لقد أصبحت لا أسأل الله إلا موتة عاجلة تذهب بي وبه وتريحني من شقاء الحياة وعنائها، والويل لي وله إن عشت بعد اليوم ساعة واحدة. (86) الغرفة الزرقاء
مرض «إدوار» على أثر تلك النكبة التي نزلت به مرضة شديدة كادت تتلف فيها نفسه، ثم أبل بعض إبلال، فاقترح عليه «استيفن» - وكان قد لازمه مدة مرضه، ومد إليه يد المعونة في نكبته - أن يسافر معه إلى «جوتنج» ليفرج قليلا مما به، ففعل، وسافرت معهما ماجدولين حتى بلغت بهم العجلة ضاحية القرية، فاستقبلهم «فرتز» وزوجته وأولاده على ضفة النهر فرحين مغتبطين، وكانوا على موعد منهم، فصافح «استيفن» «فرتز» وعانقه معانقة الصديق لصديقه، وقبل جبين «جوزفين»، وضم الأولاد إليه وأنشأ يقبلهم ويدير لهم خديه فيقبلونه ويهتفون له ويقولون: لقد طال غيابك عنا في هذه المرة يا سيدي حتى ظننا أنك قد آثرت الإقامة في «كوبلانس» على الإقامة بيننا.
وقال له أكبرهم - وكان في الثالثة عشرة من عمره: ها أنا ذا ألبس الرداء الجديد الذي أرسلته إلي، فشكرا لك يا سيدي، فسأله: هل أصبح يستطيع نشر شراع الزورق وحده بلا مساعد ولا معين؟ قال: نعم وأستطيع أيضا أن أطويه وقت اشتداد العاصفة، قال: سأرى الآن ذلك أيها الملاح الصغير، وقال أوسطهم - وكان في التاسعة من عمره: لقد بلي حذائي يا سيدتي فهل جئتني بحذاء جديد؟ قال: نعم لقد جئتكم جميعا بأحذية جميلة، وقبعات فاخرة، ففرحوا وتهللت وجوههم، وأحاطوا بأمهم يهمسون في أذنها بهذا النبأ الجديد، وتشبثت بردائه الطفلة الصغيرة وقالت له: لقد ولدت الشاة التي أهديتها إلي حملا صغيرا أبيض اللون أسود العينين، فتعال معي أرك إياه، فتبسم وضمها إليه وقال لها: سأذهب معك يا «فكتورين» عما قليل، ثم التفت إلى ماجدولين وقال لها: إنهم يحبونني كثيرا، وأنا الآن أعيش بينهم كأنني أعيش في أسرتي بين أهلي وقومي، فارتعدت ماجدولين واصفر وجهها وظلت تقول في نفسها: «لقد أصبح سعيدا بنفسه، وكان يظن أنه لا يستطيع أن يكون سعيدا بدوني!»
ثم ركبوا الزورق جميعا، وأخذ الملاح الصغير ينشر الشراع ويصيح باستيفن: ها أنا ذا يا سيدي أنشر الشراع وحدي بلا مساعد ولا معين، فيقول له: أحسنت يا بني أحسنت! حتى عبروا النهر إلى الضفة الأخرى، فاعتمد «إدوار» على ذراع «استيفن»، ومشوا جميعا على أقدامهم إلى المنزل، وكان على كثب منهم، فتقدم «فرتز» وكان معه مفتاح الباب ففتحه، فدخلوا الحديقة، ووقع نظر ماجدولين على حائط السور، فرأته مكسوا بغلالة بديعة من أزهار البنفسج تدور به من جميع جوانبه، فذكرت ذلك الكتاب الذي كتبه إليها «استيفن» منذ خمسة أعوام قبيل زفافها إلى «إدوار»، وقال لها فيه: إنه قد كسا سور البيت الذي ابتناه لها في «جوتنج» بأزهار البنفسج التي تحبها، ثم التفتت فرأت حوض الماء المقام في وسط الحديقة، ورأت حوله ذلك السياج الذي قال لها «استيفن» في كتابه إنه قد أقامه من حوله خوفا على أولادهما من السقوط، ثم لمحت في زاوية من زوايا الحديقة كرسيا طويلا مؤلفا من مقعدين متقابلين، وأرجوحة صغيرة من أراجيح الأطفال، فعجبت كل العجب من احتفاظه بهذه الآثار التي تؤلمه وتذكره بشقائه الماضي، ثم قالت في نفسها: ما أحسب أنه تعمد إبقاءها والمحافظة عليها، ولكنه تركها وشأنها فبقيت في مكانها على حالها.
