أما في عيد ميلاده الثمانين، فقد وقف يهنئ صف المدعوين الطويل وهو يربت بكلتا يديه على يد كل منهم ويقول: «أتمنى لك كل الخير والسعادة والصحة.» وكان يبدو يقظا ومستمتعا بوضوح بهذا المشهد، ولم يبد كشخص يؤدي واجبا عليه. وطلب من العمدة - الذي عرفه والدي مجريات العمل قبيل خروجه إلى المعاش - ألا يتكلم كثيرا وأن ينشد له أغنية، وهو ما أضحك الحضور.
وأعد إخوتي عرضا تفاعليا يقدم لقطات من حياته الطويلة، وكنت جالسا إلى طاولة مع بعض إخوته؛ لذا لم ألحظ تأثير تلك الصور عليه، ولكن على ما يبدو أنه كان مندمجا مع تعليقات وضحكات الضيوف، ولكن عندما عرضت صورة لجدي، الحداد، يرتدي مريلته الجلد ويضع مطرقة ثقيلة على كتفه، بدأ أبي يتكلم عن نقاط ضعفه: «لم أعد أصلح لأي شيء أيها السادة، لا يهم، فهذا الأمر لن يزلزل العالم.»
وأضاءت الشاشة البيضاء بصور من بدايات الخمسينيات؛ «أدولف وتريزيا جايجر» وحولهما أبناؤهما التسعة الذين كانوا لا يزالون يسكنون معهم نفس البيت، وذلك قبل وفاة إيما، إحدى البنات الثلاث، إثر انفجار الزائدة الدودية. أدهشني كم كان يبدو جداي كبيرين في السن في ذلك الوقت؛ كانا يبدوان على أعتاب الشيخوخة، مع أن جدتي عاشت أربعين سنة بعد ذلك ولم يتغير شكلها كثيرا؛ سيدة أنهكها العمل، قصيرة وذات شعر رمادي وتجاعيد عميقة.
كانت الأسرة كلها مجتمعة باستثناء أحد الأبناء الذين ما زالوا على قيد الحياة؛ أشخاص من حقبة ماضية، أبناء أسرة ريفية كانوا يشحذون أقلام المدرسة على عتبة القبو؛ لأنها كانت من الحجر الرملي وكانت الأنسب لهذه المهمة. أفراد هذه العشيرة الغريبة كانوا مبتكرين بصورة مدهشة، وكانوا نشيطين بصورة غريبة، ويتمتعون بمخيلة عملية أكثر منها حالمة. غاب عنا يوزيف فقط؛ فهو الوحيد الذي انسلخ من مغناطيس العائلة وانطلق بثقة لاستكشاف العالم عندما هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية الخمسينيات، وحقق هناك حلمه من خلال اختراع جهاز كهربي لفتح العلب.
سألت إخوة أبي إذا كان لدى أحدهم نسخة من الصورة التي التقطت لأبي بعد إطلاق سراحه من المعتقل الحربي. عرف الجميع فورا أي صورة أعني، إلا أنهم هزوا رءوسهم التي علاها الشيب بالنفي. قالت عمتي ميلا التي تخطت الثمانين من عمرها إن تلك الأوقات كانت مختلفة ولم يكن الناس يطبعون من كل صورة عدة نسخ كما يشاءون.
حكى باول عن رحلة عودته من الحرب، وأنه رأى صورة مريعة؛ إذ ضرب إعصار حدائق الفاكهة قبل قدومه بفترة قصيرة، وسقطت أشجار وتناثرت في وسط الحقول، وكان معظم الرجال القادرين على العمل غائبين في الحرب، وامتلأ المكان بالحشائش والشمندر، وأثقل العمل في الحظائر والبيوت كاهل النساء. أما روبيرت الذي بلغ عند نهاية الحرب سن التاسعة فقال إنه كان يعمل في الحقل عندما انقلب الطقس فجأة، فتمسك بشجرة وسقط الثلج على رجليه بقوة، وكادت العربة المحملة بالقش تنقلب بالقرب من الكوخ المبني من الحجر الجيري عندما كان باقي الإخوة يحاولون دفعها، وبدأت بعض الأشجار في الازدهار في الخريف بعد أن أتت العاصفة الثلجية على ثمارها.
نسي أبي كل هذا، ولم تعد تؤلمه تلك الذكريات، ولكنها تحولت إلى سمات في شخصيته، وبقيت له تلك الشخصية؛ فالخبرات التي شكلت شخصيته بقيت مؤثرة. •••
قضيت في ذلك الصيف - كما في الأعوام الماضية - عدة أسابيع في بيت والدي. كان من الواضح أن المسافة الكبيرة التي نشأت في شبابي بيني وبين أبي تلاشت، وأن فقدان التواصل الذي خشيت أن يفرضه علينا المرض لم يحدث؛ فبدلا من ذلك تصادقنا مجددا، وكانت هذه الصداقة بفضل المرض والنسيان غير متكلفة؛ لذلك رحبت بتأثير النسيان على تلك العلاقة؛ فقد نسينا جميع خلافاتنا، ورأيت أن هذه الفرصة لن تتكرر.
في تلك الأثناء، كانت صديقتي كاتارينا التي كانت تسكن وقتها في إينسبروك تقضي أيضا بعض الأيام في فولفورت. ضغطنا على أبي ذات يوم ليخرج معنا في نزهة، فخرج رغما عنه وأراد طوال الوقت الرجوع إلى البيت، مع أننا لم نغادر شارع أوبيرفيلد. ضايقني ذلك؛ لأن الأمسية كانت جميلة وكنت أود التنزه معه بمحاذاة النهر.
وبدا الارتياح على أبي عندما دخلنا جادة أوبيرفيلد مرة أخرى ونظرنا إلى القرية أسفل منا؛ فقد شعر بالسعادة وامتدح هذا المنظر الجميل.
अज्ञात पृष्ठ