إن موسى وعيسى ومحمدا وإخوانهم من الأنبياء والمرسلين لم يكونوا لاعبين ولا خادعين واهمين، بل هم عاملون لا يشبههم غيرهم من العاملين، وليست نهضاتهم الخطيرة مصادفات بتراء منعزلة عن حوادث هذا الكون الواسع الكبير، فنقول إنها فلتة لا تنطبق على أحكامه ولا تدل على غاياته. ولو قيل: إنهم طلاب مجد وعشاق خلود، قلنا: ولم يطلبون المجد ويعشقون الخلود؟ وما الذي جعل تعشقهم للمجد والخلود ينتهي هذه النهاية في نفع الخلق واستجاشة أفئدتهم وعقولهم وأنفسهم؟ أمضطرون هم في ذلك أم مختارون؟ وقائدون هم في فعلهم أم منقادون ؟ لا بل مضطرون لا يد لهم فيما يأخذون وفيما يتركون، ولا اختيار لهم في خلق أنفسهم بحيث ينادون الناس فيطيعون، وما قصدوا ما كان من آثارهم وما يكون، ولكنها تمت وهم لا يعلمون. وكم قصد العظماء نفعا للعالم فلم يتم ما قصدوه، وتم النفع من جهات عدة لم تخطر لهم على بال ولم تقع منهم في ظن أو تقدير، بل تم من الأمور بسببهم ما لو فطنوا إليه قبل وقوعه وعلموا أن أعمالهم تؤدي إليه لما عملوه، ولعملوا ما في وسعهم لإحباطه ومنعه. ريشيليو أراد أن يؤيد الملكية في فرنسا فأسقط الملكية؛ ألا يدل ذلك وأمثاله على أننا آلات مسيرة لقدرة لا نهائية عميقة الحب والخير؟ ألا يجب علينا أن نؤمن بتلك القدرة وننيب إليها ما دامت تحيط بنا وبأغراضنا، وما دامت تفعل من أجلنا وبأيدينا ما لا يدور بأخلادنا؟
معشر الأحياء:
إن كان الأسد يقول لكم: عليكم بالقوة، فأنا أقول لكم: عليكم بالعقيدة؛ لأنها تقوي الضعيف وتضاعف قوة القوي، وغاية الفرق بين ضعيف وقوي فيها أن الضعيف تحمله عقيدته، فلا ترى فيه إلا عقيدة سائرة، وأن القوي يحمل عقيدته فترى فيه العقيدة والمعتقد، وهي في الحالتين تخرق العادات، وتنجز الآيات المدهشات.
في القوة ترون عقيدة الفاروق وهو يحتد في عدله ويعدل في حدته، ويرهب النيل وما بالنيل من رهب أو رغب، ويعجب لموت النبي وما في الموت من عجب؛ هل أطمعته العقيدة حتى بطاعة الجماد والتمرد على الموت؟ يقيم الحد على ولده وله مندوحة عن جزائه، ويعلن الأذان بين جنود الكفر وأبنائه، ويهم بالخطوب الجسام فما هي إلا كرجع الصوت، ويهور الممالك بشراذم لا يملكون من أنفسهم ما ينفسونه على الموت. هذه هي العقيدة في القوة.
وفي الضعف ترون العقيدة في جان دارك العذراء النحيلة، وهي تزجي عسكرا وتتوج أميرا، وترونها تحت أسوار أورلينز والدمع يطفر من عينها، والدم ينفر من عاتقها، وهي تترامى على الأسوار كأن الحمام لا يجرؤ عليها أو يحقق الله وعده بإنقاذ فرنسا على يديها . هذه هي العقيدة في الضعف.
واعلموا أنه لا يأس من أمة ما بقي فيها استعداد للعقيدة، وأنه لا أمل في أمة قد نضب فيها هذا المعين السماوي مهما أعجبتكم ظواهرها، وغرتكم بوادرها، فإنه لا عمل بغير أمل ولا أمل بغير إيمان.
وإذا كان القرد يقول لكم: عليكم بالحق، فأنا أقول لكم: عليكم بالاعتقاد بالحق؛ لأن أنفع ما في الحق الغيرة عليه والسعي إليه، ولعمري لقد أصاب القرد حين قال لكم: إن حياة البرية في بقاء الحق والباطل متغالبين، لا في اجتثاث الباطل وإزهاقه، وإلا فهل حالة أشنع - لو صحت - من تلك الحال التي يتمناها بعض الحالمين؟ يتمنون أن لا تطلع الشمس إلا على ذي حق لا ينازع فيه، وإلا على أرض لا يجد ما يشكو منه، فإن تم هذا - ولن يتم - فأين يكون تنافس الأقوياء وإقدامهم، وأين تكون خشية الضعفاء وتآزرهم، بل أين يكون الحق نفسه؟ هل علم أحد منكم لنفسه حقا موقوفا عليه متصلا بكيانه يقول هذا حقي كما يقول هذا رأسي وهذه يدي؟ إنما الحق ما يخلص من هذه المنازعات والأطوار ويحصل من اختلاف نظر الناس إليه وتعدد مناحيه، فلا حق إلا بالنزاع على الحق، وزوال النزاع موت، وزوال الحق باطل ومحال، والحق يكون معكم مرة وعليكم مرة، فإذا أردتم أن تعرفوا في أي جانب هو فانظروا إلى جانب العقيدة، فثم الحق الأكبر المنشود.
عندئذ قال الذئب: وما مرادك بهذا الكلام أيها الإنسان؟ أتريد أن يصر كل منا على عادته ويؤمن بما هو في صدده؟ إن كان هذا مرادك، فهذه يدي فإني أول المشايعين لك.
قال الإنسان: لا، بل أردت أن تؤمنوا بي وتركنوا إلي؛ لأنني - ولا أزدهي عليكم - قد جمعت من دواعي الإيمان ما تفرق فيكم، وقد زدت عليكم بأشياء لم يتحل بها أحد منكم، ومتى آمنتم بي كنت معكم على حد قول المتنبي لأسد قنسرين:
فهل لك في حلفي على ما أريده
अज्ञात पृष्ठ