أول ظهور فكرة المهدية وتطورها
الفاطميون
الموحدون
القرامطة
الحشاشون
ثورة البساسيري
البابية
القاديانية
السنوسية
مهدي السودان
خاتمة
أول ظهور فكرة المهدية وتطورها
الفاطميون
الموحدون
القرامطة
الحشاشون
ثورة البساسيري
البابية
القاديانية
السنوسية
مهدي السودان
خاتمة
المهدي والمهدوية
المهدي والمهدوية
تأليف
أحمد أمين
مقدمة
بقلم أحمد أمين بك
القاهرة يونيه سنة 1951
بسم الله الرحمن الرحيم
فكرة المهدي والمهدوية لعبت دورا كبيرا في الإسلام من القرن الأول إلى اليوم. وسبب نجاحها يرجع إلى شيئين: الأول أن نفسية الناس تكره الظلم وتحب العدل، سنتهم في جميع الأزمنة والأمكنة، فإذا لم يتحقق العدل في زمنهم لأي سبب من الأسباب اشرأبت نفوسهم لحاكم عادل تتحقق فيه العدالة بجميع أشكالها، فمن الناس من لجأ إلى الخيال يعيش فيه وألف في ذلك اليوتوبيا أو المدن الفاضلة على حد تعبير الفارابي، وخلق من خياله دنيا ونظاما عادلا كل العدالة، خاليا من الظلم كل الخلو، وعاش فيه بخياله ينعم بالعدل الخيالي، فقد روى لنا في الشرق والغرب يوتوبيات كثيرة على نمط جمهورية أفلاطون.
ومنهم من نزع إلى الثورة يريد رفع هذه المظالم وتحقيق العدالة الاجتماعية في الدنيا الواقعة، فلما عجزوا عن تحقيقها أملوها، وإذا جاءت هذه الفكرة عن طريق الدين كان الناس لها أكثر حماسة وغيرة وأملا، فوجدوا في فكرة المهدي ما يحقق أملهم؛ ولذلك كثرت هذه الفكرة في الأديان المختلفة من يهودية ونصرانية وإسلام؛ فاعتقد اليهود رجوع إيليا واعتقد المسيحيون والمسلمون رجوع عيسى قبل يوم القيامة يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما. ولعلهم رمزوا إلى العدالة بالمسيح وإلى الظلم بالمسيخ الدجال، وسلطوا المسيح على المسيخ فقتله إيماء بأن العدل يسود والظلم يموت وفقا للأمل.
والثاني أن الدنيا في الشرق والغرب مملوءة ظلما، وذلك في كل العصور، وقد حاول الناس كثيرا أن يزيلوا الظلم عنهم، ويعيشوا عيشة سعيد في جو مليء بالعدل فلم يفلحوا، فلما لم يفلحوا أملوا فكان من أملهم إمام عادل، إن لم يأت اليوم فسيأتي غدا، وسيملأ الأرض عدلا، وستتحقق على يديه جميع الآمال.
وكانت فكرة المهدية تحقق هذين الغرضين، وقد سادت الشرق أكثر مما سادت الغرب؛ لأن الشرقيين أكثر أملا، وأكثر نظرا للماضي والمستقبل، والغربيين أكثر عملا وأكثر نظرا إلى الواقع، فهم واقعيون أكثر من الشرقيين؛ ولأن الشرقيين أميل إلى الدين، وأكثر اعتقادا بأن العدل لا يأتي إلا مع التدين. وفكرة المهدية فكرة دينية تتمشى مع هذه الأغراض.
أردت أن أشرح هذه الفكرة وأتتبع تاريخها من أول عهدنا بها، فكان هذا الكتيب. والله نسأل أن يوفقنا إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل.
أول ظهور فكرة المهدية وتطورها
كلمة المهدي في الأصل كلمة بسيطة، وهي اسم مفعول من هدى يهدي، فكل من هداه الله فهو مهدي. وقد استعملت في هذا المعنى أيام النبي
صلى الله عليه وسلم . فجاء بهذا المعنى الحديث: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين».
وليس في هذا المعنى إلا المعنى اللغوي للكلمة؛ وعلى هذا جاءت الكلمة في شعر حسان بن ثابت شاعر الرسول، إذ يقول في رثائه
صلى الله عليه وسلم :
ما بال عينك لا تنام كأنما
كحلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعا على المهدي أصبح ثاويا
يا خير من وطئ الحصى لا تبعد
بأبي وأمي من شهدت وفاته
في يوم الاثنين النبي المهتدي •••
وقد مدح الفرزدق سليمان بن عبد الملك، فقال:
سليمان المبارك قد علمتم
هو المهدي قد وضح السبيل
وقال في هشام بن عبد الملك:
فقلت له: الخليفة غير شك
هو المهدي والحكم الرشيد
وكذلك في شعر جرير. ثم بدأت الكلمة تتحول شيئا فشيئا، فخصوا اسم المهدي بعلي وحده، وجاء في كتاب «أسد الغابة» أنهم أطلقوا على علي «هاديا مهديا». ثم أطلقوا الكلمة على الحسين بعد مقتله، فقالوا: المهدي ابن المهدي.
ولما قتل الحسين ومات الحسن رأت طائفة أنه من الطبيعي أن يرث عليا معنويا ابنه محمد ابن الحنفية، كما رأى غيرهم أن الوارث لعلي هما الحسن والحسين فقط؛ لأنهما وحدهما أبناء علي من فاطمة بنت الرسول
صلى الله عليه وسلم . أما ابن الحنفية فابن علي لكن لا من فاطمة، بل من امرأة من بني حنيفة صليبية أو ولاء على اختلاف العلماء في ذلك.
وكان محمد ابن الحنفية هذا - وهو ابن علي كما ذكرنا - عالما كثير العلم روحانيا، ورث الروحانية من أبيه، قوي الجسم. كان يبعث به أبوه إلى القتال نيابة عنه أكثر مما يبعث الحسن والحسين، فقيل له في ذلك، فقال: «إن الحسن والحسين عينا علي وأنا يده، فهو يدرأ عن عينيه بيده».
ويحكون أن ملك الروم في عهد معاوية كتب إليه أن يختار أقوى من عنده ليصارع أقوى من عنده، وقال ملك الروم: «إن هذا جار بين ملوك الروم وملوك العرب من عهد بعيد»، وكانت المسابقة تدور حول أطول رجل عربي وأطول رجل رومي، ثم أقوى رجل عربي مع أقوى رجل رومي، فاستشار معاوية عمرو بن العاص، فأشار عليه في الطول بقيس بن سعد بن عبادة، وفي القوة بأحد رجلين: إما عبد الله بن الزبير، وإما محمد ابن الحنفية. فاختار معاوية محمدا؛ لأنه أقرب إلى نفسه وأكثر اطمئنانا له. وذلك كالمسابقات التي تعمل اليوم في الألعاب الأولمبية.
وقد امتنع محمد ابن الحنفية عن مبايعة عبد الله بن الزبير، وقال له: «لا أبايعك حتى تجتمع لك البلاد، ويتفق عليك الناس»، فأساء جواره وحصره وآذاه، فاضطر أن يهرب من مكة مع بعد أصحابه.
ونشأت فرقة تسمى الكيسانية نسبة إلى كيسان، يتزعمها المختار بن أبي عبيد الثقفي. وزعم هو وفرقته أن محمد ابن الحنفية هو الإمام وهو المهدي، ولكنه نقل كلمة المهدي إلى معنى آخر لزمها إلى اليوم؛ وهو أن هذا المهدي لم يمت، وإنما هو وأصحابه يقيمون في جبل رضوى، وهو في الحجاز على سبع مراحل من المدينة. وأنه وأصحابه أحياء يرزقون، وعنده عينان نضاختان تجريان عسلا وماء؛ لأنه يرجع إلى الدنيا فيملؤها عدلا.
ومن هنا ليست للكلمة معان أخرى، فمن جهة التصقت بالشيعة وهم الذين استخدموها على هذا المعنى في الأيام المقبلة، ومن جهة أخرى أضيفت إلى كلمة المهدي كلمة «المنتظر» فلزمتها، وأصبح يقال دائما: «المهدي المنتظر».
وكان هذا سببا في أن إذا الشيعة أخفوا إمامهم عن عيون الأمويين والعباسيين خوفا من قتله، لم يقولوا بموته ولكنهم كانوا يقولون عليه: «مهدي منتظر، يرجع إذا جاء ميعاد خروجه المقدر، فيخرج الناس معه ويزيل المظالم، ويحقق العدل».
وكان كثير عزة الشاعر المشهور يعتقد هذه العقيدة. وليس هنا كبير رابطة بين شعره الجيد في عزة وضعف عقله في عقيدته؛ فقال:
وسبط لا يذوق الموت حتى
يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيب لا يرى فيهم زمانا
برضوى عندهم عسل وماء •••
وشاعت هذه العقيدة بين الشيعة، فكانوا من حين لآخر يخرجون ثائرين يطلبون الملك باسم المهدي.
ولما تحالف العلويون والعباسيون أولا على قتال الأمويين ظهر السفاح بنظرية جديدة؛ وهي أن محمد ابن الحنفية بايع ابنه أبا هاشم، وأن أبا هاشم هذا بايع السفاح، ثم من بعده المنصور فلم يثر عليهم العلويون؛ لأنهم اعتقدوا أن أمرهم هذا هين، فإذا هم تغلبوا معهم على الأمويين، فأمر هؤلاء العباسيين يسير، ولكن خاب فالهم؛ فما إن ولي السفاح حتى نكل بالأمويين والعلويين جميعا، وفاز بتأسيس الدولة العباسية، فجاء من بعده المنصور، واستغل شيوع كلمة المهدي عند الناس واعتقادهم فيها فلقب ابنه بالمهدي على أساس هذه الفكرة، ودعا إليه على أنه المهدي المنتظر ليحيط الخلافة بالسلطان الدنيوي والتقديس الديني، وجعله ولي عهده.
وكان تأسيسه للدولة العباسية على أساس ديني بتلقيبه ابنه هذا بالمهدي وتسمية أم المهدي بأم الخلفاء، تشبها باسم أم المؤمنين، وتسميته بغداد بدار السلام تشبها باسم الجنة، وتسميته أحد قصوره بقصر الخلد، تشبها باسم الجنة أيضا، وجعل بابا قصيرا لا يدخله إلا من انحنى كأنه راكع تعظيما له، وتكليفه بعض الفقهاء أن يضعوا الأحاديث في مدح العباسيين ومدح النبي، ووصفه بصفات تنطبق على ابنه المهدي. وكان المهدي نفسه ذا هلوسة دينية، يظهر ذلك في كثير من تصرفاته، وخصوصا إمعانه الشديد في محاربة من سماهم الزنادقة، وتقصيهم وقتلهم وظهوره بمظهر حامي الدين والمدافع عنه، وتسميته لولديه باسم الأنبياء موسى وهارون، وتلقيبه موسى بالهادي، ولما يئس من تسمية هارون بالمهدي؛ لأنه لقبه هو المهدي ، لقبه بالرشيد، وهي كلمة مساوية للمهدي بمعناها الأول وهكذا.
وتضخمت كلمة المهدي في المغرب على يد البرابرة، فقد ضاقوا ذرعا بظلم الحكام وتعصبوا ضد عصبية غيرهم، وإن كانوا أيضا قد تعصبوا للإسلام، وأذاقهم بنو الأغلب من العرب سوء العذاب؛ ففرضوا عليهم الضرائب الكثيرة التي لا قدرة لهم عليها، حتى ضجوا بالشكوى فلم يسمع لهم فانتهز الشيعة هذا الوضع، ودعوا للاستقلال عن الدولة العباسية، وأذاع الشيعيون فيها فكرة المهدي ووضعت الكلمة على لسان رجل ماهر اسمه أبو عبد الله الشيعي. يدعو للمهدي المنتظر ويبث فيهم مذهب الإسماعيلية، ويحمسهم للحرب، فقاتلوا قتالا شديدا، وأخيرا تغلبوا على عمال العباسيين وطردوهم، وأخضعوا أكثر بلاد المغرب لحكمهم، وضربوا السكة باسمهم، فجعلوا على أحد وجهي النقد «بلغت حجة الله»، وعلى الوجه الآخر «تفرق أعداء الله» وعلى السلاح «عدة في سبيل الله»، ووسموا الخيل بعبارة «الملك لله».
الفاطميون
وظهر عبيد الله الملقب بالمهدي المنتظر، ثم نكل بالداعي وهو أبو عبد الله الشيعي كما نكل المنصور بأبي مسلم الخراساني وكما نكل الرشيد بالبرامكة.