وهنا شعرت بتلك الغضاضة التي يشعر بها الذليل في موقف ذله ومهانته، وظلت تقول في نفسها: إنه ما عفا عنها، ولا غفر لها سيئتها عنده، ولا أمسك عن عتابها وتأنيبها، ولا أعطاها من نفسه هذا الوجه من الرضا، إلا لأنه يحتقرها ويزدريها، ويراها أصغر في عينيه من أن يأخذها بذنب، أو يعتد عليها بسيئة، وإن هذه النظرة العذبة التي أصبح ينظر بها إليها إنما هي نظرة العزيز المترفع التي يلقيها على البائس الشقي الذي يستحق عطفه ومرحمته، فأخذ من نفسها هذا الخاطر مأخذا شديدا وأحزنها، وملأ قلبها غصة وألما أنها قد فقدت كل ما كان لها في قلبه، حتى منزلة الاحترام.
وكان «استيفن» قد أنشأ في طرف من أطراف الحديقة غرفا أعدها لمنامه وجلوسه ونزول ضيفانه وترك المنزل جميعه لا يطرقه ولا يأوي إليه طلبا لراحة نفسه من آلام الذكرى وهمومها، فأعد لإدوار غرفة منها ذهب به إليها ساعة وصوله، وكان «إدوار» لا يزال يشكو بقية من الألم في جسمه، فما أخذ مضجعه من فراشه حتى استغرق في نومه، وأقبل الليل فعادت أسرة «فرتز» إلى بيتها، ولجأ بستاني الحديقة إلى مخدعه، وبقي «استيفن» وحده مع ماجدولين، وهي المرة الأولى التي جلس إليها منفردا منذ افترقا، فعادت إلى ذهنه تلك الصورة القديمة التي كان يتخيلها في ماضيه لسعادته وهنائه، وظل يقول في نفسه: ها هو ذا البيت، وها هي ذي الحديقة، وها هو ذا النبت والشجر، والليل والقمر، والسماء الصافية، والأشعة المترقرقة، والنسيم العليل، والسكون السائد، وها هو ذا حوض الماء تسبح فيه الأسماك غادية ورائحة، وها هي ذي ماجدولين جالسة ليس بيني وبينها حائل، ولكنني لا أستطيع أن أمد يدي إليها، بل لا أستطيع أن أملأ نظري منها؛ لأن بيني وبينها على شدة هذا القرب بعد ما بيني وبين ذلك النجم المتألق في أفق السماء.
وظل مستغرقا في خياله هذا، حتى فاتحته ماجدولين الحديث وقالت له: ما أجمل دارك يا «استيفن» وما أبدع منظرها! إنها أجمل مما كنت أتوقع، فخيل إليه أنها تهزأ به وتستهين بآلامه فلا تبالي أن تذكره بها، فداخله ما لم يملك نفسه معه وقال لها: إن الذي يعيش في قصر جميل فخم كقصرك الذي تعيشين فيه في «كوبلانس» لا يعبأ بمنزل صغير كهذا المنزل، فشعرت أنه يؤنبها ويعرض لها بتلك الإساءة التي أسلفتها إليه فيما مضى، فتألمت في نفسها ألما ممزوجا ببعض الغبطة والارتياح؛ لأنها علمت أنه لا يزال يفكر فيها، ولا يزال يضمر في نفسه بقية من ذلك الحب القديم، وأرادت أن تتغلغل إلى أعماق نفسه، فقالت له: حيثما يجد المرء سعادته في مكان - مهما صغر شأنه - فهو أجمل القصور وأفخمها، فنظر إليها نظرة منكسرة كاد يقول لها فيها إنه ليس بسعيد، وإنه أشقى إنسان على وجه الأرض، ثم استردها سريعا، فلم تشعر بها، وظل صامتا، فذهبت معه في الحديث مذاهب أخرى، حتى مضت قطعة من الليل فنهضت من مكانها، ونهض بنهوضها، وتمشيا قليلا في أنحاء الحديقة حتى مرا بسلم الطبقة العليا فقالت له: هل تأذن لي يا «استيفن» أن أصعد إلى هذه الطبقة لأراها، وهل تتفضل بالصعود معي إليها؟ فاضطرب قليلا ثم قال لها: لك ما شئت يا سيدتي.
