لأرى إن كانوا قد رحلوا، ولكن كنسوكي رفض. كان يغني طول الوقت، وظلت السعالي رابضة معا حولنا، حتى سمعنا صوت تشغيل محرك القارب. ومع ذلك، فقد جعلني كنسوكي أنتظر فترة أخرى. وعندما خرجنا أخيرا كانت السفينة قد أبحرت وابتعدت كثيرا عن الشاطئ.
وبحثنا في الجزيرة عن كيكانبو، وغنينا له، وناديناه، لكننا لم نلمح له أثرا، واستولى على كنسوكي يأس عميق. لم يكن يعزيه شيء. فانطلق وحده فتركته يذهب. وبعد قليل مررت به وقد انحنى على جثتين من جثث قرود الجيبون، وكانتا من الأمهات. لم يكن يبكي آنذاك، لكنه كان قد بكى قبل أن أصل. كانت عيناه يغمرهما الإحساس بالأذى والحيرة. وحفرنا حفرة في الأرض الرخوة على حافة الغابة ودفناهما. لم تبق لدي كلمات أقولها، ولم تبق لدى كنسوكي أغان يغنيها.
كنا نسير في طريق العودة الحزين على الشاطئ حين فوجئنا بالصغير كيكانبو خارجا من مكمنه: أقبل في شبه هجوم علينا، وهو ينثر الرمل علينا ثم قفز فوق ركبة كنسوكي والتف برقبته. كانت لحظة سعيدة، لحظة رائعة.
وفي تلك الليلة غنى كنسوكي معي أغنية «عشر زجاجات خضراء» المرة تلو المرة، بصوت بالغ الارتفاع، ونحن نتناول حساء السمك. ولا بد أن ذلك كان يمثل رثاء من نوع ما لقردتي الجيبون القتيلتين، وأنشودة فرح في نفس الوقت بالعثور على كيكانبو. وبدا أن الغابة خارج الكهف ترجع أصداء غنائنا.
لكنه اتضح لي في الأسابيع التالية أن كنسوكي كان مستغرقا في تأمل الأحداث الرهيبة التي وقعت في ذلك اليوم. وانطلق يصنع قفصا من الخيزران المتين في آخر الكهف كيما يدخل فيه السعالي فتكون أكثر أمنا إذا حدث وعاد القتلة يوما ما. وظل يتحدث في الموضوع مرارا وتكرارا، فكان يقول إنه كان ينبغي أن يصنع القفص من قبل، ويقول إنه لم يكن ليصفح عن نفسه لو كان الرجال قد أسروا كيكانبو، وكم يتمنى لو كانت قرود الجيبون تستجيب لغنائه وتأتي حتى يستطيع إنقاذها كذلك. وقطعنا بعض فروع الأشجار وبعض النباتات من الغابة ووضعناها خارج مدخل الكهف، حتى نستطيع إقامتها ستارا يخفيه عن العيون.
وأصبح بالغ القلق، بالغ الاضطراب، وكان كثيرا ما يرسلني إلى قمة التل ومعي المنظار المقرب حتى أرى إن كانت السفينة الينك قد عادت. لكنه مع مرور الوقت، ومع انحسار التهديد بخطر وشيك، عاد له طبعه الأول. ومع ذلك، كنت أحس أنه دائما على حذر، دائما متوتر قليلا.
ولما كان يحتفظ الآن بعدد كبير من لوحاتي، فقد اكتشفنا أن ما لدينا من صدفات تصلح للرسم عليها يوشك أن ينفد. وهكذا انطلقنا مبكرا ذات صباح في رحلة للبحث عن المزيد منها. وفحصنا الشاطئ كله بدقة، وقد انحنى رأسانا، ونحن نسير بجوار بعضنا البعض، لا تفصلنا إلا مسافة قصيرة. وكان العمل بجمع الصدفات دائما ما يتضمن عنصر المنافسة: من أول من يعثر على صدفة صالحة، ومن يعثر على أكبر صدفة، وأكثر الصدفات كمالا. لم نكن قد قضينا وقتا طويلا في البحث، ولم يكن أي منا قد عثر على صدفة واحدة، عندما أدركت فجأة أنه توقف عن المسير.