ثم أسس المهدي بلدة تسمى المهدية نسبة إليه، وادعى هو وأبناؤه أنهم الخلفاء الصحيحون دون العباسيين، وقال شاعرهم:
هذا أمير المؤمنين تضعضعت
لقدومه أركان كل أمير
هذا إمام الفاطمي ومن به
أمنت مغاربها من المقدور
يا من تخير من خيار دعاته
أرجاهم للعسر والميسور •••
ومن نسل المهدي هذا كان المعز لدين الله الذي فتح مصر على يد جوهر الصقلي، وأسس القاهرة وسماها المعزية. وقد أقام هؤلاء الفاطميون في مصر حضارة عظيمة، ونشروا فيها التشيع وظلوا قرونا حتى أزال ملكهم صلاح الدين الأيوبي.
وانقسم المؤرخون من العرب والمستشرقين من الفرنج إلى قسمين: قسم يصحح نسبتهم إلى فاطمة، وعلى رأسهم ابن خلدون مدعيا أن الشكاك إنما نفوا صحة نسبتهم تملقا للعباسيين. وقسم يشك في نسبهم هذا معتمدا على ما روي من بعض الأقوال.
وكانت الدولة الفاطمية مصطبغة بالصبغة اللاهوتية، نقرأ في ثنايا سيرة خلفائهم ما لا نجد مثله في ثنايا سيرة الأمويين والعباسيين، وربما كان هناك كتابان كبيران يمثلان هذه النزعة الإلهية، الأول ديوان ابن هانئ الأندلسي، فإنه أولا مملوء بالمصطلحات الإسماعيلية كالدعوة والداعي كقوله:
أنت الورى فاعمر حياة الورى
باسم من الدعوة مشتق
ومثل كلمة العهد والتأويل والوصي ونحو ذلك، وفي الديوان نرى أصول الدعوة الشيعية؛ مثل ضرورة وجود الإمام في كل عصر، سواء كان ظاهرا أم مختفيا، وإن هذا الإمام لا بد منه لحفظ الشريعة، وتدبير مصالح الأمة كقوله:
إذا كان أمن يشمل الأرض كلها
فلا بد فيها من دليل مقدم
إذا كان تفريق اللغات لعلة
فلا بد فيها من وسيط مترجم
وآية هذا أن دحا الله أرضه
ولكنها لم ترس من غير معلم
لولاك لم يكن التفكير واعظا
والعقل رشدا والقياس دليلا
لو لم تكن سكن البلاد تضعضعت
وتزايلت أركانها تزييلا
ومثل الدعوة إلى الإمام علة وجود الدنيا، كما يقول:
هو علة الدنيا ومن خلقت له
ولعلة ما كانت الأشياء •••
هذا ضمير النشأة الأولى التي
بدأ الإله وغيبها المكنون
من أجل هذا قدر المقدور في
أم الكتاب وكون التكوين
وهذا الإمام جامع لجميع الفضائل والخيرات، جسده مبرأ من كل عيب وروحه سالم من كل نقصان، كما يقول:
فرغ الإله له بكل فضيلة
أيام آيات الكتاب تفصل •••
وروح هدى في جسم يمده
شعاع من الأعلى الذي لم يجسم
وهذا الإمام أمين الله وهادي الخلق ووارث الأرض وشفيع الناس، وفي ذلك يقول:
هذا أمين الله بين عباده
وبلاده إن عدت الأمناء
هذا الشفيع لأمه نأتي به
وجدوده لجدودها شفعاء
وهذا الإمام معصوم كالنبي لا يتصور من أذى، ولا تبدو منه زلة؛ لأنه ملهم من الله بأعظم درجات الإلهام:
من كان سيما القدس فوق جبينه
فأنا الضمين بأنه لا يجهل
مؤيد باختيار الله يصحبه
وليس فيما أراه الله من خلل
وتجب معرفة الناس للإمام، فجهله جريمة لا تغتفر ويروون حديثا: «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية». ونفوسهم لا تنجو إلا بمعرفته:
ليعرفك من أنت منجاته
إذا ما اتقى الله حق التقى
فرضان من صوم وشكر خليفة
هذا بهذا عندنا مقرون
لو لم تكن سبب النجاة لأهلها
لم يغن إيمان العباد فتيلا
وقد غلوا في هذا الإمام غلوا كبيرا، فقال ابن هانئ مثلا:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
ويقول:
لو كان علمك بالإله مقسما
في الناس ما بعث الإله رسولا
لو كان لفظك فيهم ما أنزل القر
آن والتوراة والإنجيلا
وأما الكتاب الثاني فرسائل إخوان الصفا فقد بنيت على أساس نظرية الفيض الإلهي، وأن الله يفيض من نوره على من يشاء من عباده وأن فيضه على الأئمة أقوى فيض، وهي النظرية التي قال بها أفلاطون وحورتها الأفلاطونية الحديثة، وقالوا: إن لهذا الفيض مظاهر دورية ظهرت في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، واختتمت بالإمام ولهم في عدد السبعة هيام وأوهام.
وتتجلى الروح الإلهية في درجات مختلفة ومراحل متوالية، وتظهر للإنسانية منذ بدء خلقها متدرجة نحو الكمال، حتى جاءت إلى محمد
صلى الله عليه وسلم ، وبهذا المعنى يأتي المهدي برسالة تفوق من قبله حتى رسالة محمد.
ويجب أن يفسر القرآن على أن له باطنا غير الظاهر، والظاهر إنما يصلح لقوم لم يكتمل نضجهم بعد، إنما الخاصة هم الذين يفهمون المعنى الباطن، حتى إن الإمام إسماعيل كان يشرب الخمر فأنكر عليه ذلك بعض أصحابة وقالوا له: إن القرآن يقول بتحريم الخمر، ففسر آية الخمر تفسيرا مجازيا، وكذلك فعل في الفرائض الأخرى كالصوم والحج، وبذلك تحللوا من الشرائع الإسلامية.
وغلا كذلك إخوان الصفاء في الحروف فزعموا أن للحروف أسرارا دالة على معان، وأن هذه الحروف يمكن أن يفهم منها ميعاد ظهور المهدي، واستندوا فيها على قوله تعالى:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ومع أن الآية تدل على عدم معرفة أحد للغيب فقالوا: إن الله تجلى بعلمه على من يشاء من عباده، وقد روي عن الكندي الفيلسوف رسالة تتضمن دلالة الحروف وأسرار الأعداد، وذكروا في إخوان الصفاء أن ظهور المهدي المنتظر يتوقف على حركات النجوم وقراناتها، مقلدين في ذلك اليهود في قولهم : إن موعد ظهور المسيح يتبع القيمة العددية لكلمتي «هستير استير». وقد شاع بين الباطنية وغيرهم ارتباط حركات الأرض، وأحداث الكون بحركات النجوم حتى إنه لا يحدث حدث في الأرض إلا بقرانات في نجوم السماء، ووضعوا في ذلك علما سموه علم اليازرجة، فما يحدث للإنسان من سعادة وشقاء وغنى وفقر، فإنما مرجعه إلى حركات النجوم والقرانات.
وقال قوم معتدلون: إنه لا يخفى أن للنجوم والكواكب تأثيرات في الأرض وفي الإنسان من طريق غير مباشر، فالشمس مثلا تؤثر في المواسم من صيف وربيع وخريف وشتاء، والقمر مثلا يؤثر في حركات المد والجزر، وهذه كلها تؤثر في مزاج الإنسان، ولكن إذا أسندت هذه الأمور وتعقدت إلى قرانات، فقد يحدث أن عمر الإنسان ينتهي من غير أن يحصل قران للنجوم على شكل خاص، فكيف يمكن بناء الأحداث على الاستقراء الناقص، ولا يزال الناس إلى يوم القيامة يتعلقون بهذا النحو من النجوم، وتأثيرها لما ركب في غريزتهم من حب الاستطلاع، وهم يسندون الغنى والفقر أو السعادة والشقاء لولادة الشخص في طالع من طوالع النجوم، مع أنا نجد أشخاصا كثيرين ولدوا في وقت واحد وطالع واحد، وبعضهم سعيد وبعضهم شقي، وبعضهم فقير وبعضهم غني، ولكن مهما قامت الأدلة فالنفوس البشرية هي هي، تميل دائما إلى حب الاستطلاع.
ومن مظاهر هذه النزعة الدينية في الدولة الفاطمية تنظيمهم شأن الدعوة والدعاة، وإعلاء شأن داعي الدعاة، ويقول المقريزي: إن الدعوة كانت مرتبة على منازل، دعوة بعد دعوة، فالدعوة الأولى مبنية على إثارة المشكلات وتأويل الآيات، وتعليمهم أن الدين مكتوم، وأن الأكثر له منكرون وأن لا سبيل للنجاة إلا ما خص الله به الأئمة من العلم، فإذا علم الداعي منه الإقبال والتشوق قرر له أن الآفة التي نزلت بالأمة، وشتت كلمتهم وأورثتهم الأهواء المضلة هي إعراض الناس عن أئمة نصبوا لهم، وأقيموا حفاظا على الشرائع، ولما نظر الناس في الأمور بعقولهم واتبعوا ما حسن في ناظرهم، وأطاعوا سادتهم وكبراءهم اتباعا للملوك وطلبا للدنيا؛ ضلوا السبيل إلى آخر هذه الدرجات. ومما أثاروا من المشكلات سؤالهم مثلا: ما معنى رمي الجمار والعدو بين الصفا والمروة، ولم كانت الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، وما بال الجنب يغتسل من ماء قليل ولا يغتسل من البول الكثير، وما معنى الصراط والكتبة الحافظين، وما لنا لا نراهم، وما عذاب جهنم، وكيف يصح تبديل جلد مذنب بجلد لم يذنب، وما إبليس والشياطين، وما يأجوج ومأجوج، وما شجرة الزقوم، وما دابة الأرض، وما الخنس الكنس، وما معنى فواتح السور مثل
الم ،
المص
إلخ؟ فإذا اطمأن الداعي إلى المدعو قال له: لا تجعل فإن دين الله أعلى وأجل من أن يبذل لغير أهله، وإن من هداه الله من اعتقد بالأئمة واستقى من علمهم، ثم ينقله نقله أخرى بقوله: «إن الله رتب الأئمة واحدا بعد واحد، فأولهم علي ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين الملقب بزين العابدين ثم محمد بن علي ثم جعفر الصادق». ثم ينقله نقله أخرى من ترتيب الأنبياء وترتيب الأئمة ورثة الأنبياء، ثم نقلة إلى تقرير أنه لا بد لكل إمام من جماعة ينصرونه متفرقين في جميع الأرض عددهم اثنا عشر رجلا، ثم يتدرج بعد ذلك في التعليم إلى الدرجة التاسعة، وهي الأخيرة بأن يأخذ على الأتباع العهد بأداء الأمانة على ألا يظهروا شيئا، وأن يمنع الأئمة مما يمنع منع نفسه، وإن خالف شيئا من ذلك فهو بريء من الله. ويظهر أن هذه هي التعاليم الدينية، أما التعاليم السياسية من العمل على قلب الدولة الزمنية، وإقامة الثورات ووسائلها، فقاصرة على خاصة الخاصة من الرؤساء، وبذلك نظموا أنفسهم تنظيما سرديا دقيقا أشبه ما يكون بتنظيم الجمعيات السرية الخطيرة اليوم.
على كل حال كان إخوان الصفاء جمعية سرية تعمل لهدم الدولة العباسية في الخلفاء، ولهم ميول شيعية تظهر في ثنايا الكتاب، ولهم في ذك أصول ومعتقدات دينية، واشترطوا شروطا كثيرة دقيقة للانضمام إلى العضوية، وقد رتبت بشكل موسوعة، وعدد رسائلها اثنتان وخمسون رسالة تعالج أبحاثا في الرياضيات والفلك والجغرافيا والموسيقى وعلم الأخلاق والفلسفة، وآخر رسالة فيها تعتبر خلاصة هذه الرسائل، وقد كتبت بأسلوب راق مما يدل على رقي اللغة في ذلك العصر، وقد طوعوها للتعبير عن الفكر العربي، وقد تأثر بها بعض التأثر الغزالي في كتابه الإحياء، وذكر أن المعري كان يحضر حلقات هؤلاء العلماء لما حضر بغداد في أيام الجمعة.
وقد ذكر أبو حيان التوحيدي أسماء واضعيها منهم: أبو سليمان البستي والمقدسي وأبو الحسن علي الزنجاني وزيد بن رفاعة والقوفي، وكان التوحيدي هو المصدر الوحيد الذي ذكر أسماءهم في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»؛ ولذلك ظن بعضهم أنه عضو سري معهم وقد تنكر تقية.
وكان لرسائل إخوان الصفاء تأثيرات مختلفة في القوة والضعف في علماء الشرق والغرب على مر الزمان، وكل فلاسفة الإسلام الذين جاءوا بعدهم قد تأثروا بها وبنوا عليها. وربما عد بعضهم أبا حيان التوحيدي والراوندي والمعري من أكبر أتباعهم المتأثرين بعلمهم الناشرين لنظرياتهم، حكى ذلك السبكي في كتابه «طبقات الشافعية».
