كذلك يا قوم يصطدم الشر بالشر فيتجلى الخير، ويلتحم الباطل بالباطل فيتضح الحق، وتتزن القوة بالقوة فيظهر العدل، والخير والحق والعدل قواعد لا تقوم بغير واجب، والواجب أبو الضمير.
معشر الأحياء:
سمعتم من الثعلب أن مبادئ الخير أوهام ملفقة، مخترعها أوسع خيالا من مخترع الغول والعنقاء والشيطان، فيا لتلك القريحة الهائلة! لوددت لو تستطيع الحياة أن تنجب عقلا فذا يقدر على اختراع العدل والحق والواجب والضمير، فنفديه بنصف الأحياء! أو يقدر إنسان واحد على أن يستعرض أمامه ميادين العصور المقبلة قبل أن يماط عنها ستار الغيب، فيرى كيف تصطرع فيها القوى وكيف يراوغ بعضها بعضا، ويقتفي خططها المعوجة إلى أقصاها، ثم يتنبأ عن الخطط القويمة التي ستضطر إلى اتخاذها، فيصورها أصدق تصوير في مبادئ خالدة، مبادئ فوق ما تصف الأهواء المختلفة وتزين المصالح المتناقضة، مبادئ تصلح للنوع والفرد والقوي والضعيف والسر والعلن والحاضر والمستقبل. أيقدر على كل هذا إنسان؟ ما هذا بشرا، إن هذا إلا إله قدير.
ولكن أنصار الشر قد اعتادوا، يا قوم، أن يصفوا أنفسهم بالدهاء والحزم، ويصفوا أنصار الخير بالغرارة والتفريط، وسبب هذا الاغترار بأنفسهم أنهم ينظرون وراء ألفاظ الخير والفضيلة والذمة وما يشاكلها، فيروعهم الكفاح والخديعة والظلم والغيلة، ويحسبون أنهم عرفوا ما لم يعرفه أحد من قبلهم، ويعجبون لدعاة الخير كيف تعمى عيونهم عن هذه الشرور الملموسة والظلم الواضح، فيقولون عنهم إنهم تباع خيالات وعشاق أحلام. هذا ودعاة الخير يضحكون من قصر نظرهم مع ادعائهم بعد النظر، ويقولون لهم: انظروا وراء الكفاح والخديعة والظلم والغيلة، ألا ترون هناك غرضا واحدا عميما يشمل هذه الأغراض ويدمجها في أطوائه؟ نعم، قد يظفر الأشرار بالأخيار، وقد يموت الأخيار قبل أن يظفروا بخصومهم لقصر الحياة واتساع مجال النضال، إلا أن الخير يتغلب على الشر في نهاية الأمر، وإنما يمهله ويملي له إملاء الواثق المطمئن إلى سلطانه. الأخيار يموتون والخير لا يموت، والأشرار قد ينتصرون والشر لا ينتصر، فالنظرة الأولى أيها القوم للخير والثانية للشر، أما النظرة الثالثة فتردنا إلى خير لا كالخير الأول الذي يظهر على وجوه الأشياء، ولكنه خير واسع شامل بعيد القرار.
