مرت الأسابيع سراعا، ولكنها مرت حافلة عامرة، وقد انتظم ثلاثتهم - أمين وبثينة وفريد - في الحضور إلى المنحل، دون أن يفوتهم التردد أيضا على المناحل الأخرى، وتخلى أمين عن أنانيته وحبه الاستمتاع وحده بصحبة بثينة رغبة منه في استفادتها علما وتمرينا وإنتاجا، فكان يعرفها إلى أصدقائه النحالين المتعلمين، وكان يعطيها كل الفرص المتاحة للمشاهدة والخبرة، وأجاز أحلامها فهيأ لها فرصة في أثناء فيض عسل القطن والخضر لتربية الملكات صناعيا مختارا يرقات طائفة كرنيولية ممتازة، فكانت فرحة بثينة عظيمة بنجاحها، وتردد الطلبة على المنحل فتهيأت منهم حلقات للدرس، وكانت بثينة وفريد يتبادلان معا إرشاد المبتدئين طورا تحت إشراف أمين وتارة مستقلين، وكان أمين في تدريبهما يجهد كأنه يسابق الزمن، كأنما يريد أن يلقنهما في أسابيع ما يستأهل شهورا من الدرس، وأن يمرنهما على تلك المعرفة تمرينا قويا جبارا، والمثل يقول: «حيثما وجدت الرغبة وجدت الوسيلة» وقد كانت الرغبة قوية في المعرفة والتمرن عند بثينة وفريد، فكانا متجاوبين مع أستاذهما تجاوبا تاما، وكانت حماستهما لا تحد. درس أمين معهما شتى الأزهار التي يهواها النحل، وكثيرا ما كان يصحبهما إلى الحقول وإلى شاطئ الترعة وإلى حوافي الجداول لجمع الأزهار ثم يدرسونها معا - في مكتبه وعلى الأخص الأعشاب الآبدة منها - مستعينين بما لديه من مراجع علمية عن النباتات العسلية، ولم يفته معهما فحص نماذج من العسل ميكروسكوبيا بعد ترسيب محتوياته من الطلع؛ للاستدلال منها على مصادره ومعرفة صنفه، وهكذا كان ينتقل بهما من النظريات إلى العمليات ومن العمليات إلى الفحص العلمي الخالص وإن كانت له قيمته التطبيقية.
ودرس معهما بصفة خاصة كيفية ضبط الانثيال في المنحل (وإن كان وقت الترويح إليه محصورا في مدة معينة تختلف باختلاف كل منطقة، وإن عمها إجمالا جانب من فصل الربيع) وكيف يمكن عمل نول صناعي، أي تقليدا للطبيعة، وذلك بأخذ أقراص الحضنة بما عليها من نحل من الطائفة النزاعة إلى الانثيال المصرة على بناء بيوت الملكات وتربيتها ونقلها إلى خلية جديدة في مكان آخر مع بيت ملكة جيد النضج، على أن يترك في الخلية الأصلية قرص من الحضنة المختومة، وتنزع البيوت الأخرى إذا لم توجد حاجة إليها أو تستعمل في خلايا أخرى تحتاج إليها إما بسبب يتم طوائفها وإما استبدالا لملكاتها المسنة أو العاجزة، وإما لتأليف نويات جديدة، وهكذا لا يبقى في الخلية الأصلية سوى أقراص العسل والطلع والملكة وبعض النحل الصبية والمتوسطة العمر وجمهرة النحل، وفي المعتاد يكفي هذا لتثبيط روح الانثيال التي يعدها أمين من أخطر ما يسيء إلى المناحل الخارجية أي المناحل الريفية البعيدة عن المنحل المركزي، أي عن مكان الإدارة.