والدليل على أنها تشرح تعاليم الشيعة وعلى الأخص القرمطية أقوال كثيرة مبثوثة في ثناياها، منها ما جاء في فصول رسائل إخوان الصفاء مثل: الفصل الذي عنوانه فصل في أن كل من أجاب الأنبياء والمرسلين والأئمة الهادين والخلفاء الراشدين، الذين هم قوام الأئمة منهم توابيت الحكمة ومعهم تابوت السكينة الذي تحمله الملائكة الموكلون بحفظه حتى يوم مستحقه، يتوارثه الخلف عن السلف فمن عرفهم واتبع سبيلهم فقد أخلص العبادة، ونجا من الأبالسة ... إلخ. ويقولون في فصل آخر: فصل في معرفة الولاية الروحانية التي يكون بها الوصول إلى دار البقاء، وفصل آخر في معرفة الآباء والأمهات في الولادة الروحانية، وفي كل هذه الفصول وأمثالها تنبت تعاليم الدعوة الشيعية وتعاليم الأئمة.
ويرمزون أحيانا رمزا فيقولون مثلا: هذا فصل لم نفصح القول به، ولا أطلقنا الكلام فيه والدلالة عليه بالتصريح الشافي لكن بالتلويح والرمز، وهو فصل عميق في الرمز غامض في الدلالة.
وربما كان أقوى من نزع نزعة لاهوتية من الفاطميين الحاكم بأمر الله، فقد بدأ حياته مصلحا متواضعا يشرع للناس تشريعات معقولة، فمثلا: منع النساء من الخروج لما رأى من الفساد، ونظم مالية البلاد والضرائب تنظيما دقيقا بمساعدة من في بلاطه من اليهود والنصارى، واستقدم من البصرة الحسن بن الهيثم الذي نقض في كتابه «المناظر» نظرية إقليدس القائلة: بأن الإبصار يكون بخروج شيء من البصر إلى المبصر، وقد تعهد ابن الهيثم للحاكم أن يعدل فيضان النيل، ولكنه لما أخرج نظريته إلى العمل تبين عدم إمكان تطبيقها، فاختفى فرارا من الحاكم، ورأى الناس يكثرون من شرب الخمر، فحرم زرع العنب وحرم الموائد والموسيقى، بل حرم الشطرنج ومجرد المشي على النيل لما رأى إفراط الناس في الملذات، وحرم على الناس من يصنع الأحذية للنساء حتى لا يخرجن، وأحيا الأنظمة القديمة التي توجب على أهل الذمة ألا يتزيوا بزي المسلمين.
ولكن بعد ذلك غلا في لاهوتيته، فزعم أن الله تجسد فيه وأنه هو الإله وأتى في ذلك بأعاجيب، وكان يخرج إلى الصحراء يرصد الكواكب ويسبح في خيالاته اللاهوتية، ولكنه لما اختفى في سنة 1021م، وربما مات مقتولا ادعى أتباعه أنه لم يمت ولا قتل، وإنما يعيش مختفيا عن الناس.
وعلى كل حال فإن الدولة الفاطمية خلفت لنا كثيرا من مظاهر الحضارة العظيمة، يدل عليها الأزهر الذي لا يزال يدوي علمه إلى اليوم، وفن العمارة، بل صنع التماثيل وإن حرمها الإسلام، والزخارف الكثيرة. وكانت الحقبة الفاطمية التي مرت بها مصر ذات ميول شيعية.
ومع دعوتهم إلى الزهد والورع، فقد ذكروا أن الخليفة المستنصر الفاطمي كان في قصره ثلاثون ألف نفس منهم اثنا عشر ألف خادم وألف فارس وحارس، وقد ذكر الرحالة ناصر خسرو أنه رأى الخليفة على بغلة، وهو فتى وسيم الطلعة حليق الوجه، وقد وقف بجانبه حاجب يحمل مظلة مرصعة بالحجارة الكريمة، وذكر أن الخليفة كان يملك في العاصمة عشرين ألف بيت أكثرها مبني باللبن في كل بيت خمسة طوابق أو ستة، وفي أسفلها حوانيت يؤجر كل حانوت منها بما بين الدينارين والعشرة، وكان من عادته أن يركب على النجب مع النساء والحشم إلى موضع نزهة أنشأه، وربما خرج كما يخرج أغنياء الحجاج في يوم حجهم، وربما خرج ومعه الخمر في الروايا عوضا عن الماء يسقيه الناس كما يفعل بالماء في طريق مكة، وذكر المقريزي في خططه كشفا بأسماء كنوز المستنصر تستدعي العجب، وهكذا يفعل الأئمة المعصومون الزاهدون المتورعون الذين خلقت الناس لأجلهم، ولا يهتدي هاد إلا بهداهم!!
وكان من نفحات الفاطميين سيف الدولة الحمداني، فقد كان أيضا شيعيا، وقد اشتهر بنصرته للعلم والأدب وكان في بلاطه الفارابي الفيلسوف الكبير الذي اشتهر بالرياضيات والطب ولكن تآليفه فيهما تدل على أنه وصل فيهما إلى درجة متوسطة، وإنما كان ممتازا في علمي التنجيم والموسيقى، وقد ألف في الموسيقى هذه كتابين من كتبه، ثم كتب فيها أيضا ثلاثة كتب أخرى أهمها كتاب الموسيقى الكبير، وقد ذكر عنه أنه حضر مرة مجلس سيف الدولة، فأخرج عيدانا وقع عليها فضحك كل من كان في المجلس ثم وقع عليها لحنا آخر، فبكى كل منهم ثم غير ترتيبها ووقع عليها لحنا ثالثا، فناموا كلهم حتى البواب، ولا يزال بعض المولوية ينشدون بعض الألحان، المنسوبة إليه ويرى ابن خلكان أنه أكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه. والرئيس ابن سينا بكتبه تخرج وبكلامه انتفع وبهديه سار وصنف.
وكان خازن كتب سيف الدولة الخالديين وشاعره المتنبي، ويظهر أن المتنبي أيضا كان شيعيا، بل كان قرمطيا كما سيأتي، وكان نفوذ العلويين وتعاليمهم واسعا كبيرا ومن أثر هذا النفوذ ما كان من المناقشة والجدل بين داعي الدعاة الفاطمي وأبي العلاء المعري، مما يطول شرحه وقد سمى الغزالي مذهبهم «التعليمي»، وذكرهم عندما اضطر إلى معرفة الحق، هل هو عند الفقهاء أو الفلاسفة أو التعليميين، ويقصد بالتعليميين هؤلاء الشيعة ثم لم يعجبه شيء من ذلك، وأخيرا تصوف ورد على الشيعة، ومعنى التعليمية الذين يعتمدون اعتمادا مطلقا على سلطة الإمام، وأنه مصدر التعليم والإرشاد وهو المهدي.
على كل حال تأسست هذه الدولة اعتمادا على فكرة المهدية، وكانت بلادهم أقوى مركز للتشيع، وقد كان تشيعهم هذا أمتن رباط بينهم وبين الفرس أيدوهم بحكم تشيعهم أيضا؛ وأيدوهم لأنهم ينتسبون إلى فاطمة وإلى علي. فأما عطفهم على علي؛ فلأنه فيما يقول المؤرخون زوج ابنة الحسين من ابنة يزدجرد ملك الفرس، فبين أولاده وبينهم نسب مشيج فنصفهم فارسي. وأما رضاهم عن أولاد فاطمة؛ فلأنهم تعودوا من زمن الأكاسرة أن يؤمنوا بنظرية التفويض الإلهي، وأن الخلفاء فيهم قبس من الله ينتقل من أب إلى ابن، وهذا عكس الفكرة العربية التي تؤمن بالشورى وحكم أهل الحل والعقد، فيمن يتولى الخلافة حسب المصالح؛ لأنها فكرة تتفق وديمقراطية العرب.
ولم تقف فكرة المهدي عند هذا الحد، بل لعبت بعد ذلك أدوارا كثيرة فإن نحن قلنا: أن كل الحضارة الفاطمية والعلم الفاطمي والقاهرة الفاطمية نتاج غير مباشر لفكرة المهدي لم نبعد، وقد كان لنجاح الفاطميين تحقيق مادي لفكرة المهدي المعنوية أطمع غيرهم فيها، وكان أكثر الناس طمعا هم الشيعة.
وقد انتشرت على مر الزمان الأحاديث التي تؤيد فكرة المهدي، والتي تفيد أنه يملك الدنيا بأجمعها شرقها وغربها كما ملكها سليمان - عليه السلام - وذو القرنين، وأنه ينزل عيسى - عليه السلام - في مدة المهدي، ويقتدي عيسى به في صلاة واحدة، وهي صلاة الصبح في بيت المقدس.
وقد أنشأ الشيعيون القصائد في مدح هذا المهدي، وسموه صاحب الزمان وكان ممن مدحه بهاء الدين العاملي، فقال فيه قصيدة مطلعها:
سرى البرق من نجد فجدد تذكاري
عهودا بحزوى والعذيب وذي قار
ويقول فيها:
هو العروة الوثقى الذي من بذيله
تمسك لا يخشى عظائم أوزار
إمام هدى لاذ الزمان بظله
وألقى إليه الدهر مقود خوار
ومقتدر ولو كلف الصم نطقها
بأجذارها فاهت إليه بأجذار
علوم الورى في جنب أبحر علمه
كنقرة كف أو كغمسة منقار
فلو زار أفلاطون أعتاب قدسه
ولم يعشه عنها سواطع أنوار
رأى حكمة قدسية لا يشوبها
شوائب أنظار وأدناس أفكار
بإشراقها كل العوالم أشرقت
لما لاح في الكونين من نورها الساري ... إلخ
وقد شرح القصيدة في آخر كتابه الكشكول. وقد أحاطوا الفكرة بفكرة أخرى وهي فكرة قدرة المهدي على الإخبار والتنبؤ بالأحداث ، وهذا باب عظيم من أبواب الشيعة، فهم يزعمون أن الإمام عليا ترك كتابا صغيرا فيه ما كان وما يكون، وأن الأئمة من بعده اعتمدوا عليه وسموه «الجفر» والجفر «ما بلغ من الإبل أربعة أشهر، الذكر جفر والأنثى جفرة، وهو الذي حرفناه إلى الشفرة ومعناه الجلد الصغير»، وكانت العادة في أيامهم أن يكتبوا على الجلد، فسموا الكتاب جفرا وأحيانا يسمونه «جفر المسك» والمسك هو الجلد.
وللشيعة في ذلك أخبار طوال فقد ادعوا أن فيه أسماء من يلي الأمور، وما ينالها من أحداث وأحيانا يذكرون ملحمة من الملاحم فيها أخبار الدنيا، وأحيانا أخبار دولة من الدول يذكرون فيه ما يحدث في الماضي، وهو صحيح عادة وما سيحدث في المستقبل، وهو غيب مجهول، وسيأتي بعض أمثلة على استخدامهم هذا الجفر لإيهام الناس بغلبتهم حتى ينضموا إليهم.
فلما نجح الفاطميون في تأسيس دولتهم شجع هذا النجاح غيرهم على أن يقلدوهم، كلما أرادوا ثورة وأحسوا مظلمة، وكان انتشار المهدية في بلاد المغرب أكثر منها في بلاد الشرق لأسباب: منها أن المهرة المكرة أشاعوا حديثا يومئ إلى المهدي المنتظر مراكشي، ومنها أن المغاربة معروفون من قديم من أيام الكاهنة بالميل إلى الغيبيات والتأثر بها.
ومن فضل الشيعة أنهم كانوا في بعض مواقفهم، وفي اعتقادهم بالأئمة المهتدين يؤيدون الدين، ويردون على الذين يعتقدون بسلطان العقل وحده، ومن الأمثلة على ذلك ما كان من المناظرات بين أبي حاتم الرازي وأبي بكر الرازي، فأبو حاتم الرازي المتوفى سنة 322 كان من كبار دعاة الإسماعيلية، واشتهر بدعوته إلى المذهب الفاطمي، ولعب دورا عظيما في الشئون السياسية، وفي أذربيجان وفي الديلم حتى استجاب له جماعة من كبار الدولة، فقد رد على أبي بكر الرازي وكان ملحدا يؤمن بسلطان العقل وحده وينكر النبوة، فرد عليه أبو حاتم الرازي في جملة مناظرات في نقد كلامه، وإثبات الأدلة على النبوة، فالظاهر أنه كان هناك دعوة إلحادية تنكر النبوة، ومن أتباعها الرازي هذا صاحب كتاب الطب الروحاني وغيره من رسائل، وربما كان من معتنقي هذا المذهب أيضا ابن الراوندي وغيره، وقامت طائفة تؤلف كثيرا في دلائل النبوة ردا عليه.