وهمس قائلا: «ميكاسان»؛ مشيرا إلى البحر بعصاه. كان في البحر شيء ما، شيء أبيض، لكنه كان محدد الملامح، محدد الشكل إلى الدرجة التي يستحيل معها أن يكون سحابة.
كنت قد تركت المنظار المقرب في الكهف. فانطلقت أعدو، وستلا تنبحني طول الطريق، عائدا إلى منزل الكهف، فالتقطت المنظار المقرب واندفعت حتى وصلت إلى قمة التل. شراع! بل شراعان! شراعان أبيضان. ونزلت التل قفزا، فدخلت الكهف والتقطت عصا مشتعلة من النار، وعندما وصلت إلى قمة التل كان كنسوكي قد سبقني إليه. وأخذ المنظار المقرب من يدي ونظر بنفسه.
وسألته: «هل أشعل النار؟ هل أشعلها؟»
وقال: «لا بأس يا ميكاسان. وهو كذلك.»
ودسست العصا المشتعلة في أعماق المنار، بين أوراق الشجر والأغصان الجافة في قلب المنار، واشتعلت فيه النار على الفور تقريبا، وسرعان ما سمعت أزيز ألسنة اللهب وهي تضطرم في الخشب، بل وتكاد تلمسنا أطرافها حيثما وجهتها الرياح. وتراجعنا من شدة اللظى والحرارة المفاجئة. وأحسست بخيبة الأمل لكثرة ألسنة اللهب، إذ كنت أنشد الدخان، لا النار. كنت أريد سحابات دخان تصعد في الجو.
وقال كنسوكي: «لا تقلق يا ميكاسان. سوف يشاهدون هذا قطعا. سترى.»
وتناوبنا استعمال المنظار المقرب. ولكن اليخت لم يستدر. لم يشاهدوا النار. وكان الدخان قد بدأ يمور صاعدا في السماء. وباستماتة ألقيت المزيد والمزيد من الخشب في النار، حتى أصبحت جحيما هادرا من ألسنة اللهب والدخان الكثيف.
وكنت قد ألقيت آخر الخشب الذي لدينا تقريبا في النار حين قال كنسوكي فجأة: «ميكاسان! إنها قادمة. أظن أن السفينة قادمة.»
وأعطاني المنظار المقرب. كان اليخت يستدير. كان يستدير قطعا، وإن كنت لم أستطع أن أتبين إن كان يستدير باتجاهنا أو بعيدا عنا. وقلت له: «لا أدري. لست واثقا.»
وأخذ مني المنظار المقرب وقال: «أؤكد لك يا ميكاسان أن السفينة قادمة نحونا، لقد رأونا. واثق كل الثقة. إنها قادمة إلى هذه الجزيرة.»
وبعد لحظات عندما ملأت الريح الشراعين، تأكدت أنه على حق وتبادلنا الأحضان على قمة التل بجانب المنار المتقد. وبدأت أتواثب في مكاني كالمجنون، وغضبت ستلا مني. وكنت كلما نظرت في المنظار المقرب الآن أرى اليخت يزداد اقترابا.
وقلت: «إنه يخت كبير، لا أستطيع أن أرى رايته. لكن جسم السفينة أزرق أدكن، مثل بيجي سو»، وفي تلك اللحظة فقط، لحظة النطق باسم السفينة عاليا، بدأت آمل أن تكون هي، وتدريجيا تحول الأمل إلى اعتقاد، وتحول الاعتقاد إلى يقين. ورأيت قبعة زرقاء، قبعة والدتي الزرقاء. إنهما هما! إنهما هما! وهتفت وأنا ما زلت أنظر من خلال المنظار المقرب: «كنسوكي! كنسوكي! إنها السفينة بيجي سو. إنها هي. لقد عادا من أجلي، لقد عادا.» ولكن كنسوكي لم يرد. وعندما نظرت حولي اكتشفت أنه غير موجود.