يقول السيد المسيح: «مثل ملكوت السموات رجل زرع في أرضه حنطة، وبينما الناس نيام دب إليها بعض عدوه فدس الزؤان في بذور الحنطة، فلما اعتم النبت وأخرج شطأه ظهر الزؤان معه، وجاء العبيد مولاهم يقولون: أولست أيها السيد قد زرعت حبا صالحا في أرضك؟ فمن أين له الزؤان؟ قال: تلك دسيسة عدو. قالوا: أنذهب فنجمعه؟ قال: لا، لئلا تقتلعوا الحنطة معه وأنتم تجمعونه، ولكن تصبرون حتى يحين الحصاد فآمر الحصادين أن يجمعوا الزؤان فيطرحوا به في النار، ثم يضموا الحنطة إلى البيدر.» •••
فالأنبياء وهم أوسع دعاة الخير بصيرة وأعمقهم نفسا وأبعدهم بديهة، لا يزعمون وهم يدعون الناس إلى الخير ويأمرونهم بالبر أنهم سيمحون الشر ويقتلعونه من جذوره، ولم يجهلوا أن الخير بالشر مختلط اختلاطا لا سبيل إلى فصله وفرزه، ولكنهم حببوا الناس في العمل الصالح لأن الناس لا يحتاجون إلى من يحثهم على العمل القبيح، وقالوا لهم: لا تنسوا غيركم، لأنهم في غنى عمن يقول لهم اذكروا أنفسكم، ولينطلق كل منكم وراء مصلحته ولو صغرت، لا يبالي أدركها قاتلا أو سارقا أو خائنا، فذلك خير له من أن تفوته بحال من الأحوال. فهل يلامون على ذلك، أو يقال إنهم غفلوا عن الشر الملموس؟ أم يلام لائموهم ويقال إن هؤلاء الدعاة العلويين لمسوا الشر البعيد الذي خفي عن أعين أولئك اللائمين؟
إنما يعمل الأنبياء على تغليب بواعث الخير على بواعث الشر، ولتعلموا أن الأنبياء لم يرسلوا إلى فلان وفلان، بل هم مرسلون إلى الناس أجمعين، فلا جرم ينصحونهم بما فيه صلاحهم جميعا، وما اجتهد الأنبياء قط في إزالة الشر، ولكنهم أنذروا الشرير بعاقبته وعلموه كيف يتجنبها، وبشروا البار بجزائه وعلموه كيف يسعى له، وعلموا أنهم سيموتون والشر والخير باقيان إلى يوم يبعثون، وأحسبهم لو استطاعوا إزالة الشر لما أزالوه؛ لأننا لا نكاد نتصور الخير في الدنيا إن لم نتصور الشر بجانبه، ولعله لا فرق بين القضاء بالموت على الناس وبين تفرد الخير بالسلطان عليهم من غير مغالبة أو مجاذبة أو ترقب نصر أو خشية خذلان.
وبحسب الخير أنه منذ اهتدى إليه الناس تراجعت القوة وتمردت النفوس على شريعتها، فأصبح أقوى الأقوياء لا يجرؤ على الاعتداء والجور باسم القوة العمياء، إلا أن يتمحل لها المعاذير، ويتذرع لها بسبب من الحق والعدل. فبطل القول القديم: اعمل ما تستطيع. وخلفه القول الجديد: اعمل ما يحق لك عمله، وعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.
ولست أعني أن القوة العمياء قد خضعت للحق كل الخضوع، ودانت له في الصغائر والكبائر، فهذا ما لا يدعيه الحق وما ينبغي للحق أن يدعي ما ليس له، ولكن عنيت أن الناس لا يسلمون اليوم بظلمها وإن اضطروا إلى الخضوع لها، ولا تقتنع ضمائرهم بشريعتها وإن لم تكن لهم حيلة في تبديلها، ويا ضيعة العالم إن سلموا! ويا سوء المنقلب إن اقتنعوا ! إذ ليس وراء ذلك إلا أن يسترخي الأقوياء فيفقدوا العزيمة والمضاء، وينزل الضعفاء عن الحياة بنزولهم عن الرجاء، فتنعدم القوة الحافزة المجددة بين هؤلاء وهؤلاء، وينهار سلم النشوء والارتقاء، إلى حضيض الموت والفناء.
فاذكروا يا قوم - أقوياءكم وضعفاءكم - أن التسليم للقوة الغاشمة يفسد القوي منكم والضعيف، وأنه لا شيء يشرف التسليم له الأقوياء كما يشرف الضعفاء غير الحق، فاجعلوه لكم قبلة وإماما، واتخذوه لكم صاحبا ولزاما.
अज्ञात पृष्ठ