وقلما رزقت امرأة ما رزقته هذه الإمبراطورة من الجمال الذي خلبت به قلوب أعاظم الرجال. وفي روسيا كلها لم يكن لها من شبيهات في بهائها الباهر وحسنها الساحر، سوى نساء قلائل قد لا يجاوزن عدد الأصابع. اسمع ما تقوله عن نفسها في استعدادها لحضور مرقص: «أعمد إلى شعري الطويل الجميل الحالك السواد، فأعقصه مكورا في مؤخر رأسي، وأشده بشريطة حرير بيضاء، وأزينه بباقة ورد نضرة الأزرار والأوراق، وأضع باقة أخرى مثلها في صدري فوق ريطة (ثوب) من حرير رقيقة شفافة، فأبدو بقامة تزدري الغصن لينا واعتدالا، وأفوق جميع أترابي حسنا وجمالا.»
هكذا كانت كاترين الثانية في فجر صباها ومطلع شبابها. وهاك ما يصفها به بونياتوسكي وهي في الخامسة والعشرين، قال: «بلغ جمالها الحد الذي يصل إليه عادة جمال كل امرأة؛ فقد كان شعرها شديد السواد، وبشرتها بالغة حدا لا يوصف من شدة النعومة ونصوع البياض، يزينهما لون زاه زاهر، ولها عينان نجلاوان قال الله كونا فكانتا آية في حسن التكوين، تحت حاجبين كالقوسين، وفوق أنف أقنى وفم جامع من الحسن كل معنى، وقد تفنن فيه بعض واصفيه فقال إنه مخلوق للثم والتقبيل. ولها قامة كالصعدة السمراء في الدقة والاستواء، وابتسامة تفتر بها عن الدر في المرجان، وضحكة يقع صوتها في الآذان أطيب من وقع أعذب الألحان.»
ويقول فولتير في وصفه لها إنه لم ير أجمل من يديها، ولا أشد بياضا ونعومة من جسمها. وقد ظلت غانية بهذه المحاسن الباهرة النادرة إلى وفاتها وهي مشرفة على السبعين.
وليس عجيبا أنها - وهي ممتازة بهذا الحسن الخالب والجمال الجاذب - تفتن ملوك أوروبا وعظماءها، حتى رأيناهم يغلون في تملقها وترضيها ولو بالجثو عند موطئ قدميها. وكانت أذناها مفتوحتين على الدوام لسماع الملث والتملق، وكان العالم مفعما بروح النفاق والرياء، وقد راجت فيه بضاعة المداهنة والمصانعة، وبلغ من شدة غلو القوم فيهما أنهم كانوا يجعلون من يرومون التزلف إليه في منزلة الإله المعبود. ولكن مما حير الأفكار في ذلك الحين، ولا يزال مدعاة حيرتها في هذه الأيام، أن كاترين كانت تختار من بين عباد حسنها وجمالها واحدا بعد آخر، تختصه بميلها إليه وولوعها به على مرأى جميع الناس ومسمعهم.
قلنا إنها عشقت كثيرين، ولكن واحدا منهم امتاز بأنها بلغت من شدة الافتتان به مبلغا عظيما، وبهذه الوسيلة تمكن من امتلاك قيادها والاستئثار بالتسلط عليها؛ وهو بتيومكين.
أما حكاية اتصاله بها فتلخص فيما يأتي:
بعدما توفي زوجها بطرس الثالث ألقيت مقاليد الحكم إليها، فخرجت ذات يوم لتشهد عرض جيوشها. واتفق أن أحد الجنود الفرسان لاحظ أن سيف الإمبراطورة بلا حمالة، فعدا على ظهر جواده وقدم إليها حمالة سيفه، فراقها ما أبداه من نباهة الشأن وسرعة الخاطر، وعبرت عن استحسانها لعمله بابتسامة سلبت لبه وأسكرت قلبه.
وهذه الحادثة البسيطة كانت فاتحة دخول بتيومكين في حياة كاترين، وتمثيله فصلا ذا شأن من رواية تاريخ روسيا في أيامها. وقبل انتظامه في الجيش كان طالبا في جامعة موسكو يستعد في كلية اللاهوت لأن يكون من رجال الدين، لكنه طرد من الجامعة لشدة كسله وإهماله، وكان في الجيش مثلا مضروبا في سوء الأخلاق ونقص الفهم.
وهذه الحادثة نفسها لم يكن فيها ولا في بطلها ما يحيي ذكرها في بال كاترين. ولكن حدث أنها كانت ذات يوم تبحث عما يسليها ويدخل السرور إلى قلبها، فسمعت بجندي مشهور بالبراعة في الألعاب الهزلية المضحكة، ومن فورها أمرت بأن يؤتى به إليها. وعندما وقع نظرها عليه تذكرت أنه بطل يوم العرض. ولما عرض ألعابه أمامها أعجبت كل الإعجاب بما أبداه من الحذاقة والمهارة والجسارة، ولا سيما في تمثيله لها نفسها في كثير من حركاتها وإشاراتها وغير ذلك؛ مما أضحكها ضحكا أسال دموعها على خديها. ومنذئذ بسم الدهر لبتيومكين، فطلع طالع جده وأشرق نجم سعده، فأعلنت شموله بحمايتها واستظلاله بظل رعايتها. وكان بعد في ريق صبوته غير بالغ العشرين سنة، فأمرت بتعليمه اللغة الفرنسوية، وتخريجه في جميع شئون الدولة، وحصرت اهتمامها كله في العناية بمستقبله.
وكان عشيقها الخاص في هذا الوقت غريغوري أورلوف، الذي كان فيما يظن أطول شبان روسيا قامة وأجملهم طلعة. ثم مرت السنون وبتيومكين يتقدم في رتب الجيش، ويترقى من ملازم إلى ما فوقه، حتى بلغ رتبة جنرال. ولما شعر باليأس من حصوله على ما طمحت إليه نفسه؛ أي أن يكون حبيب كاترين المخصوص، عزم أن يترهب ويدخل أحد الأديار، وإذا بكتاب قد جاءه في أحد الأيام من سنة 1773 من كاترين، ولم يخف عليه مضمونه. فإنها أشارت فيه إلى شدة اهتمامها بمستقبله وحرصها على سلامته، وختمته بقولها: «ولعلك بعد الفراغ من تلاوة هذا الكتاب تسأل لماذا كتبته إليك. فاعلم أني كتبته ليتضح لك مبلغ عنايتي بك؛ لأنني دائما أتمنى لك الخير والسعادة.»
अज्ञात पृष्ठ