ثم أعاد النظر مرة أخرى فرآها قد فرغت من الرقص ومشت هي و«إدوار» إلى مقعد قريب من الباب فجلسا عليه، فلم ير في مجلسهما بأسا ولا مسترابا، فهدأ ثائره، بل أعجبه ما رأى من عناية صديقه بها، وعطفه عليها، وخيل إليه أنه ما رقص معها ولا احتفل بها إلا من أجله، وأنهما ما اجتمعا على هذا المقعد في هذه الساعة إلا ليتحدثا بشأنه ويتذكرا أيامه ووعوده، ثم ما لبث أن لمح في أصبعها خاتما فتبينه فإذا هو الخاتم الذي نسجته من شعره، والذي لا تزال تحدثه عنه في رسائلها كلما كتبت إليه، فاغتبط بذلك اغتباطا عظيما ولم يبق في نفسه من ذلك الخاطر المؤلم الذي مر بذهنه منذ ساعة أثر واحد.
وإنه لكذلك إذ دفع الباب بغتة وخرج منه فتى متأنق من الزائرين يهز في يده سوطا مستطيلا، فرآه واقفا فظنه بعض الخدم، فصرخ في وجهه بلهجة الآمر أن يدعو له سائق عجلته، وسماه له، فارتبك قليلا، ثم لم ير بدا من الامتثال مخافة أن ينكشف من أمره ما كان خافيا، فهرع إلى الباب الخارجي يهتف باسم غير الاسم الذي سمعه، وكان قد نسيه، فأدركه الفتى وقد طار الغضب في دماغه فضربه بالسوط على وجهه ضربة أدمته، وأخذ يسبه ويشتمه، فاحتمل «استيفن» تلك الضربة صامتا، ومشى في طريقه لا يلوي على شيء.
وما أبعد إلا قليلا حتى انحدرت من جفنه دمعة جرت على خده فأصابت موضع الضربة منه فآلمته، فهتف صارخا: ماذا لقيت في سبيلك يا ماجدولين؟! (56) المريض
عاد «استيفن» إلى «جوتنج» فوجد كتابا من قريبه الذي كان قد أحسن إليه بتلك القطع الذهبية يوم خروجه من «كوبلانس» شريدا طريدا يقول له فيه: إنه مريض مشرف على الموت، وإنه يحب أن يراه بجانبه في ساعته الأخيرة، فرثى له وحزن عليه حزنا شديدا، ورأى ألا بد له من موافاة رغبته في الذهاب إليه، فاستأذن المدرسة في بضعة أيام يقضيها بجانبه، فلم تأذن له إلا بثلاثة، فسافر إليه، وكان يسكن وحده بيتا في ضاحية من ضواحي «كوبلانس» لا يرى فيه إلا وجه خادمه وطبيبه، وكانت زوجته قد ماتت منذ عهد قريب، وليس له من الأقارب الأدنين غير ابن عم له من قساة الأغنياء وجفاتهم، لا يحبه ولا يحفل بشأنه، فدخل عليه «استيفن» في ساعة من ساعات الليل فرآه ساهرا يئن من الآلام والأوجاع، وقد نال منه الداء منالا عظيما، فأصبح لا يستطيع النطق إلا همهمة وتجمجما، فجلس بجانبه يتوجع له ويواسيه حتى استطاع الرجل بعد لأي أن يقول له: لقد مرت بي بضعة أشهر وأنا طريح هذا الفراش لا أفارقه لحظة واحدة حتى مللت وبرمت، وأصبحت أخشى غائلة الضجر أكثر مما أخشى غائلة المرض، فلا تفارقني بعد اليوم حتى يحكم الله في أمري بما يشاء.