فكان الشيعيون من الذين يؤيدون نظرية الدين، وقد يبالغون فيها بدعواهم الأئمة وعصمتهم، وربما كان أيضا جهر المعري بسلطان العقل في كثير من شعر اللزوميات، تبعا لأمثال محمد بن زكريا الرازي دعاه إلى ذلك مغالاة الشيعة في دعوة الأئمة، فكان أمامه مناظرات أبي حاتم الرازي مع أبي بكر الرازي، وهذه المناظرات منشورة في الرسائل الفلسفية التي جمعها الأستاذ كراوس، ومما ذكره أبو حاتم الرازي في أول المناظرات قوله: «فما جرى بيني وبين الملحد أنه ناظرني في أمر النبوة، فقال: «من أين أوجبتم أن الله اختص قوما بالنبوة دون قوم، وفضلهم على الناس وجعلهم أذلة لهم، وأحوج الناس إليهم، ومن أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يحتار لهم ذلك، ويؤكد بينهم العداوات ويكبر المحاربات ويهلك بذلك الناس، فرد عليه بأن الحكيم فعل ذلك رحمة بالناس، فالناس مع اختلاف عقولهم لا يمكن أن يستغنوا عمن يرشدهم، ويهديهم من الأنبياء والأئمة والعلماء إلخ ...». فنرى من هذا أنه كان هناك حركة عنيفة بين الملحدين الذين ينكرون النبوة، والمؤمنين الذين يعتقدون بها، ومن فضل الشيعة أنهم كانوا مؤمنين يدافعون عن الإسلام في الخارج ضد الصليبيين الذين يهجمون على بلادهم، وفي الداخل يصد من أنكروا الدين وجحدوا النبوة.
الموحدون
وكان من أكبر الدول التي نجحت باسم المهدي أيضا في المغرب دول الموحدين، وزعيمهم محمد بن تومرت وهو شيعي أيضا من نسل علي بن أبي طالب، وقد رحل إلى المشرق، وتلقى علومه بالعراق، ولقي هناك الغزالي والكيا الهراسي والطرطوشي وغيرهم، وأخذ عنهم الحديث وأصول الفقه والدين. والحق أنه كان ورعا ناسكا متمسكا بالدين شديد الغيرة عليه منكرا للخارجين على الدين في شدة وحماسة؛ لذلك كان في كل بلدة يحل بها تؤخذ عليه هذه الشدة، ويتعرض للأذى ويتحمله في صبر. كان ذلك في مكة وفي مصر حتى طردوه منها، فخرج إلى المغرب ولم يدع هذه الشدة حتى وهو في السفينة، فألزم أهلها بإقامة الصلاة في أوقاتها وقراءة أحزاب من القرآن، ثم نزل بلدة «المهدية» حيث يقيم حزبه الشيعي، ونزل في مسجد مغلق على الطريق، فكان ينظر من النافذة فإذا رأى منكرا بين المارة نهى عنه. وادعى أن عنده نسخة من كتاب «الجفر» وأن رجلا سيظهر في بلد حروفه «ت. ي. ن. م. ل» (تينمل) وأن أكبر أصحابه رجل اسمه «ع. ب. د. ا. ل. م. و. م. ن» (عبد المؤمن) وأن أوانه قد أزف وكان من مكره أنه لقي رجلا قديرا اسمه عبد الله الونشريشي، وكان عالما فصيحا باللغة العربية والبربرية، فصحبه وأوعز إليه ابن تومرت أن يتغابى ويتجاهل، حتى إذا جاء الوقت أوعز إليه بالفصاحة والعلم، وادعى شيخه أن هذه إحدى معجزاته ... فكان ذلك ... وصحبه ... وذهب إلى أقصى المغرب، وتحدث في تغيير الدولة مع خاصته، فنصح الملك وزيره بأن يحتاط للأمر قبل استفحاله، وأن لا يستكثر اليوم ما ينفق؛ لأنه إن أبطأ لم تقاومه الأموال كلها، وأنكر ابن تومرت على الملك أن الخمرة تباع جهارا، وتمشي الخنازير بين المسلمين، وتؤخذ أموال اليتامى فنصحه أصحابه بالالتجاء إلى جبل في بلدة قريبة، فسألهم عن اسمها فقالوا: الاسم الذي رآه في الجفر، وما زال يبث في أهل الجبل الخروج والتسلح حتى آمنوا به، واستطاع أن يجهز جيشا عدده عشرة آلاف رجل مزودين بالسلاح، وقد كسر أصحابه أول الأمر كسرة مشينة، فطيب خاطرهم، وقال لهم: إن الحرب سجال ورسول الله كان ينتصر وينهزم، وأن العاقبة للمتقين ثم أعادوا الكرة فانتصروا.
وكان من ألاعيبه أن استنطق رجلا من أهل الجبل فسأله: عرفنا أسعداء نحن أم أشقياء؟ فقال له: أما أنت فإنك المهدي القائم بأمر الله ومن تبعك سعد، ومن خالفك هلك، ثم عرض أصحابه على هذا الرجل، وطلب إليه أن يميز أهل الجنة من أهل النار، وكان قد اتفق معه على أن يجعل أعداءه من أهل النار فيتخلص منهم ...
على كل حال مات هذا المهدي قبل أن ينتصر، وخلفه عبد المؤمن وكان أحسن حظا من شيخه. فتح كثيرا من بلاد المغرب والأندلس، وكان من نتيجة ذلك دولة الموحدين المشهورين في تاريخ الأندلس، فكانت هذه مملكة عظمى من بركات المهدي المنتظر، تشمل المغرب كله إلى حدود مصر والأندلس، وكانت أيضا دولة شيعية عظيمة تستند على فكرة المهدي. ولكن الحق يقال: إن التشيع دائما ينصر الفلسفة أكثر مما ينصرها السنيون، ولعل ذلك لفكرة أن التشيع مبني على تأويل الظاهر إلى معاني باطنة. وعلى إدراك معان عميقة بنيت عليها الدعوة الشيعية. فالفلسفة أنسب لها. فالحضارة العظيمة والفلسفة العميقة التي أينعت في العهد الفاطمي والشيعي، ومنها رسائل إخوان الصفاء ونحوها في المشرق كانت نتاج التشيع.
وكذلك في عهد الموحدين أينع الفيلسوفان العظيمان ابن طفيل وابن رشد. فقد حلت الفلسفة في الأندلس. وكانت من قبل ذلك محرمة، أما ابن طفيل فكان صبيا في غرناطة. ثم عين سكرتيرا لعامل غرناطة قبل الموحدين، وهو الذي أخرج القصة البديعة المشهورة المسماة «حي بن يقظان»، وخلاصتها أن حيا هذا ولد يتما في جزيرة خالية من الناس ولكنه منح عقلا فاحصا، فاتصل بالطبيعة، وأخذ يفهمها شيئا فشيئا من غير تعليم. وقد استطاع بعقله وحده أن يفهم من الطبيعة أسرارها، وأنه لا يمكن أن تكون من غير صانع، فلا بد أن يكون هناك إله ذو صفات خاصة ينظمها ويدبرها، ثم التقى في إحدى الجزر برجل مؤمن تعلم على أحد الصالحين علم الأنبياء، فرأى حي أن تعاليمه التي اهتدى إليها بفكرته وطبيعته، تنفق وتعاليم هذا الرجل الذي تعلم عن طريق الدين. وخلاصة ذلك أن نتيجة كل من الشرع والعقل واحدة. وأن الشرع لا ينافي العقل، ويتخلل القصة نظرات كثيرة دقيقة صائبة. وقد نقل الكتاب على العبرية بعد مائتي عام من ظهوره. ثم نقل إلى أكثر اللغات الغربية، وخلفه بعد ذلك في منصبه كطبيب ابن رشد الفيلسوف الشهير. ولكن قوله: بقدم العالم كرأي أرسطو أقام عليه الفقهاء فحماه أمير المؤمنين بادئ الأمر، ولكنه اضطر أن يتخلى عنه أخيرا إرضاء للرأي العام، فنفاه بعد أن امتحنه محنة مؤلمة، وأحرق مؤلفاته ما عدا كتبه الطبية والرياضية، ولكن ابن رشيد سرعان ما توفي.
على كل حال كانت دولة الفاطميين ودولة الموحدين دولتين شيعيتين تدينان بفكرة المهدي، وتعاقبت بعد ذلك على مدى الأزمان فكرة المهدي هذا تظهر من حين إلى حين.
ومن غريب الأمر أن المنصور بن أبي عامر الحاجب لما تغلب على الأمويين، وحل محلهم حكم البلاد حكما طيبا، وقاتل أعداء الإسلام شديدا ...
ولما مات خلفه ابناه أحدهما اسمه عبد الرحمن، فتلقب بالمهدي، ولكن خرج عليه محمد بن هشام الأموي وتلقب بالمهدي أيضا، فكان مهدي يحارب مهديا، وقد أسرف محمد بن هشام هذا في قتل الخصوم حتى اتخذ من رءوسهم أصصا يغرس فيها النباتات على اختلافها، وكان يعتق النبيذ في قصره، ويشربه حتى سموه نباذا.
ولما ذهب الموحدون والمرابطون وانتصر الأسبانيون على المسلمين، ولم يبق للمسلمين إلا بقعة صغيرة في الأندلس كان ملوك بني الأحمر يتطلعون إلى مهدي منتظر يقويهم على الأسبان، ويطردهم منها لما عجزوا أنفسهم عن طردهم.
وبتوالي الأزمان كثرت الأحاديث عن المهدية والمهدي. ومن قديم رأى الناس نجاح هذه الفكرة. فالأمويون اخترعوا مهديا اسمه السفياني، وقال صاحب الأغاني: «إن خالد بن يزيد بن معاوية زاد في أخبار السفياني وكبره»، وكان فيه معنى المهدي المنتظر، وبقيت هذه العقيدة في السفياني على الدولة العباسية. والعباسيون أحبوا فكرة المهدي أيضا، ولكن جعلوها في البيت العباسي لا العلوي.
فتلقب الخليفة المهدي بهذا اللقب لهذا الغرض، أما الشيعة فقد اعتنقوا أيضا هذه الفكرة وقصروها على البيت العلوي.
وكانت هذه العقيدة أساسا من أسس الشيعة لا يتم التشيع إلا بها. أما عند أهل السنة فقد آمنوا بها أيضا، ولكن لا بهذه القوة التي عند الشيعة. ووضع كل الأحاديث في تأييد المهدي المنتظر. ومما يشهد بالفخار للبخاري ومسلم أنهما لم تتسرب إليهما هذه الأحاديث. وإن تسربت إلى غيرهما من الكتب التي لم تبلغ صحتهما. وذلك مثل ما وضع تملقا للدولة العباسية أن الهدي يخرج هو وأصحابه من خراسان حاملين الرايات السود، وهذا ينطبق على العباسيين دون غيرهم، وفي كل زمان يظهر مهدي تظهر أحاديث جديدة تنطبق على هؤلاء الثائرين. وقد أحصى ابن حجر الأحاديث المروية في المهدي، فوجدها نحو الخمسين وقال: إنها لم تثبت صحتها عنده.
وكما لعبت فكرة المهدي والتشيع في الغرب لعبت كذلك مثلها أو أكثر منها في الشرق. فكل حين نرى ثورة عظيمة شبت ودامت سنين، ومن ذلك ثورة الزنج في العراق. نشأت من ظلم الحكام والطموح إلى العدل. وقد ظهرت هذه الثورة على يد العبيد في البصرة، وأصلهم من زنوج أفريقيا. كانوا يعملون لمتعهد بالسباخ قرب البصرة وكان هذا السباخ أكواما عظيمة. فظهر رجل فارسي اسمه علي وقد نجح في بيان الظلم الواقع على هؤلاء العمال، وأبان لهم أن مصيبتهم ناشئة من الولاة العباسيين، فوعدهم بتحسين حالهم وضمان حريتهم، وترف عيشهم. فثاروا واستولوا على البصرة وضواحيها وبنى بلدة جديدة باللبن وسماها المختارة ... ولعله اختار هذا الاسم إيماء إلى المختار الثقفي، الذي اخترع فكرة المهدي الجديدة، وانضم البدو الذين كانوا مجاورين للزنوج إليهم، وقد نهبوا البصرة وهجموا على المسلمين أثناء صلاة الجمعة، وقتلوا ممن في المسجد ومن أهل البصرة نحو ثلاثمائة ألف، وانتدب الخليفة العباسي أخاه لتهدئة هذه الثورة التي دامت سنين، وجعلت البلاد في خطر.