وصعد معها ذلك السلم الذي لم تطأه قدمه منذ خمس سنين حتى بلغا أعلاه، فمشى إلى الغرفة الأولى وفتح بابها وقال لها: ها هي ذي الغرفة التي كنت أعددتها لجلوسي ودراستي، ولا حاجة لي بها الآن، فقد اتخذت من بين غرف الحديقة بدلا منها، ثم تركها وفتح باب الغرفة الثانية وقال: وها هي ذي الغرفة التي كنت أعددتها لمقام أبيك رحمة الله عليه أيام كنت أظن أنه سيساكنني في هذا المنزل ويعيش معي فيه، فرأت فراشا جميلا وأثاثا حسنا وأصص زهر وريحان قد يبست وجف ورقها وتناثر في أنحاء الغرفة، فشعرت بانقباض في نفسها لذكرى أبيها، واغرورقت عيناها بالدموع، ثم انتقل إلى الغرفة الثالثة ومد يده إلى مفتاحها ثم استردها وقال بصوت خافت متهدج: عفوا يا ماجدولين فإنني لا أستطيع أن أفتح هذه الغرفة؛ لأنها الغرفة التي كانت معدة لأخي «أوجين»، وقد آليت على نفسي ألا أفتح بابها ما حييت، فأثر في نفسها منظره وأكبرت حزنه وألمه، وقالت له: أحزين أنت حتى اليوم على «أوجين» يا «استيفن»؟ قال: نعم، حزنا لا يفارقني حتى الموت.
ثم مشى إلى الغرفة الأخيرة ومد يده إلى مفتاحها بهدوء وسكون ففتحها ثم انحرف عنها قليلا وأطرق برأسه ولم يقل شيئا، فألقت عليها ماجدولين نظرة ألمت بجميع ما فيها، فرأت غرفة جميلة رحبة قد دهنت جدرانها باللون الأزرق، وبسط في أرضها بساط أزرق، وأقيم في أحد أركانها سرير من النحاس الأبيض مغطى بملاءة حريرية زرقاء، ورأت منضدة جميلة قد صففت عليها أدوات زينة النساء، وخزانة للملابس، ومرآة كبيرة، وكرسيا طويلا ذا مقعدين، وبضعة مقاعد أخرى كلها زرقاء اللون، وقد علتها جميعها طبقة رقيقة من الغبار، فعلمت أنها أمام الغرفة الزرقاء التي حدثها عنها في بعض رسائله الماضية وقال لها: إنه قد أعدها مخدعا لنومهما، وإنه إنما اختار لها هذا اللون؛ لأنه لون البنفسج الذي تحبه، فثارت في نفسها تلك الذكرى القديمة، ومشت ما بين قمة رأسها وأخمص قدمها رعدة شديدة كادت تتزايل لها أعضاؤها، واشتد خفوق قلبها واضطرابه، ثم نظرت إليه فإذا هو مطرق صامت، وإذا دموعه تنحدر على خديه يتبع بعضها بعضا، فهالها منظره، وازدحمت الدموع في عينيها تتبادر إلى السقوط، فأخذت يده بين يديها وقالت له: ما بك يا «استيفن»؟ وكأنما قد راعه أن يفضح الدمع سره الذي كان يكتمه منذ عهد طويل، فاجتذب يده من يدها برفق وقال لها: لقد هاجني ذكر أخي «أوجين».