كذلك أراهما كيف يمكن عمل ثلاث طوائف من طائفتين مستعينا بأقراص من الحضنة وبيت ملكة من إحداهما وبالنحل من الطائفة الأخرى حيث يضع الخلية الجديدة محلها، كما أراهما عمليات شتى على هذا النحو وغيره بالإكثار متى توفر النحل وبيوت الملكات والملكات، وإنما كان يشترط لنجاح كل ذلك أولا: مواتاة الظروف بالنسبة للجو والرحيق، وثانيا: استغلال رغبة النحل ذاتها في التكاثر، فكان يأبى تقسيم أي طائفة لا تنزع إلى بناء بيوت ملكات إلا إذا كانت في متناوله ملكات جديدة مخصبة، وكان مع ذلك الجو والرحيق يسبب ما يطرأ من ظهور «أمهات كاذبة » أي «عاملات بياضة»، وهذه وإن لم تكن مألوفة بهذه الصورة في هجين النحل الكرنيولي الإيطالي إلا أنها كثيرا ما تظهر في هجين النحل الشرقي والأفريقي متى أحست الطائفة بفقد ملكتها، فتكون هذه «العاملات البياضة» مبعث متاعب عديدة.
ودرس أمين معهما علامات السرقة، سرقة النحل من بعض، وكيفية تحاشي ذلك بعدم فتح الخلايا في أثناء النهار عندما ينضب الرحيق بالحقول، وبتحاشي عرض أية مادة سكرية في المنحل إبان فترة الجدب، وبالامتناع عن أية تغذية إلا قبيل المساء وعلى وجه السرعة وعند الضرورة فقط حتى لا تنتبه النحل الطائرة إلى هذه العملية، فتهاجم الطوائف المغذاة حتى ولو كان لدى طوائفها هي الغذاء الكافي بل نفس التغذية الصناعية.
وعودهما الاستماع إلى أصوات النحل المختلفة، وتبين الفروق بينها - من صوت الملكة التي تنادي طائفتها للانثيال، إلى صوت النحل الصبية التي تطير لأول مرة راقصة مرحة مستمهلة أمام باب الخلية دارسة معالمها وجيرتها قبل أن تجازف بالابتعاد عنها، إلى صوت النحل اليتيمة المستكينة، إلى صوت النحل الخائفة، إلى صوت النحل القانعة الراضية، إلى صوت النحل الغاضبة، إلى صوت النحل السارقة، إلى صوت الذكور المتميزة الطنين في أثناء طيرانها، وكان يبين لهما فائدة هذه المعرفة من الوجهة العملية، ووقعت مرة حادثة سرقة لنواة فعمل على وقف السرقة بنقل النواة من محلها مؤقتا وبدهن بابها بمحلول الكربوليك فلم يجد ذلك نفعا، وأخيرا ضمها إلى طائفة صغيرة لم تعجبه ملكتها فقتلها واضعا جريدة مبسوطة فوق غرفة التربية وقد ثقبها ثقوبا متعدة بمسمار صغير واضعا أقراص النواة بنحلها في الدور الأعلى، ثم قافلا الخلية بعد ذلك حتى يتيح للنحل فرصة قرض الجريدة في مواضع الثقوب، ثم الاختلاط بعضها ببعض دون نزاع بعد أن تتوحد رائحتها، وقد أوضح لهما أن هذه هي الطريقة المثلى للتوحيد (أي الضم)، وأن الواجب اللجوء إليها كلما وجدت طوائف يتيمة أو نويات ضعيفة ولم تسمح الظروف - كما قد يحدث في الخريف عند نهاية الموسم - بتربية ملكات جديدة، وبالحصول على ملكات مخصبة جيدة؛ إذ لا فائدة من محاولة تشتية نحل ضعيفة الطوائف وتعريضها لعبث الجو البارد الممطر بها ولمهاجمة الأعداء لها.
وتناول معهما مسألة تدريج العسل وإعداده في حالة جذابة للسوق وكيفية خزنه، ولم يفته قبل التشتية، وبعد انتهاء آخر فرز من التعاون معهما على تغذية الطوائف بعض التغذية السريعة؛ إذ كان قد صرح أن ما في الحقول من خضر وذرة كاف إلى حد بعيد بموافاة النحل بحاجتها من الغذاء حتى شهر مارس «المقبل» حين تشتد حاجة النحل إلى زيادة الغذاء بسبب التوسع في تربية الحضنة.