القرامطة
ولم تكن ثورة القرامطة بأهل من هذه شأنا. وهي أيضا فتنة شيعية مهدوية. فقد رأينا على حين غفلة أن قد شاع في الناس أن العالم الإسلامي غارق في الجهل والظلم، وأن لا سبيل إلى الخلاص من هذه المظالم إلا بمهدي يملأ الأرض عدلا ورحمة. فظهرت فرقة القرامطة في العراق وعلى رأسها رجل يسمى حمدان قرمط، ويقال: إن معنى قرمط باللسان الآرامي «المعلم السري» والعرب يقولون: إنها مشتقة من القرمط بمعنى القصير. وإليه تنسب الفرقة وقد ظهرت في العراق أول الأمر. وبنى حمدان هذا دارا تسمى دار الهجرة تمثلا بالنبي
صلى الله عليه وسلم . وكان يدعو إلى الاشتراكية أعني المساواة في الأموال، ويقيم أصحابه بعضهم لبعض موائد تسمى «البلغة»؛ ولذلك يطلق عليهم الفرنج شيعي العرب، ووضعوا كتبا في معتقدهم الديني لتعليم المريد. وكان للقرامطة تعاليم دينية مؤسسة على الاتصال بالله والوحي الخفي إلى زعمائهم، وكان من أفخمهم شخصيتان كبيرتان كان لهما أثر كبير في الإسلام. «الأول الحسين بن منصور الحلاج»، وهو فارسي الأصل وقد نشأ بواسط وصحب أبا القاسم الجنيد وغيره، وقال: بوحدة الوجود ومن الشعر المنسوب إليه على اصطلاح الصوفية وإشاراتهم.
أرسلت تسأل عني كيف كنت وما
لاقيت بعدك من هم ومن حزن؟
لا كنت إن كنت أدري كيف كنت
كنت إن كنت أدري كيف لم أكن
وهو من أصل مجوسي، وقد جرى منه كلام نحو ذلك أنكره عليه الفقهاء، فقال الحلاج: «ظهري حمى ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتقولوا علي»، وقد حرر الفقهاء محضرا وقعوا عليه بحل قتله، ورفع إلى الخليفة المقتدر بالله. فوقع عليه، وإذا القضاة كانوا قد أفتوا بقتله، فليسلم إلى صاحب الشرطة، وليتقدم إليه بضربه ألف سوط، فإن مات من الضرب وإلا ضرب ألف سوط أخرى ثم يضرب عنقه، وقال لصاحب الشرطة: إن قال لك: أنا أجري الفرات ودجلة ذهبا وفضة، فلا تقبل ذلك منه ولا ترفع العقوبة عنه، فنفذوا فيه ذلك ونصبوا رأسه على الجسر ببغداد، وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوما، وقد اختلف فيه الناس فمنهم من يبالغ في تعظيمه، ومنهم من يكفره، وقد دافع عنه الإمام الغزالي في كتابه الأنوار، وقال: إنه قال ما قال من فرط محبته وشدة وجده، وذكر بعضهم أنه هو والجنابي وابن المقفع تواصوا على قلب الدولة، والتعرض لإفساد المملكة واستعطاف القلوب واستمالتها إليهم، وارتاد كل واحد منهم قطرا، فأما الجنابي وهو داع من أكبر دعاة القرامطة، فذهب إلى الأحساء وأما ابن المقفع فسار إلى تخوم الأتراك، وأما الحلاج فذهب إلى بغداد، وقد نقد ابن خلكان هذا الخبر؛ لأن ابن المقفع تاريخه وتاريخهما، ورجح أن يكون الرجل الثالث هو أبو جعفر محمد بن علي الشلغماني - مع فرق الكتابة بين اللفظين - فقد أحدث مذهبا غاليا في التشيع والتناسخ، وحلول الله في الجسد على نحو ما فعل الحلاج ، وقد ذهب إلى بغداد وادعى فيها الربوبية، فقبض عليه الوزير ابن مقلة وادعى عليه أنه يقول: إنه «الباب إلى الإمام المنتظر، وعرض أمره على الفقهاء، فأفتوا بإباحة دمه فأحرق بالنار سنة 322ه، وشلمغان قرية بنواحي واسط، ويلاحظ هنا أنه استعمل كلمة الباب يقصد بذلك المدخل إلى المهدي، وهو اللفظ الذي استعمله البابية فيما بعد.
وعلى الجملة فقد قتل الحلاج بحكم الفقهاء، والذي يلاحظ في هذا العصر، والذي قبله الخلاف الشديد بين الفقهاء والمتصوفة فالمتصوفة يرمون الفقهاء بأنهم ظاهريون يتبعون الأشكال، ويحافظون على الشعائر التي تقام بواسطة الجوارح من غير نظر إلى روحها؛ ولذلك يفصلون القول في كيفية الوضوء وكيفية الصلاة وما إلى ذلك، والفقهاء يرمون المتصوفة بأنهم توسعوا في أمور الدين، وأفرطوا في المعاني والشطحات وما إلى ذلك، وجرب على ألسنتهم عبارات التناقض الدين، وربما كان أول من وفق بين الفقهاء والصوفية القشيري في رسالته ثم الغزالي؛ لأنه كان فقيها كبيرا ومتصوفا كبيرا معا، وبعد ذلك سموا الفقه شريعة التصوف حقيقة، ومدحوا من جمع بين الشريعة الحقيقة، ونقدوا من تمسك بالشريعة دون الحقيقة أو بالحقيقة دون الشريعة، وعلى الجملة فقد كان الحلاج أثرا من آثار القرامطة.
والاقتصاديون يعتبرون القرامطة حركة اقتصادية كبيرة ثارت على الظلم الذي ساد المجتمع في العصر العباسي، فجعل بعض الناس يعيشون عيشة بذخ وترف، وبعض الناس يعيشون عيشة بؤس وفقر، وقد حكي أن قريبا لهارون الرشيد كان دخله اليومي مائة ألف درهم، فتعلق به رجل فقير، وقال: هل من العدل أن تغل مائة ألف درهم في اليوم، وأنا لا أستطيع أن أحصل على نصف درهم في اليوم، وقد حكى لنا الخطيب البغدادي ما خلفه بعض الأغنياء من ثورة، فكان مبلغا يعجز عن الوصف كما يحكي غيره عن آخرين كانوا علماء فضلاء لا يجدون قوت يومهم، كالذي يحكى عن الخطيب التبريزي أنه كان يرحل من بلدة إلى أخرى ماشيا يحمل على ظهره خرجا فيه كتب، حتى لتتلف بعض كتبه من العرق الذي يخرج منه، وكالذي نقرءوه في كتاب الفلاكة والمفلوكين من فقر مدقع مع علم واسع وأخلاق فاضلة.
وأيا ما كانت حركة القرامطة فقد كان مبعثها هذه الفروق بين الناس، ولكنها لم تكن اشتراكية كالتي وضعها كارل ماركس، لكنها كانت دعوة إلى الإصلاح المادي عن طريق روحاني من إيمان بالإمام وإيمان بالمهدي المنتظر؛ لأن الناس إذ ذاك كانوا لا يخلصون للثورة ولا يؤمنون بإصلاح إلا ما كان من قبل الدين، والذين يدعون إلى الهدوء كانوا يدعون أيضا من طريق الدين، فالله قسم الأرزاق وكتب في الأزل على الغني أنه غني وعلى الفقير أنه فقير، فكما أن نتيجة هذه التعاليم تدعو إلى الهدوء والطمأنينة، وحمد الله على الفقر كحمده على الغنى والقناعة بما قسم الله والرضى بالقليل مع الشكر، فكذلك الأخرى تدعو إلى الثورة وإصلاح الحال، وهذه الثورات على الدولة العباسية لنظامها الفاسد، وإنتاجه الغني الكبير والفقر الكبير تدعو كلها إلى تحقيق العدالة عن طريق المهدي المنتظر، ونجدها كلها تنتقد هذه الأحوال فنجدها في ثورة الزنج وثورة القرامطة، وثورة الحشاشين وما إلى ذلك.
ومن الغريب أننا لا نجد في التاريخ الإسلامي قيام مصلح دنيوي يرجع إلى العقل، فيطالب بإصلاح الفاسد والعدالة في توزيع الثروة؛ وذلك لأن الرأي العام في تلك العصور كان متأثرا بالدين أثرا كبيرا، فهو لا يخضع لدولة إلا إذا مزجت بالدين وهذا ما لاحظه ابن خلدون في العرب، إذ قال: «إنهم لا يخضعون ولا يقادون إلا لرسالة دينية أو نحوها، وكان كالعرب الأمم الأخرى التي خضعت لحكمهم وآمنت بتقاليدهم وسارت على منوالهم.»
والشخصية الثانية: من أثر القرامطة أبو الطيب المتنبي، فقد كان متأثرا بآثارهم وولد في ظلهم وتحت سلطانهم، وكان في الرابعة عشرة من عمره تقريبا يوم ثار القرامطة، وقد اصطبغ بصبغتهم وتعلم علمهم. فقد حدثونا أنه تعلم أول أمره في مكتب من مكاتب العلويين، ولا شك أنه تلقى في هذا المكتب تعاليم الشيعة أول ما تعلم، ومن هؤلاء الشيعة كانت القرامطة، ثم خرج إلى البادية، ونظن أنه اتصل بداع من دعاة العلويين، وأكمل عليه تعاليمه وهذا كله يفسر النزعة السفاحة التي عند المتنبي حتى من صغره. فهو يقول في مطلع شعره:
لا تحسن الوفرة حتى ترى
منشورة الضفرين يوم القتال
على فتى معتقل صعدة
يعلها من كل دافي السبال
ثم هو إذا شدا وقعت في قصائده هذه النزعة الروحية، التي كان يقول بها الشيعة، فمثلا يقول:
يا أيها الملك المصفى جوهرا
من ذلك الملكوت أسمى من سما
نور تظاهر فيك لاهوته
فتكاد تعلم علم ما لم تعلما
ويهيم فيك إذا نطقت فصاحة
من كل عضو منك أن يتكلما
أنا مبصر وأظن أني نائم
من كان يحلم بالإله فاحلما
كبر العيان علي حتى إنه
صار اليقين من العيان توهما
فهي من نوع غير معروف عند الشعراء الآخرين.
وهذا يفسر أيضا هلوسة المتنبي في دعواه النبوة، ومن أجل ذلك سمي بالمتنبي، وطموحه طول عمره إلى أن ينال ولاية أو ملكا، وغضبه على كافور إذ لم ينله ولاية، ونظن أنه لو نالها لقرمطها وقلبها ولاية شيعية حسب تعاليمه، ونرى ديوانه مملوءا بالقوة والدعوة إلى الثورة والاعتداد بالشجاعة، وهذا هو السبب في أنه فضل سيف الدولة ابن حمدان على كافور الإخشيدي؛ لأن الأول بطل في الحروب الداخلية مع الأعراب والخارجية مع الصليبيين، بل كان المتنبي نفسه يخرج مع سيف الدولة محاربا، وأما كافور الإخشيدي فقد عرف السياسة والمكر والدهاء لا بالفتك في الحروب؛ ولذلك أيضا كان أحب شخص إليه لما جاء مصر فاتكا الرومي لشجاعته النادرة، حتى سموه مجنونا، وقد بكى عليه كثيرا ورثاه في ديوانه في ثلاث قصائد مما لم يفعل مع غيره، وقد أعلى شأنه بمقدار ما حط من شأن كافور، ويستطيع القارئ الدقيق لديوانه بعد هذه النظرة أن يرى فيه تشيعا كثيرا وقرمطة كثيرة مثل:
يا عاذل العاشقين دع فئة
أضلها الله كيف ترشدها
ليس يحيق الملام في همم
أقربها منك عنك أبعدها
إلى غير ذلك، كما يفسر أيضا نقمته على العالم العربي وحكمه بغير عربي، ولعل متمناه أن يكون عربيا شيعيا يطبق تعاليم القرامطة، وأنه يبكي الشام ويبكي مصر ويبكي سوء النظام الاجتماعي الشامل ويطمح إلى تغييره، إلى كثير من أمثال ذلك، فكل هذا الاضطراب والحيرة والبكاء والعويل والنقمة من المتنبي على المعاصرين من غير الشيعية أثر قرمطي واضح، وساعده على ذلك خدمته الطويلة لسيف الدولة الشيعي أيضا المتصل اتصالا وثيقا بالشيعيين ومذهبهم.