وجدته جالسا في مدخل منزل الكهف، وكرة القدم في حجره. ورفع بصره إلي، وكنت أعرف من نظرات عينيه ما كان يوشك أن يقوله لي.
وقف ووضع يديه على كتفي، وصوب إلى عيني نظرة عميقة، وقال: «أصغ إلي الآن جيدا يا ميكاسان. إنني عجوز جدا لا أستطيع التوافق مع ذلك العالم الجديد الذي تحكي عنه. إنه عالم مثير جدا، لكنه ليس عالمي، عالمي كان اليابان، من زمن بعيد جدا. والآن أصبح عالمي هنا. لقد فكرت في الأمر طويلا. إذا كانت كيمي على قيد الحياة، وكذلك ميشيا، فسوف يظنان أنني مت منذ زمن بعيد. سأصبح مثل شبح يعود إلى المنزل. لم أعد نفس الشخص، ولم يعودا ما كانا عليه. أضف إلى ذلك أن لي أسرة هنا. أسرة السعالي. لربما عاد القتلة من جديد. من الذي يرعاها إذن؟ لا! سوف أبقى في جزيرتي. هذا مكاني. هذه مملكة كنسوكي. لا بد أن يبقى الإمبراطور في مملكته، ويرعى شعبه. الإمبراطور لا يهرب. ليس أمرا مشرفا.»
كنت أدرك أنه لا جدوى من التوسل أو المناقشة أو الاحتجاج، ووضع جبهته فوق جبهتي وتركني أبكي. واستمر قائلا: «اذهب أنت الآن، ولكن قبل أن تذهب، لا بد أن تعدني بثلاثة أشياء. أولا: ألا تهجر الرسم في أي يوم من أيام حياتك، حتى تصبح فنانا عظيما مثل هو كوساي، وثانيا: أن تفكر في أحيانا، بل أحيانا كثيرة، بعد أن تعود إلى وطنك في إنجلترا. إذا رأيت البدر المنير في السماء فتذكرني، وسوف أفعل مثل هذا هنا. وهكذا لن ينسى أحدنا الآخر أبدا. والوعد الأخير بالغ الأهمية لي. من بالغ الأهمية ألا تقول شيئا عن هذا، ولا عني. لقد جئت إلى هنا وحدك. ومكثت وحدك في هذا المكان. مفهوم؟ لست موجودا هنا. أما بعد عشر سنوات فلك أن تقول ما تشاء. فلن يبقى عندئذ مني سوى العظام. ولن يهم ما يكون عندها. لا أريد لأحد أن يأتي للبحث عني. فأنا أقيم هنا وأعيش حياة السلم. لا أريد بشرا؛ فالبشر عندما يأتون ينتهي السلم. مفهوم؟ هل ستكتم سري يا ميكا؟ هل تعدني بذلك؟»
وقلت له: «أعدك.»
وابتسم وأعطاني كرة القدم، قائلا: «خذ كرة القدم. أنت ماهر في لعب الكرة، ولكنك أمهر كثيرا في الرسم. اذهب أنت الآن.» ثم وضع ذراعه على كتفي واصطحبني خارج الكهف، وقال: «اذهب.» ومشيت خطوات معدودة ثم التفت إليه. كان لا يزال واقفا في مدخل الكهف فقال: «اذهب الآن من فضلك» ثم انحنى لي. وانحنيت له وقال: «سايونارا يا ميكاسان! لقد تشرفت بمعرفتك، أكبر شرف في حياتي.» ولم أجد عندي الصوت الذي أجيبه به.