وكان مما ذكره عن تدريج العسل أنه من الوجهة التجارية تحسن بنا دراسة ذوق الجمهور الذي نبيع له أعسالنا، فإذا كان شديد الانقسام بعضه يحب العسل الأبيض، وبعضه يؤثر العسل الأصفر، وغيرهما يؤثر العسل القاتم؛ فمن المصلحة حينئذ فرز هذه الأعسال على حدة وتدريجها، وتعيين أثمان خاصة لكل منها حسب المقدار الميسور من الفرز ومزاياه؛ إذ من المعقول مثلا أن يكون عسل الأشجار العطر الرائحة - ولو أنه قاتم اللون - أغلى ثمنا من عسل القطن، وعلى الأخص بعد أن أثبت التحليل الكيميائي وجود الحديد في العسل القاتم مما يجعله ملائما للأطفال، أما إذا كان الجمهور لا يهمه هذا الاختلاف اللوني، ويعني على الأكثر بطعم العسل، فمن الحكمة مزج الأعسال وضبط لون قياس لها يعرف به إنتاج المنحل إلى جانب اسمه ووسمه.
وكرر أمين التنويه بأهمية التعبئة الحسنة، وإن كانت وحدها لا تكفي لرواج العسل، وإذا خدع بها بعض المشترين أولا فسرعان ما يكشف عيب العسل وغشه فينصرف الجمهور عنه، ومن أبرز هذه العيوب الواضحة: بيع عسل الكوارات باسم عسل ناتج من خلايا فرنجية حديثة. أو بيع عسل مغشوش مخلوط بشراب الجلوكوز كأنه عسل نحل نقي، ولكن ليس معنى اغترار أي نحال بإنتاجه النظيف الجيد أن يهمل تعبئته الحسنة أو يقصر الدعاية له، ولعل أفضل الأوعية من وجهة الدعاية هي الأوعية الزجاجية البلورية، وقد برعت أمريكا في صناعتها بأشكال وأحجام شتى، وبعضها في هيئة مرجونة النحل، وقد رسم شكل النحل بارزا عند بابها، فمن هذه الزجاجات يلوح العسل جذابا للناظرين ويراودهم لشرائه، ولو أن لعلب الورق المشمع وللصفائح مزاياها إما من جهة الرخص وإما من جهة المتانة والقابلية للتصدير متى لحمت أغطيتها، وكلتاهما مما يمكن وضع اسم المنحل وعنوانه مع تصوير النحل والأزهار وما إلى ذلك عليها في صورة جذابة.
وأشار أمين إلى أنه من مصلحة النحال أن يبيع إلى جانب العسل المفروز بعض العسل الشمعي أو على الأقل يعرضه في متاجر بيع العسل كإعلان له، ولو أن إنتاج العسل الشمعي وعلى الأخص في هيئة القطاعات - وهي العلب الصغيرة المعدة لإنتاج رطل من العسل الشمعي في كل منها - يحتاج أولا إلى طوائف بالغة القوة، وثانيا: إلى مناطق عظيمة السخاء غزيرة الفيض بالرحيق، وثالثا: إلى جهات غير شديدة الحرارة حتى لا تأبى النحل الاكتظاظ في عاسلات القطاعات.
وانتهز أمين نجاح الفرزين فنوه من جديد بالأقراص الصناعية التي كان امتلاؤها بالعسل قرة للعيون، والتي كانت تسمح لمتانتها بالفرز السريع دون أي خشية عليها من التلف، في حين أن عددا من الأقراص الشمعية - وعلى الأخص الأقراص الجديدة - ما كان يستطاع فرزها فرزا كاملا، وتعرض بعضها للتلف.
अज्ञात पृष्ठ