في صباح اليوم الأول من شهر يناير سنة 1807، غصت بلدة برونيا التي بين بولستك ووارسو بأقدام ألوف من الزائرين القادمين إليها من العاصمة البولونية والأماكن التي حولها، وهم أشد ما يكون من حالات التلهف والاشتياق توقعا لمشاهدة نبوليون بونابرت، الذي كان مزمعا أن يمر في ذلك اليوم ببرونيا في طريقه إلى وارسو بعدما كان قد أخضع النمسا تحت قدميه، وألهب ظهر روسيا بسوط الفتك والتنكيل، ورمى جيوش بروسيا بحجارة من سجيل. هذا الفاتح العظيم الذي طبقت شهرة انتصاراته الخافقين، وأفعم صيت بطشه قلوب أهل أوروبا رعبا وذعرا، عده البولونيون مخلصا لهم، يعيد إليهم مجدهم الغابر، وعلى يده يستردون استقلالهم، ويجمعون شتيت شملهم، ويتبوءون مكانهم السابق بين دول أوروبا.
وأخيرا دنت الساعة المنتظرة وأقبلت المركبة التي تقل المنقذ العظيم داخلة به إلى بولونيا. فخف الجماهير يزحمون بعضهم بعضا للتيمن بمشاهدته والاحتفال باستقباله، ورددت جوانب الجو صدى أصواتهم وهي تضج بالهتاف له والاحتفاء به ضجيجا كهزيم الرعود القاصفة. وأحاطوا بمركبته إحاطة السوار بالمعصم، وارتفعت أيديهم إلى ما فوق رءوسهم تحييه وترحب به وتبتهل إليه. وإذ ذاك ارتفع من وسط الجمهور صوت عذب ينادي: «دعوني أمر. تنحوا من طريقي. أود أن أراه طرفة عين فقط.» فأجاب الجموع المحتشدة هذا الطلب، وإذا بفتاة حسناء يتألق نور الغيرة والحمية من عينيها الزرقاوين، ويتقد لظى البسالة والحماسة من وجنتيها الورديتين، قد اخترقت صفوف الألوف، ووقفت وجها لوجه أمام نبوليون وصاحت بأعلى صوتها: «أهلا وسهلا بالزائر العظيم الكريم. إن تعلقنا بشخصك المبجل لا يمكن التعبير عنه حتى بأبلغ الكلام، وابتهاجنا بمشاهدتك في البلاد التي تتوقع على يدك الإنقاذ يفوق الوصف، بل يشب عن طوق التصور.»
ولما رن صوتها الرخيم في أذني نبوليون التفت إليها ورفع قبعته تحية لها، وناولها طاقة زهر قائلا: «خذي هذه علامة سروري بكلماتك الحلوة، وأرجو أن نجتمع ثانية في وارسو؛ حيث أتملى مرة ثانية سماع هذه الكلمات العذبة من شفتيك الجميلتين.» ثم سارت به المركبة وهو يلوح بقبعته مودعا جماهير المستقبلين الذين شيعوه بالهتاف والدعاء، وملتفتا إلى الفتاة الجميلة التي حمل إليه صوتها الرخيم خلاصة تحية الأمة البولونبة وولائها.
وهذه الفتاة التي صار لها شأن يذكر في حياة نبوليون كانت ماري والسكا من أسرة بولونية معروفة ولكنها فقيرة إلى الغاية، وهي ابنة أرملة لها خمسة أولاد غيرها. وقد شبت على أمرين تمكنا منها؛ هما: محبة الله ومحبة وطنها الرازح تحت أثقال الظلم. وقبل بداءة قصتنا بثلاث سنوات - حين كانت ماري ابنة خمس عشرة سنة - كانت وهي أجمل فتاة في بولونيا قد تزوجت بأغنى أهل بلادها وأشرفهم حسبا، وهو أنستاس والسكا، ولكنه كان طاعنا في السن كأنه جدها. وبعد سنة ولدت له ابنا، فقصرت محبتها عليه، ووجهت كل اهتمامها إليه. ولأجله على الخصوص كانت تحن شوقا إلى ذلك اليوم الذي فيه يحطم وطنها العزيز نير ظالميه ويسترد حريته واستقلاله. ولأجله أقدمت على مقابلة نبوليون الذي به تعلقت آمالها وآمال قومها. ولم يخطر حينئذ ببالها أنها وهي تحامي عن بولونيا كانت تضحي بأغلى شيء عندها وتقدمه على مذبح محبتها لوطنها.