وأشار إليها بالنزول، فنزلا حتى وصلا إلى مكانهما الأول من الحديقة، فقالت له: رفه عليك قليلا يا صديقي، فليس فيما قضى الله حيلة، ولا لفائت مرد، ولقد مات أخوك ميتة كريمة لم يمتها أحد قبله، فليكن صبرك عليه كريما كميتته، فرفع رأسه إليها وقال لها: إنني أستطيع أن أنسى كل عهد من عهود حياته الماضية ولا أستطيع أن أنسى تلك الأيام التي أحببته فيها وأحبني، وأخلصت له فيها وأخلص لي، ولقد جمعت بيني وبينه المصائب مذ كنا طفلين صغيرين، وألفت ما بين قلبينا الكسيرين حتى أصبحا قلبا واحدا يشعر بشعور واحد، ويتألم بألم واحد، ولا تزال حاضرة أمام عيني حتى الساعة تلك الأيام التي قضيناها معا في مدرسة «جوتنج» بعيدين عن أبوينا ورحمتهما وعطفهما؛ لأن أمنا كانت قد ذهبت إلى قبرها، وأبانا كان يقسو علينا ولا يحفل بنا، وقد بؤس عيشنا بؤسا يعيا به الصغير، ويطير له لب الكبير، وبلغنا في الشقاء المبالغ التي لا يبلغها إلا اليتامى المنقطعون عن الأهل والرحم، أو أبناء السبيل المشردون في آفاق البلاد، وكنا نرتدي أرث الثياب، ونأكل أتفه الطعام، ولا نحتذي إلا الأحذية المرقعة، ولا نلبس إلا القلانس المخرقة، ولا نجد ما نستعين به على إصلاح شأن ملابسنا وأجسامنا، فكنا نلاقي بسبب ذلك من معلمينا أشد العقاب وأقساه، فنحتمل الألم بصبر وجلد، ولا نستطيع أن نعتذر إليهم عذرا سديدا نقيم به وجهنا؛ لأننا إن فعلنا فقد عققنا أبانا وتركنا للألسنة سبيلا إليه، وهذا ما لا نحب أن يكون، وكان طلبة المدرسة في شأننا قسمين: هازئ لا يزال يسخر بنا، وراحم لا يزال يتوجع لنا، ودمعة الراحم كابتسامة الساخر، كلاهما يؤلم النفس ويملؤها غصة وأسى، فكنا نضيق بالحالين، ونتألم في الموقفين، وكثيرا ما كان يأمرنا معلمونا كلما زارهم زائر كريم بالانزواء في الركن المظلم من أركان قاعة الدرس حتى لا يخجلوا بنا أمامه، فإذا انصرف عدنا إلى مقاعدنا كما كنا، فكنا نجد في نفوسنا من المضض والألم ما لا يعلم سبيله إلا الله، وكان الطلبة يخرجون جميعا في أيام الآحاد مع المعلمين للتنزه في الأحراش والغابات، أو على ضفة النهر، أو في سفح الجبل في أزياء جميلة وشارات حسنة، ما عدانا، فقد كان معلمنا يتطلب علينا العلل في ذلك اليوم حتى يأمر بسجننا في بيت الدجاج تبرما بنا، واستثقالا لزينا وهيئتنا، فإذا خلا بنا المكان اختلف شأننا اختلافا عظيما، فأظل أبكي وأنتحب، ويظل «أوجين» يلعب ويمرح؛ لأنه كان على صغر سنه أوسع مني صدرا وأكثر احتمالا، وكان لا يعرف سبيلا لتعزيتي وتسرية هموم نفسي غير هذا السبيل، فلا يزال يغني ويصيح ويقلد أصوات الحيوان، ويطارد الدجاج والإوز، ويفتن في مجونه ولهوه حتى تهدأ نفسي، ويجف مدمعي، ولا أرى لي بدا من المضي معه في شأنه، وكنت أرحمه وأحنو عليه حنو الأم على رضيعها، فلا أستطيع أن أراه باكيا أو شاكيا أو مستوحشا أو متألما، وكان يخيل إلي أنني لو رأيت دمعة واحدة تجري على خده لقتلت نفسي حزنا وكمدا، وكثيرا ما كنت أتمارض ساعة الغداء أو أتظاهر بالشبع إن رأيت الطعام قليلا في أيدينا حتى يستطيع أن يأخذ حظه منه، فلا أرى على وجهه صفرة الجوع، وطالما ضممت في الليالي الباردة غطائي إلى غطائه وأسبلته عليه من حيث لا يشعر، رحمة به وحنوا عليه، حتى إذا أصبح الصباح ورآني نائما بجانبه بغير غطاء ضمني إلى صدره وقبلني، وقال: إنك تقتل نفسك يا «استيفن» من أجلي!
अज्ञात पृष्ठ