ابن الخطيب في الصفحة الأولى من الجزء الأول قال: أخبرنا عبد العزيز بن أبي الحسن القرميسيني قال سمعت عمر بن احمد بن عثمان يقول: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول قال لي الشافعي: يا يونس دخلت بغداد؟ قال قلت: لا. قال: ما رأيت الدنيا.
ليتأمل الإنسان أن قائل هذا القول هو الإمام الشافعي ﵁ الذي لم يكن ممن تزدهيه الدنيا ولا ممن تسكره زينتها ولا ممن يأخذ بلبه زخرفها ولكنه برجاجة عقله كان في مقدمة الرجال الذين يقدرون الأمور أقدارها فهو يقول: أن من لم ير بغداد لم يعرف الدنيا. وحاشا أن يكون مثل الشافعي موصوفًا بالمبالغة فبغداد في عنجهية أمرها كانت المثل الأعلى للحضارة فمن لم يكن شاهدها لم يكن شاهد المثل الأعلى من العمران. ولا نظن أنه كان يوجد في العالم كله لا في العالم الإسلامي فقط بلدة تضارع بغداد في العظمة لعهد المنصور والمهدي والرشيد. فإن رومة في ذلك العصر كانت انحطت عن درجتها المعلومة وأنه لم يكن في أوربة لذلك العهد مدينة تساوي شطرًا من بغداد فضلًا عن أن تعادل بغداد نفسها. نعم كانت القسطنطينية في ذلك العصر مدينة عظيمة وكانت وقتئذ عاصمة النصرانية بلا نزاع ولكنها لم تبلغ في العظمة والضخامة ما بلغته بغداد في القرنين الأولين من بنائها. فيمكننا أن نقول أن رئاسة حواضر الدنيا انتهت لبغداد لمدة قرنين أن لم يكن ثلاث. نعم لا نعلم درجة عظمة حواضر الصين والهند لذلك العهد إلا أننا نرجح أنه لم يكن منها ما يعادل بغداد في ذيك القرنين الثاني والثالث للهجرة ولو كانت ثمة مدن تعادل بغداد لكان انتشر خبرها وقيست إلى بغداد في عظمتها لأن العرب كانوا على اتصال مستمر بالهند والصين وكانت السفن تختلف بين سيراف وكنتون بالسهولة التي تختلف فيها الآن بين شربورغ ونيويورك أو سوثمبتون ونيويورك.
فمم بعد أن تقرر في نظرنا أن بغداد كانت أعظم مدينة في العالم مدة قرنين أو ثلاثة بالأقل يجب أن نبحث في درجة عظمة بغداد وما كانت سعة رقعتها وما بلغه عدد السكان فيها وذلك بناء على الروايات المختلفة التي ساقها ابن الخطيب في هذا التاريخ الذي إن لم يعرف بغداد حق التعريف فلن يعرفه كتاب آخر.
إننا لا نريد الآن أن نعيد روايات ابن الخطيب التي يمكن القارئ أن يطالعها في الكتاب
1 / 4