ولما رجعت عقيلة والسكا إلى بيتها عزمت أن تكتم ما فعلته في برونيا عن زوجها وغيره من أقرب الناس مودة إليها، وألا تبوح بسر طاقة الزهر التي أعطاها إياها نبوليون لأحد، بل تودعه صدرها إلى آخر يوم من حياتها. ولكن نبوليون أراد غير ذلك، وكان قد سأل عن هذه الغريبة الجميلة التي شغلت أفكاره، وعرف عنها ما يهمه، وبعث إليها الأمير جوزيف بونياتوسكي يدعوها من قبله إلى حضور حفلة رقص تقام إكراما له.
فأخذت منها الحيرة والارتباك كل مأخذ، وسألت الأمير: «لماذا يروم الإمبراطور أن يختصني بهذا الشرف؟ وكيف عرفني؟» فأجابها: «إن الجواب عن هذين السؤالين من شأن جلالته وحده، وأما أنا فإطاعة لأمره جئت إليك أدعوك إلى حفلة الرقص. ولعل العناية الإلهية اختارتك لتعيدي إلى وطنك حريته واستقلاله.» ولكنها سدت أذنيها عن سماع كلامه، وقالت له إنها لا تستطيع الحضور ولا ترومه. وما كاد الأمير يصل إلى الإمبراطور ويخبره برفضها دعوته حتى خف إليها عظماء بولونيا واحدا بعد واحد يتوسلون إليها أن تجيب الدعوة. ولما اقترنت هذه التوسلات بأمر مشدد من زوجها لم يبق في وسعها الإصرار على المخالفة. فأقدمت على هذه المحنة بخوف ووجل لم تعرف لهما سببا. فارتدت حلة من حرير أبيض، ووضعت على رأسها إكليلا من ورق الأشجار وذهبت إلى المرقص. ولما دخلت استوقف جمالها أنظار المدعوين، وهرع بونياتوسكي لاستقبالها مرحبا بها، وقائلا لها: «إن الإمبراطور منتظر قدومك بفروغ صبر، وقد سره حضورك سرورا لا مزيد عليه. وقد أمرني أن أطلب إليك أن ترقصي معه.»
فاعترضته قائلة: «لكنني لا أرقص، ولا أريد أن أرقص.» - إن رفضك للرقص معه يضرم نار سخطه وغيظه، ونجاح هذه الحفلة - حفلة الرقص - متوقف عليك. - يسوءني ذلك إلى الغاية، ولكن ... ولكنني ... بالحقيقة لا أستطيع الرقص، وأرجو أن تطلب إلى الإمبراطور العدول عن الرقص معي.
ولم تفرغ من النطق بآخر كلمة حتى التفتت فرأت الإمبراطور واقفا أمامها وهو يقول لها بصوت سمعه جميع الحضور: «أبيض على أبيض، ونور على نور!» ثم همس في أذنها: «عللت نفسي باجتماع آخر يختلف عن هذا الاجتماع بعد ...» ولكنها ظلت مطرقة، فلم تبسم له ولا نظرت إليه. ولم يلبث أن تركها ومضى.
ورجعت ماري والسكا تلك الليلة مثقلة بالهم والقلق. لم تجهل أنها أساءت التصرف، ولكنها لم تستطع خلاف ذلك. فماذا يعني الإمبراطور باهتمامه بامرأة وضيعة مثلها؟ لم تعلم سبب هذا الاهتمام، وقد داخلها الخوف منه، ولم ترد أن تراه بعد الآن. وفيما هي جالسة في مخدعها تفكر في هذا الأمر فتحت خادمتها الباب وناولتها بطاقة مكتوبا فيها: «لم أر غيرك. لم يرقني سواك. فإياك أبتغي. أجيبي على الفور وسكني روع «ن».»
فلما تلت هذه المطارحة الغرامية اضطرب قلبها واضطرمت وجنتاها، وبيد الغيظ والحنق طوت البطاقة وقالت للخادمة: «لا جواب!» ولما استيقظت من نومها في صباح اليوم التالي رأت خادمتها بجانب سريرها ومعها بطاقة ثانية من نبوليون، فلم تفتحها، بل وضعتها مع البطاقة الأولى في غلاف وأمرت بإرجاعهما إلى صاحبهما. واستولت عليها حيرة كادت تذهب بصوابها؛ لأنها لم تدر ماذا تفعل. لم تجسر أن تخبر زوجها، ولم يكن لها من تستشيره في أمرها وتستعين به على كشف الغمة وتفريج الأزمة.
अज्ञात पृष्ठ