فلبث معه الثلاثة الأيام التي أجازوه بها ثم عزم على العودة، فتوسل إليه المريض بانكسار عينيه وترقرق الدمع فيهما ألا يفارقه حتى يقضي الله في أمره بقضائه، وكان قد ثقل وأصبح على حالة لا ترجى له معها الحياة، فتذمم «استيفن» أن يفارقه على حاله تلك، وكتب إلى المدرسة يستأذنها في بضعة أيام أخرى يتخلفها وأدلى إليها بعذره في ذلك، ولبث ينتظر جوابها فلم يأته، واشتد به القلق، ثم جاءه منها بعد حين كتاب تقول له فيه: إنها لم تر بدا من الاستغناء عنه والاستبدال به، وإنها قد أرسلت إليه ما بقي له عندها من مرتبه، فما أتى على آخر الكتاب حتى صاح صيحة كادت تنقد لها أضالعه وسقط مغشيا عليه وهو يقول: «رحمتك اللهم فقد عجزت عن الاحتمال!» (57) الموت
نامت العيون وهدأت الجنوب في مضاجعها، وسكنت كل سارية في الأرض، وكل سابحة في السماء، وظل «استيفن» ساهرا وحده بجانب مريضه المحتضر يسمع حشرجة الموت في صدره ترن في هدوء الليل وسكونه، فيخيل إليه أنه واقف في وسط فلاة موحشة تعزف جنانها، وتزمجر غيلانها فامتلأت نفسه رهبة ووحشة، وأن هناك معركة قائمة بين الروح والجسد، تأبى إلا أن تفارقه، ويأبى إلا أن يتشبث بها، فيدركه من التعب والنصب ما لا يحتمله محتمل، حتى عي بأمرها، فتساقط خائرا مستسلما لا تطرف له عين، ولا ينبض له عرق، فوضع «استيفن» أذنه على صدره فلم يسمع شيئا، فعلم أن الأمر قد انقضى، وأن الراقص قد ألقى قناعه، والممثل قد خلع ثوب تمثيله، وأن عنصري الحياة قد افترقا وعاد كل منهما إلى أصله، فطار منهما ما طار، ورسب ما رسب، فجثا بجانب الميت يرثيه ويتوجع له، ويبكي عليه مرة وعلى نفسه أخرى، ومرت أمام نظره في تلك الساعة رواية حياته الماضية من مبدئها إلى منتهاها، فظل يقرؤها صفحة صفحة، ويقلب نظره في سطورها وكلماتها، فرأى بؤسا وشقاء، وأحزانا ودموعا، وجدودا عاثرة، ونحوسا متتابعة، حتى انتهى إلى الصفحة الأخيرة منها، فقرأ فيها كتاب العزل الذي جاءه من المدرسة، فانتفض عند قراءته انتفاضا شديدا، وصاح صيحة عظيمة دوت بها أرجاء الغرفة قائلا: ما هذا! هل فقدت ماجدولين؟ ثم أطرق إطراقا طويلا لا يعلم إلا الله أين سبحت نفسه فيه، ولبث على ذلك ساعة، ثم رفع رأسه فإذا عيناه جمرتان ملتهبتان، وإذا وجهه أسود مربد كأنما قد لبس نسيجا غير نسيجه، فدار بنظره في أنحاء الغرفة دورة الحية الرقطاء بجوهرتيها في جنبات جحرها حتى وقع على خزانة المال التي كان يأمره الميت في حال مرضه بالإنفاق منها، فعلق بها ساعة لا ينتقل عنها ولا يتحول، كأن عينيه قد استحالتا إلى مسمارين لامعين من مساميرها، ثم وثب على قدميه فجأة وقد أصابه مثل الجنون وهتف صارخا: لا بد لي من النجاح في حياتي، ولا أسمح لعقبة من العقبات مهما كان شأنها أن تقف في طريقي، وإن الدهر لأعجز من أن يعترض سبيلي، أو يغلبني على أمري، فهو لا يغلب إلا الضعفاء، ولا يقهر إلا الأغبياء، وما أنا بواحد منهم، وإن من الجبن والخور أن أضع حياتي بين يديه يتصرف بها كيف يشاء، فلأكن أنا دهرا وحدي، أتولى شأن نفسي بنفسي، وأتصرف بحياتي على الصورة التي أريدها، لا أتقيد بقانون ولا نظام، ولا أسجن نفسي في هذه الدائرة الضيقة التي يسمونها الفضيلة؛ فما سقط الساقطون في معترك الحياة، ولا داستهم أقدام المعتركين فيه إلا لأنهم وقفوا من الميدان في نقطة واحدة لا يتحولون عنها ولا يتلحلحون فلم ينتبهوا إلى الضربات المختلسة التي جاءتهم من خلفهم فقضت عليهم، ولو أنهم داروا مع المعركة حيث دارت، وتقلبوا في جنباتها كرا وفرا لظفروا بالغنيمة مع الظافرين، ولنجوا من غائلة الموت الزؤام.
لا رذيلة في الدنيا غير رذيلة الفشل، وكل سبيل يؤدي إلى النجاح فهو سبيل الفضيلة، وما نجح الناجحون في هذه الحياة إلا لأنهم طرقوا كل سبيل يؤدي إلى نجاحهم فاقتحموه غير متذممين ولا متلومين، وما سقط الساقطون فيها إلا لأنهم تأثموا وتحرجوا وأطالوا النظر والتفكير، وقالوا: هذا حلال وهذا حرام.
من هم الذين يملكون الدور والقصور، والضياع الواسعة، والرباع الحافلة، والذين تموج خزائنهم بالذهب موج التنور باللهب؟ أليسوا اللصوص والمجرمين الذين يسمون أنفسهم ويسميهم الناس سراة ووجوها؟
من هم الذين يسهرون الليل طاوين لا يطرق النوم أجفانهم، ويقضون أيامهم هائمين على وجوههم، يفتشون عن الرزق في كل مكان فلا يظفرون منه باللقمة أو الجرعة إلا إذا أراقوا في سبيلها محجما من دماء قلوبهم؟ أليسوا الأشراف والفضلاء الذين يسميهم الناس - ويسمون أنفسهم معهم - رعاعا وغوغاء؟
أنا لا أعترف بقانون الملكية ولا قانون الوراثة؛ لأن المالكين سارقون، ولأن الوارثين أبناء السارقين، فلا أسمي نفسي ظالما إلا إذا ظلمت عادلا مستقيما لم يظلم في حياته نملة في حبة شعير يسلبها إياها.
अज्ञात पृष्ठ