الحشاشون
ومن هذه الفرق التي كانت مؤسسة على التشيع والاعتقاد بالمهدية فرقه الحشاشين، ويسمون أحيانا بالإسماعيلية، وأحيانا بالديلمية وزعيمهم الحسن بن الصباح المشهور، وسموا بالحشاشين؛ لأنهم كانوا يتعاطون الحشيش، وقد شاع استعمال المكيفات لديهم ولدى الصوفية، كما استعملوا القهوة للتنبه للعبادة كما يقولون وكان الحشيش يخدم أغراض هؤلاء الإسماعيلية؛ لأنه يخدر أعصابهم ويزيد أحلامهم اللذيذة فيكونون أطوع في تنفيذ الأوامر التي تصدر لهم، وقد حكى الرجالة ماركو بولو - الذى رحل إلى بلادهم بعد مائتي سنة تقريبا - أنهم كانوا يستعملون الحشيش في القلعة، فإذا خدروا خملوا إلى بقعة في فناء القلعة، وكانت مملوءة بالغانيات الحسان ليتمتعوا باللذائذ فيها حتى يتمثلوا في ذلك الجنة ونعيمها، فإذا أمروا أمرا نفذوه، فإن استطاعوا الهرب فيها، إلا الجنة مأواهم.
وقد كان حصنهم الحصين قلعة «ألموت» الجبلية، ومعناها ملجأ العقبان لحصانتها ووعورة مسلكها، هي قلعة على مسافة ستين فرسخا إلى الشمال من قزوين، وقد يسمى أصحابها بالفدائيين؛ لأنهم رتبوا أنفسهم على الفداء، وكانوا يعلمون الأطفال الاستهتار بالموت، ومن أغراضهم أن لا يبقوا على وجه الأرض أحدا من خصومهم، قال صاحب كتاب الفرق: «إن ضرر الإسماعيلية على الإسلام أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس، بل أعظم من ضرر الدهرية ومن ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان»، وكان من تعاليمهم على ما يروي خصومهم عدم التمسك بالشرائع والإباحية كالذي يقول:
خذي الدف يا هذه واضربي
وغني هزاريك ثم اطربي
تولى نبي بني هاشم
وهذا نبي بني يعرب
لكل نبي مضى شرعه
وهذي شريعة هذا النبي
إذا الناس صلوا فلا تنهضي
وإن صوموا فلكي واشربي
ولا تطلبي السعي عند الصفا
ولا زورة القبر في يثرب ...
ولا تمنعي النفس من المعرسين
من الأقربين أو الأجنبي
فلم ذا حللت لهذا القريب
وصرت محرمة للأب
أليس الغراس لم ربه
وأسقاه في الزمن المجدب؟ •••
وعلى الجملة فقد اشترطوا في داعيهم أن يكون عارفا بالوجوه التي تدعي بها الأصناف، ثم يدعي كل صنف بما يناسبه، فمن رآه الداعي مائلا إلى العبادة حمله على الزهد والعبادة، ومن رآه ذا مجون وخلاعة قال له: العبادة بله وحماقة على مثل ذلك. وزعيمهم الحسن بن الصباح هذا يروي بعض الرواة أنه كان صديقا لعمر الخيام ونظام الملك، وقد أخذ تشيعه عن مصر حين رحل إليها، واعتنق المذهب الفاطمي وخصوصا الفرع النزاري ثم رحل إلى فارس، وقد وضع لأتباعه خطة لاغتيال العظماء البارزين من السنيين حتى يخلو الجو للتشيع، وقد مهد لذلك بالتشنيع على الخلفاء والحكام السنيين وكبر مظالمهم، وتحدث بقرب ظهور المهدي الذي يملأ الأرض عدلا، وقد استولى بقوة جيشه على بعض الأماكن بسوريا، وكان يعلم أيضا تعاليم إباحية تعدو إلى رفع التكاليف عمن تقدم في المذهب اجتذابا لقلوب العامة، وقد أرهب الملوك والعظماء في البلاد لكثرة ما كانوا يغتالون، وكان أول من اغتالوه الرجل العظيم «نظام الملك» الوزير السلجوقي المشهور، والواقع أنهم لم يكونوا موفقين في قتله؛ لأنه من أحسن الرجال عدلا وعطفا على العلماء وتشجيعا للعلم، وهو الذي أنشأ المدرسة النظامية في نيسابور والمدرسة النظامية في بغداد، وهى التي درس فيها الحويني والغزالي والكيا الهراسي وأمثالهم، واعتنق المذهب الأشعري وساعد على نشره، وهذا الوزير وضع رسالة بالفارسية في نظام الملك تحتوي على آراء كثيرة صائبة مثل تحذيره السلطان من تدخل أصدقائه غير المسئولين في شئون الدولة، ومن تدخل بعض رجال البلاط للنظر في الدعاوى وإصدار الأحكام، واستغلال سلطتهم في ابتزاز أموال الرعية، وأخيرا حذر نظام الملك السلطان السلجوقي من الحشاشين، ونصحه بقتالهم قبل أن يستفحل أمرهم، ولكنهم تمكنوا من قتل نظام الملك قبل أن يقتلهم، فقد كان قد خرج إلى رحلة فاعترضه شاب من هؤلاء الفدائيين متزييا بزي الصوفي، وتظاهر بأنه يردي إحسانا ومد يده إليه، فمد نظام الملك إليه يده، فانتهز هذا الشاب هذه الفرصة وطعنه بخنجر مات منه.
وقد كان أمير هذه القلعة يسمى داعي الدعاة ومن تحته الدعاة، وكان إذا انتدب أحد أتباعه لعمل فدائي قال له: «قم إلى فلان فاقتله ومتى رجعت تحملك ملائكتي إلى جنة النعيم، وإذا مت من دون ذلك أرسل ملائكتي إليك يذهبون بك إلى جنة الخلد». وقد روعت هذه الحادثة نفوس العظماء وخوفتهم منه، وقد أراد هؤلاء الحشاشون مرة أن يقتلوا صلاح الدين الأيوبي؛ لأنه كبير من كبراء السنية؛ ولأنه قضى على الدولة الفاطمية في مصر، وذلك أن قائد حلب أغرى هؤلاء الحشاشين بقتل صلاح الدين حين حصرها لأول مرة، وكان هذا الزعيم يسمى رشيد الدين ويعرف بشيخ الجيل، ولكن صلاح الدين نجا من هذا الفدائي بأعجوبة.
وظلت هذه الفئة تروع البلاد بقتل العظماء، وتصل إلى ذلك بمؤامرات سرية دقيقة وتنظم شئونها في دقة وإحكام، حتى علا شأنها وكثر تخريبها، ولكن كان لهم موقف حميد، وهو محاربتهم الصليبيين وإيقاع الرعب في نفوسهم، وأخيرا أوقع بهم هولاكو المغولي، فاستولى على قلعة ألموت في سنة 1256م، ثم جاء بيبرس فقضى عليهم القضاء الأخير سنة 1272م، ومنذ ذلك الحين تفرق شملهم في سوريا وفارس وعمان وزنجبار والهند وكفى الله المؤمنين شرهم. ومن الأسف أن تعاليمهم كانت سرية، وقد دمرت كل آثارهم فلم يبق لنا منها ما نستنتج منه تعاليمهم الصحيحة، ولكنهم على كل حال يدينون بالمهدي وبالتشيع وينظمون أنفسهم تنظيما شيعيا، ويستقون من نبع التعاليم الفاطمية، وقد أطلق الفرنج هذه الكلمة كلمة حشاشين “Assasins”
على المغتالين أخذا من اسم هذه الفئة، ولم يكتف الأمر عند هذا الحد، فإن هذه الثورات التي ذكرنها وأمثالها كشفت للمسيحيين عن ضعف المسلمين، فشجعت على الحروب الصليبية كما كشفت حملة مصر على العثمانيين، فأطمعت الأوروبيين فيهم.
نعم إن المؤرخين نسبوا الحروب الصليبية لجملة أسباب منها اضطهاد الحجاج المسيحيين للقدس، وسوء معاملتهم، ولكنني لا أنكر أن من أهم الأسباب في الحروب الصليبية التقارير السرية التي كان يكتبها القسس المتزيون بزي الحجاج ، والتي تبين ضعف المسلمين وتحث الصليبيين على انتهاز الفرص والهجوم على المسلمين، وأخذ البلاد منهم، ولولا أن قيض الله للإسلام محمود زنكي وصلاح الدين وبيبرس وأمثالهم لضاعت البلاد الإسلامية كلها؛ بسبب هذا الضعف الذي سببته الثورات: ثورة الفاطميين والموحدين والزنج والقرامطة والحشاشين.
ثورة البساسيري
هذه هي الثورات الكبرى المهدوية، وهناك ثورات صغيرة أخمدت في مهدها كثورة البساسيري، وهو رجل تركي كان مقدم الأتراك ببغداد، وكان القائم بأمر الله الخليفة العباسي قدمه على جميع الأتراك، وقلده الأمور بأسرها، وخطب له على منابر العراق وخوزستان، وهادنه الملوك فراسله المستنصر بالله الفاطمي، وأسر إليه أن يدعو بالمذهب الفاطمي في العراق وإذا هو فعل ذلك، وأزال الخليفة العباسي وعد بأن يكون والي الفاطميين على العراق، وأن يمنح جميع السلطان فقام البساسيري على القائم بأمر الله العباسي، وخطب للمستنصر بالله الفاطمي، وظل على هذه الحال حتى جاء طغرلبك السلجوقي وقابل البساسيري وقتله، وأعاد القائم إلى بغداد، وكان ذلك سنة 450ه. وعلى كل حال كان الشيعة يؤلفون حكومة بجانب الحكومة الرسمية من عهد علي، ويتقنعون بالتقية وهو مبدأ معناه التظاهر بعكس ما في الضمير حتى يجد صاحبه الفرصة، فكان رجال هذه الحكومة العلوية من عهد علي يؤلفون حكومة داخل الحكومة على رأسها إمام يظهر إذا دعا الحال، ويختفي إذا دعا الحال، وإذا ظهر بشر بالمهدي وادعى أنه مبعوث لملء الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما، وكانت سلطة الخلفاء الرسميين وقوتهم موزعة بين إدارة شئون البلاد واتقاء العلويين، شأنهم شأن الأحزاب اليوم نصف قوتهم تقريبا موجهة إلى إرادة مرافق الحياة، والنصف الآخر موجة إلى اتقاء شر المعارضين، ولو وجهت كل قوتهم لمصلحة البلاد لتغير وجه التاريخ. وكل حادثة من الحوادث تكون شوكة في جنب الدولة تهد من كيانها، وتهز من عرشها سواء انتصر فيها الخلفاء الرسميون أم انهزموا، وأخيرا وبعد طول الحوادث وكثرتها تنهدم الدولة. هكذا كان شأن الدولة الأموية مع العلويين، وخصوصا بعد مقتل الحسين فقد كان مقتله سببا لاستجلاب العطف على العلويين. ولما كبر أبناء الحسين عولوا على أخذ بثأر أبيهم، وظلت المجازر تنتشر على يد الخلفاء الأمويين، وظل العلويون يعملون في الخفاء ضد الأمويين، ويدبرون المؤامرات ويدسون الدسائس حتى سقطت الدولة الأموية، فلما جاءت الدولة العباسية ابتدأت موقفها بسفك دماء العلويين والأمويين معا، فكرههم العلويون واستعملوا معهم مبدأ التقية هذا، وبذلك ظل الحال كما كان في العهد الأموي، إمام يموت وإمام يقوم مقامه، وإمام يختفي وتبث الدعوة له ويذاع بأنه سيخرج لينتقم من الظالمين، وكلما انطفأت ثورة قامت مقامها ثورة، وساعد على نجاحهم أن العباسيين كانوا ظلمة لا يتحرون عدلا، ولا يقيمون للشعب وزنا، فكان الشعب نارا خامدة تنتظر من يشعلها، حتى من اتصف بالعدالة منهم فإنما عدالته نسبية، ولم يكن أحد منهم يعطف على العلويين، والشعراء يقفون ببابهم يمدحونهم ويذمون العلويين، والأئمة العلوية تزعم كل حين أنهم إذا ولوا أمور الرعية ساسوها بالعدل المطلق. وفرق كبير بين الدعوى والواقع، وقد شكا المأمون من هذا، فقد رأى أن الأئمة يختفون عن الأعين، ويرتكبون ما يرتكبون من الإثم ولا من يراهم ويعرف قيمتهم، فقال: إن من الخير للناس أن تظهر هذه الأئمة حتى يعرفوا زلاتهم، ولا يقدسوهم هذا التقديس، علما بأنهم إذا ظهروا على مسرح الحياة، وبان للناس كيف يحكمون وكيف يرتكبون ما حرم الله سقطوا من أعينهم، ولكن ما داموا مضطهدين مختفين مكتفين بالدعوة بقي العطف عليهم في الناس؛ ولذلك اعتزم أن يولي بعده عليا الرضا، كالذي حكى أن ملكا كان يطلب منه وزيره كل يوم مطالب للشعب، والملك يمانع فيها، فلما مات الملك وخلفه ابنه، وكان أعقل من أبيه ذهب إليه الوزير يطلب هذه المطالب، فقال الملك: «قد أجبتك إلى كل ما تطلب، فصرخ الوزير من هذه الإجابة؛ لأنه إنما علم أنه يعيش على الوهم والخداع، فإذا حققت مطالب الشعب كلها ذهب وهمه وخداعه وعلمت حقيقته.