كانت الدموع تغشي بصري وأنا أجري في المسرب. ولم تأت ستلا على الفور، لكنها أدركتني عندما وصلت إلى حافة الغابة. وانطلقت تعدو مسرعة على الشاطئ وهي تنبح السفينة بيجي سو، لكنني ظللت مختبئا في ظل الأشجار أبكي حتى نفدت دموعي. وتابعت بعيني بيجي سو وهي تدخل مياه شط الجزيرة، وكان فوقها حقا والدتي ووالدي. وكانا قد شاهدا الآن ستلا وجعلا يناديانها، وكانت تنبح نباحا شديدا أطار عقلها. وشاهدت مرساة السفينة وهي تهبط.
وهمست «وداعا يا كنسوكي» وأخذت نفسا عميقا وانطلقت أجرى على الرمل وأنا ألوح بيدي وأصيح.
ونزلت أجري في المياه الضحلة لملاقاتهما. وجعلت أمي تحتضنني وهي تبكي حتى ظننت أن عظامي سوف تتكسر. وظلت تقول وتكرر: «ألم أقل لك إننا سنجده؟ ألم أقل لك؟»
وكانت أولى كلمات والدي لي حين رآني: «مرحبا أيها القرد.»
ظلت والدتي ووالدي يبحثان عني ما يقرب من عام كامل. ولم يكن أحد على استعداد لمساعدتهما، لأن أحدا لم يكن ليصدق أنني ما زلت على قيد الحياة، وكان الناس يقولون لهما إن احتمال حياته لا يصل حتى إلى واحد في المليون. وقد اعترف والدي فيما بعد بأنه كان يتصور أنني مت ولكن والدتي لم تفقد الأمل قط. كنت بالنسبة لها دائما على قيد الحياة، وكانت تقول إنني لا بد أن أكون حيا، وكانت واثقة من ذلك بقلبها وحسب. وهكذا ظلا يبحران من جزيرة لجزيرة، ويواصلان البحث حتى عثرا علي. لم يكن ذلك بفعل معجزة، بل بفعل الإيمان.
حاشية الرواية
بعد أربع سنوات من نشر هذا الكتاب تلقيت الرسالة التالية:
عزيزي مايكل
أكتب هذه الرسالة لأقول لك، بلغتي الإنجليزية الركيكة، إن اسمي ميشيا أوجاوا. وأنا ابن الدكتور كنسوكي أوجاوا. كنت أتصور حتى قرأت كتابك أن والدي مات في الحرب . وقد توفيت والدتي منذ ثلاث سنوات فقط وكانت لا تزال تعتقد ذلك. وكما تقول في كتابك، كنا نعيش في نجاساكي، ولكن حالفنا حسن الحظ كثيرا، إذ كنا ذهبنا إلى الريف لزيارة جدتي والمكوث عندها عدة أيام قبل سقوط القنبلة، وهكذا كتبت لنا النجاة.
ليست لدي ذكريات عن والدي، بل بعض الصور الفوتوغرافية فقط، إلى جانب كتابك. وسوف يسرني أن أحادث أي شخص عرف والدي مثلك. وليتنا نتقابل يوما ما. أرجو ذلك.
مع أطيب أمنياتي،
ميشيا أوجاوا.
وبعد شهر من تسلم هذه الرسالة ذهبت إلى اليابان، وقابلت ميشيا. إنه يضحك تماما مثلما كان والده يضحك.
ジ·エンド
معجم
あぶない
أبوناي
خطر!
アメリカ人
أمريكاجين
شخص أمريكي
だめだ
داميدا
ممنوع
英国人
إيكوكويين
شخص إنجليزي
ごめんなさい
جوميناساي
آسف
ジャパン ...
اليابان
きかんぼう
كيكانبو
きみ
كيمي
道哉 (みちや)
ميشيا
長崎 ...
نجاساكي
おやすみなさい
أوياسومي ماساي
تصبح على خير
さよなら
سايونارا
إلى اللقاء
ともだち
توموداكي
ジ·エンド ...
النهاية
やめろ
ياميرو
قف!
अज्ञात पृष्ठ