هذا كله في العصور القديمة ...
البابية
أما في العصور الحديثة فليست فكرة المهدي فيها أقل شأنا مما كان في العهود القديمة، فمن حين إلى آخر كانت تظهر حركات ثورية يدعي القائم بأمرها أنه المهدي المنتظر، وسنذكر أهمها من غير استقصاء.
في نهاية القرن التاسع عشر ظهرت فرقة جديدة متطرفة تدين بالتشيع وبالإسماعيلية وبفكرة المهدية، وهي فرقة البابية.
وهي على النقيض من مذهب الوهابية. فلئن كانت الوهابية لا تعترف بالزمن وأثره، ولا بما ظهر من تقاليد الإسلام الجديدة وأوضاعه، فإن البابية ترمي إلى مسايرة الزمان، والنظر إلى الظروف الحاضرة، ولئن كانت والوهابية أيضا لا تؤله أحدا إلا الله ولا تقول: بعصمة أحد إلا الأنبياء، فإن البابية ترى - تأثرا بالنظريات الأفلاطونية الحديثة - أن للأئمة والدعاة فيضا إلهيا وقبسا من نور الله، ومكانا إلهيا، وأن المهدي والأئمة من بعده لهم عصمة الأنبياء. وأن الله يتجلى عليهم تجليا تدريجا يرتقي إلى أن يصل إلى العقل الكلي.
وعلى هذه العقائد ظهر، في البيئة الفارسية، شاب ورع اسمه «ميرزا علي محمد» الشيرازي، ولد سنة 1820م وكان تقيا عرفه معاصروه بالزهد والورع والتقوى، وشهد له أصحابه بالمواهب الممتازة والحماسة القوية للعبادة وأجلوه لذلك. فأثر هذا الجلال في عقل الشاب، واعتقد أنه مبعوث من الله لأداء رسالة دينية عالية، وأن العناية الإلهية اصطفته لتحقيقها، وأن رسالته هذه حتمية؛ لأن الزمان والبيئة يحتاجان إلى مبعوث جديد، فأعلن أنه «الباب» الذي يدخل الناس منه إلى الإمام المستور الذي هو مصدر لكل خير في العالم. ثم تطور الأمر عنده فاعتقد أنه فوق أن يكون مدخلا للإمام المستور، بل هو نفسه الذي يهدي العالم للحق، ويهديهم إلى سبيل الرشاد. وأعلن أنه المهدي الجديد المنتظر، وأن المهدي المنتظر حل فيه حلولا ماديا جسمانيا، كما كان من أمر الحلاج في اعتقاده أن الله حل فيه، إذ كان يقول: «ما في الجبة إلا الله»، وكما كان يقول:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن جسمان حللنا بدنا
وكان «الباب» هذا يقول: إن قبسا من الله حل في الأنبياء كموسى وعيسى ومحمد، وأنه حل فيه أيضا، وكان يناهض فقهاء فارس - وكل فقيه منهم مجتهد يسمى الملا - فيذمهم، ويرميهم النفاق والملق والجشع وحب الدنيا والبعد عن الآخرة، وكان يفسر القرآن على عقيدة باطنية تفسيرا رمزيا، ويتأول نصوصه. ولم يكن يؤمن بشعائر الإسلام كلها وتفاصيلها ويرى أنها مرهقة، وأنها فوق طاقة البشير في الوقت الحاضر، وأنه ليس معنى البعث الحياة بعد الموت، وإنما البعث يحصل مرارا بالتجدد الدوري، وهي هي التي تسمى في القرآن بالحياة الأخرى. ولم يكتف بهذا الجانب الديني بل دعا إلى أخلاق تعتمد على العقل والذوق، فطالب مثلا بالمؤاخاة لا على أن المسلم أخو المسلم فقط، بل على أن الإنسان أخو الإنسان من غير تفريق بين غني وفقير ولا بين مسلم ونصراني ويهودي ووثني، ودعا إلى المساواة بين الرجل والمرأة؛ لأنها شريكة له في الإنسانية، نعم إن الرجل بحسب تكوينه له وظائف يستطيع أن يقوم بها. ولا تستطيع أن تقوم بها المرأة والعكس، ولكن فيما عدا ذلك فالكل سواء في الميراث وفي رفع الحجاب، وأنكر الطريقة العرفية المتبعة في الزواج، فوضع تعاليم أخرى تتعلق والطلاق وبناء الأسرة وطرق التربية، وبذلك أضاف إلى تعاليمه الدينية تعاليم اجتماعية أخرى، وأضاف إلى ذلك أيضا تعاليم تتعلق بالحروف وبالأعداد، وجعل للحروف جملا لها دلالتها الرمزية، وكان مما قدسه العدد (19)، واستند في ذلك على ما جاء في القرآن
عليها تسعة عشر ، واستند على هذا العدد في تنبؤاته وفي أفكاره، وقال: إنه في دعوته هذه يقوم مقام الأنبياء الأئمة، وأنه موضوع للتجلي الروحي الإلهي، وقد خلف كتابا سماه «البيان» أودع فيه كل تعاليمه وآرائه، وكان من أسباب نجاحه فتاة جميلة فصيحة اسمها «قرة العين» كانت تؤثر في الناس بجمالها وفصاحتها، وتطبق على نفسها تعاليم «الباب»، ولكن تعاليمه هذه مست السياسة، ولو من طريق غير مباشر، فلئن كان «الباب» معصوما متمتعا بالتجلي الإلهي وحده، فمعناه إذا أن «الشاه» لم يتمتع بهذه الميزات وأنه أقل منه درجة؛ ولذلك حاربه الشاه وحارب أتباعه. وقبل أن يموت الباب اختار اثنين عدهما خير أتباعه هما «صبح أزل» و«بهاء الله» غير أنه كما رأينا دائما لا يتسع العالم لزعيمين على شيء واحد، كما حدث للأمين والمأمون وكما حدث لخلفاء الإسكندر، وكما حدث للسنيين والشيعيين أنفسهم، فتفرق أتباع الباب بعد موته إلى فريقين فريق يتبع «صبح أزل»، وفريق يتبع «بهاء الله» وكل فريق يرى الفريق الآخر خارجا عن المذهب ويتبادلون المطاعن، وكان التابعون لصبح أزل أقل من التابعين لبهاء الدين، ولكن الشاه على العموم طاردهم ففر أتباع صبح أزل إلى العراق، ثم ذهبوا إلى جزيرة قبرص، وأما «بهاء الله» فقد نفي إلى «أدرنه»، وكان طابع «صبح أزل» طابع المحافظين يرى التمسك بتعاليم الباب، وطابع «بهاء الله» طابع الأحرار إذ يرى أن تعاليم الباب تتطور بتطور الزمان والمكان، وأن الباب ليس إلا ممهدا لبهاء الله، وأن بهاء الله هو الذي حل فيه النور الإلهي والقبس الإلهي. واعتمد البهاء على نص جاء في كلام الباب، وهو قوله: «سيظهر في يوم من الأيام من هو أعظم مني»، وتلقب بهاء الله «منظر الله»، وقال: إنه هو الذي تتجلى في طلعته ذات الله كما تتجلى طلعة الإنسان في المرآة، واعتقد فيه أصحابه أنه فوق البشر، ووضع باللغة الفارسية كثير من الأناشيد في مدحه، وقد وضع بهاء الله كتبا باللغة العربية وباللغة الفارسية، منها كتاب فارسي اسمه «الكتاب الأقدس»، وهو يشير بهذا الاسم إلى أن كتابه أقدس من التوراة والإنجيل اللذين أطلق عليهما الكتاب المقدس، ومن القرآن الذي يقدسه المسلمون، وزعم أنه قد بشر به الأنبياء من قبل كما بشر المسيح بمحمد، وأنه له تعاليم خاصة لا يبوح بها إلا لمن قدر عليها من الخاصة كما كان للنبي محمد تعاليم خاصة لم يبح بها إلا لعلي، وباح علي بها لخاصته حتى وصلت إلى الأئمة، وأن رسالته نسخت رسالة «الباب»، ولكنه اتفق معه على معنى الإنسانية والدعوة إليها، وقال أيضا: إن خير الناس من جعل العالم كله وطنا له، ورمى العقائد القديمة بالضيق والجمود وبث فكرته في العالم كله، وأرسل الدعوة إلى الملوك والأمراء ورؤساء الجمهوريات، وإلى الشعوب من طرق مختلفة، وكان له تنبؤات صح بعضها، من ذلك ما تنبأ به من سقوط نابليون الثالث قبل سقوطه بأربع سنوات، وكان يرمي إلى أن تكون ديانته كتعاليمه إنسانية عامة، كما كان يرمي أيضا إلى أن تكون للعالم كله لغة واحدة تكون أما من لغة عالمية موجودة، أو من لغة كالإسبرنتو، وكان أيضا يرى المساواة وأنه نزلت عليه سورة تسمى الملوك، أنب فيها سلطان تركيا؛ لأنه فرق بين حقوق شعبه، وجعل لبعضهم على بعض امتيازات.
وكان يرى المثل الأعلى في الزواج الزواج بزوجة واحدة، ولكنه أباح في حالات خاصة الزواج باثنتين، وأباح الطلاق للضرورة، وكان يرى أيضا أن الشريعة الإسلامية إنما كانت صالحة لزمانها، ولكن لا تصلح لزمانها؛ ولذلك غير من شعائرها فلم يحتفظ بصلاة الجماعة إلا في صلاة الجنائز، واستنجس الحمامات الفارسية وحبذ الطهارة الجسمانية وأباح لأتباعه أن يعملوا كل شيء ما لم يخالف العقل البشري، وشنع علماء وقته ووصفهم بالملق والنفاق، وبتعويق الإرادة ونسخها ولم يؤمن بالحرية السياسية، وقال: إن الفرق بين الإنسان المتمدن والحيوان أن الإنسان المتمدن كبح جماح الحريات الحيوانية، وليس للحريات نتيجة إلا الفوضى وخير للناس أن يعيشوا عيشة محكومة بالقيود المعقودة. ولما مات بهاء الله انتقلت زعامته سنة 1892 إلى ابنه عباس أفندي، وتسمى «بعبد البهاء» أو «غصن أعظم»، وقد لقيته أثناء سفره إلى أمريكا في فندق بالزيتون «ضاحية من ضواحي القاهرة»، وكنت إذ ذاك طالبا في مدرسة القضاء الشرعي حوالي سنة 1910، وسمعت حديثه وكان مما لفت نظري خضوع أتباعه له خضوع الصالحين لله، ودلني حديثه على اطلاع واسع وعلم بالفلسفة الإسلامية القديمة كفلسفة ابن سينا وابن رشد وعلم بالفلك والطبيعيات، ولكن كنت كلما سألته عن مذهبه وأركانه حول الحديث إلى مسائل عامة، وكره أن يتكلم في هذا الموضوع، وقد زاد في تعاليم أبيه ونزع إلى التوفيق بينها وبين العقليات الغربية والأمريكية، وكان يستشهد بالكتاب المقدس على بعض أشياء تؤيد ديانته، وقام البهائيون في العالم بحركة واسعة كبيرة، حتى دخل كثير من الناس فيها، ودخل فيها عدد كبير من النساء الأمريكيات اللائي ناصرها، وكان بعضهم وبعضهن يذهبون إلى جبل الكرمل في فلسطين لرؤية الإله الجديد، ومن أشهر الذاهبات الآنسة لورا التي كانت تصحب عبد البهاء، وتكتب اختزال ما ينطق به وتنشره في العالم، ورأينا في القاهرة عددا غير قليل يتبعون مذهبه حتى إن اسم البابية اختفى وحل محله اسم البهائية. وقد أنشئوا على حدود روسيا بناء عاما يعقدون فيه اجتماعاتهم، كما اتخذوا مكانا فسيحا في بغداد يجتمعون فيه.
ولما استولت الحكومة عليه رفعوا عليها دعوة. وكانوا يؤثرون التقية كسائر الفرق الشيعية، ويخفون دينهم عن غير أتباعهم، ولهم أتباع كثيرون في فارس يقدرون بثلاثة ملايين. وأتباع كثيرون في أوروبا وأمريكا، ولهم مجلة في أمريكا تصدر منذ سنة 1910، وهي تصدر تسعة عشر عددا في السنة طبقا لتصديق الباب دائما لهذا العدد، ومصدرها الرئيسي شيكاغو. وهم يبنون بناء يريدون أن يكون بناءهم المعتمد وسموه «مشرق الأذكار». ومن اعتنق البهائية من اليهود استخرج من التوراة ما يؤيدها كالآية التي وردت في سفر أشيعاء، وهي «يولد لنا ولد ونعطى ابنا وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا أبدا أبديا».
وقد كتب الأستاذ براون في كتاب دائرة المعارف في الدين والأخلاق يالإنجليزية مقالا بديعا في البابية، يدل على بعد النظر وسعة الاطلاع وعمق التفكير، ومن أحسن ما فيه إظهار الأثر الاجتماعي للفرقة البابية والبهائية.
وإذ كان البابية والبهائية تدعوان إلى السلام، وتبطلان الجهاد الذي جاء به الإسلام، وتعدان الناس إخوانا لا فرق بين فارسي وإنجليزي ولا شرقي وأوروبي، كان من مصلحة الإنجليز أن يحتضنوهما؛ لأنهما تمكنانهم من الاستعمار من غير مقاومة ولا جهاد، والدعوة إلى السلام إنما تكون صالحة يوم يتفق عليها الناس جميعا، أما إذا دعا إليها الضعفاء وبقي الأقوياء يتسلحون كانت صحبة كصحبة الحمل للذئب والأعزل للمسلح.
القاديانية
وأتى على أثرها فرقه القاديانية زعيمها «غلام أحمد»، وانتشرت في الهند، والقاديانية نسبة إلى قاديان، وهي بلدة من إعمال البنجال.
وقد زعم «غلام أحمد» هذا أن عيسى ابن مريم مدفون بموضوع قريب من كشمير، وهو قبر بوذي قديم. ويقول: إن عيسى ذهب إلى هذا المكان فرارا من اليهود ببيت المقدس وأن الوفاة هناك، وزعم أن هناك شواهد تاريخية كثيرة تؤيده، كما زعم أنه المهدي المنتظر وأن الله حل في جسده وأن له أيضا رسالة عالمية لا للمسلمين وحدهم، وكذلك مهديته من جنس سلمي كالباب لا من جنس عنيف كالفاطمية والحشاشين، وأعلن عدم الجهاد وحبب إلى أتباعه السلم والتسامح وعدم التعصب، ووجههم إلى العلم والثقافة، واجتهد في أن يكون ظاهره من المسلمين.
وقد بلغ أتباعه نحو مائة ألف والتف حوله بعض الهنود المثقفين ثقافة أوروبية، وأنشئوا مجلة إسلامية في لندن، وتوفي غلام أحمد هذا سنة 1908 في لاهور وكتب على قبره، «ميرزا غلام أحمد موعود»، ومعنى موعود مهدي، وأوصى بإنشاء مجلس ينتخب انتخابا حرا، ومن وظيفته أن ينتخب الرئيس الروحي للأحمدية، وقد احتضنت هذا المذهب أيضا الدولة البريطانية للأسباب التي ذكرناها من قبل، وقد ترجموا القرآن إلى الإنجليزية وطبعوه طبعا متقنا بالعربية والإنجليزية، وعلقوا عليه بالإنجليزية بعض تعليقات غريبة كدعواهم أن الجن هم الغرباء وكتفسيرهم آية سليمان
فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته
بأن المعنى أن هؤلاء الغرباء كانوا يستولون شيئا فشيئا على بعض البلاد التي كان يمتلكها، فلما مات سليمان ما دلهم على موته إلا انفتاح الباب أمامهم، وعدم انتقام سليمان منهم وإخضاعهم، وهكذا تدور التفاسير والتعليقات على تأويل كل شيء يدل ظاهره على مخالفة العقل.
وإذا كانت تعاليمهم وتعاليم الباب والبهاء غير واضحة تمام الوضوح، وكان اضطهادهم سببا في ضياع كثير من مذهبهم وروايتها عن طريق أعدائهم، فربما نسب إليهم ما ليس من رأيهم، والله أعلم.
وقد قال أحد الكتاب المحدثين عن فرقة القاديانية: وسهلت الحكومة البريطانية لأتباع غلام أحمد التوظف بالمحلات الحكومية العالية وإدارة الشركات الكبيرة والمفوضيات في الممالك الخارجية، وجعلت منهم ضباطا في رتب كبيرة في مخابراتها السرية، وفوضت إليهم إمارة مدن كبيرة، وجعلت البعض منهم وكلاء الإمارات وغير ذلك من أمور الدولة الهامة.
وحين تم تقسيم شبه الجزيرة الهندية إلى دوليتين: باكستان وهندستان ، انحازت أكثرية هذه الفرقة إلى الباكستان، وأخذ أفرادها يجدون ويجتهدون في نشر مبادئهم الهدامة بطرق مختلفة، وأسسوا في معظم البلاد العربية وغيرها دون المملكة السعودية مراكز لتبليغ، ونشر ادعاءاتهم الكاذبة بجد ونشاط غير عادي.
وأعلن غلام أحمد أن من لا يصدق بنبوته لا يدخل الجنة أبدا، وأمر أتباعه بأن يصلوا مع بعضهم ولا يصلوا وراء إمام آخر مسلم لا يعتقد اعتقادهم، ولا يصلوا على الجنائز سواء كانت جنازة صغير أم كبير.
وجاء في بعض كتبه: «أنا أحمد الذي بشر به عيسى - عليه السلام - وجاء نصه في القرآن
ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ، هذه الآية في حقي. وليست في حق محمد حيث إنه محمد وأنا أحمد. «وأنكر الاعتقاد بأن لا نبي بعد محمد، بل إن ذلك قلة أدب في حضرة النبي
صلى الله عليه وسلم
وباب النبوة مفتوح، والدين الذي يغلق باب النبوة دين ميت». «إن الله أخبر بأن قاديان هي أم القرى وهي الحقيقة، والآن تحولت البركات التي تنزل بمكة والمدينة إلى قاديان». «ولا شك أن ذكر قاديان في كلام الله موجود حيث ورد:
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله . والمسجد الأقصى الذي ورد ذكره في القرآن هو الذي بناه غلام أحمد».
ويعلن غلام أحمد بأن من لم يطعه ولم يبايعه، فقد عصى الله وعصى رسوله، وتعدى الطريق ومصيره إلى جهنم.
ومن تعاليمهم أن الحج يحتاج إلى مال كثير يصرفه الحاج في سفره، وقد يصل إلى حد الإسراف وأكثر هذا المال يذهب إلى صناديق الشركات الأجنبية التي لا تفيد المسلمين شيئا، ويقترحون عليهم أن المال الذي يصرف على الحج يجب أن تفتح به مدارس لتعليم القرآن الكريم، حيث يستفيد الواحد منه إلى الأبد ... إلى أمثال هذه الدعاوى.
وهذه الفرقة تسمى أحيانا القاديانية، وأحيانا تسمى الأحمدية نسبة إلى غلام أحمد، وأكثر المسلمين ينفرون منهم، ويعتقدون أنهم مارقون عن الإسلام خارجون على أهله، وقد صرح مصطفى كمال باشا وشيخ الإسلام ومفتي الإسلام بخروج القاديانية عن الإسلام. ويزعم محمد علي وأتباعه أنهم مسلمون، وأن غلام أحمد ليس إلا مسلما ومجددا، ولكن في كتبهم الأساسية ما يثبت غير ذلك، فقد نشر في مجلة الديانات مجلد 6 ص299 أن (محمد علي) رئيس القاديانية كتب أن الصاحب ميرزا «نبي» آخر الزمان، ويعنون بميرزا هذا غلام أحمد، وجاء في الخطبة الإلهامية لميرزا هذا قال: رأيت في المنام أني إله وأنا في اعتقادي كذلك «ع كمالات ص 565»، ويقول: إني أعتقد أن الإيحاءات التي أتلقاها معصومة من الخطأ كتلك التي كان ينزل بها القرآن «الدر الثمين». وقال: «إن إيماني بما يوحى إلي ليس أقل - على كل حال - من إيماني بالقرآن الكريم».
وجاء في أخبار الأخبار «أن الله يقول له أي ميرزا: أخبر الناس كافة أنك الرسول المقدس إليهم جميعا»، وجاء في كتاب آخر، أن الله الحق هو الذي أرسل نبيه في قاديان، وأن مدينة قاديان ستظل في مأمن من الوباء إذ كانت محل إقامته، ثم تدلى فزعم أنه أعظم من الحسين بن علي، وأنه المهدي المنتظر. •••
كما نشأ في الهند زعماء كثيرون تسموا بالمهدي، ولكن دعوتهم لم تلق النجاح الذي لقيته البابية والبهائية والقاديانية، كدعوى السيد أحمد الذي ظهر في أوائل القرن التاسع عشر في جهات الهند، وحارب الأشياخ على حدود بنجاب الشمالية الغربية سنة 1826، ولكن لم تقم له قائمة.
السنوسية
وربما كان من أشهر دعاة المهدية في العصور الحديثة أيضا السيد محمد المهدي السنوسي ابن الشيخ محمد السنوسي، ظهر في المغرب في أواسط القرن الثالث عشر الهجري، ونزل جغبوب على مقربة من واحة سيوة، وقد أنشأ زوايا كثيرة في أماكن متعددة يبلغ عددها نحو ثلاثمائة زاوية، وانتشرت طريقته انتشارا عظيما، ولما توفي لمح قبل وفاته أن المهدي المنتظر سيظهر قريبا، وأن ظهوره سيكون ختام القرن الثالث عشر الهجري، وقد رأيت كتابا عنوانه «الدرة الفرية في بيان الطريقة السنوسية» مطبوعا بمطبعة الجريدة بمصر، وتدور مقدمته على إثبات أن السيد السنوسي هذا هو المهدي المبشر به، ومما جاء في تلك المقدمة قوله : «أعلم أن أستاذنا السيد محمد المهدي - رضي الله عنه - كانت ولادته بماسة من الجبل الأخضر، سنة 1260 أول ليلة من ذي القعدة عند الفجر وغيابه عن الأعيان لحكمة أرادها الواحد المنان ضحوة يوم الأحد 24 صفر سنة 1320 ...».
مهدي السودان
وأخيرا كان المهدي في السودان، وقد كانت له حركة قوية شغلت الحكومات زمنا طويلا. وقد ولد المهدي هذا واسمه محمد بن عبد الله في دنقلة، وأسرته تقول: إنها شريفة من نسل رسول الله، وقد درس الفقه ثم تصوف علما وعملا وقد خالف شيخه في التصوف وتزهد وتقشف، وكون لنفسه مريدين وأنصارا على مذهبه الخاص وألف لهم الكتب الكثيرة يدعوهم فيها إلى طريقته، وما زال يكبر في نفسه حتى اعتقد أنه المهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلا وصلاحا، وقوى هذه العقيدة في نفسه صديقه عبد الله وهو المعروف بالتعايشي الذي أصبح خليفة من بعده، وأصله من دنقلة كذلك وقد حسن له عبد الله هذا الرحلة إلى كردفان، وفي أثنائها اتصل بكثير من رؤساء القبائل، وساعد على نجاح دعوته بعض الأهالي للحكومة المصرية لما كان يوم به بعض الولاة من فرض ضرائب ظالمة، ومعاملة قاسية وما كان من إعلان الحكومة المصرية عزمها على إلغاء الرقيق، وقد أثر ذلك أثرا سيئا في الحياة الاقتصادية في البلاد، فلما قويت حركته بعث رءوف باشا حاكم السودان إلى المهدي يأمره بالمثول بين يديه في الخرطوم؛ لأنه كان يستهين بأمره فلم يأبه المهدي بأمره، بل أجاب عن هذا بإعلانه أنه سيد البلاد الحقيقي، وأعلن الجهاد ضد الكافرين وهو يقصد بالكافرين ما يشمل المسلمين المصريين الظالمين، فأرسل رءوف باشا حملة عليه مكونة من مائتي رجل ببنادقهم ومدافعهم، وكان المهدي إذ ذاك يقيم في جزيرة آبا فأمر رءوف باشا جنوده بإطلاق النار على المهديين، وكان ذلك نهارا ولم يكن للمهدي بنادق ولا مدافع، فأمر أصحابه بالسكوت وأن يكمنوا في الأدغال حتى يجيء الليل، ثم أمرهم بالخروج من الأدغال ليلا، فهجموا على الجنود المصريين وأفنوهم، واستولوا على ذخائرهم ... ومن ذلك الوقت حاربهم المهدي بسلاحهم، ثم انتقل إلى كردفان ليكون بعيدا عن مقر الحكومة المصرية في الخرطوم ... وسيرت الحكومة المصرية حملة أخري قوية مؤلفة من نحو ستة آلاف رجل، ولكنها لم تتخذ وسائل الوقاية المعتادة، وكان من العادات المتبعة في السودان أن يحاط الجند ليلا بأسياج شائكة، فلم يفعلوا ذلك هذه المرة فأتاهم المهدي ليلا بجنوده وأبادهم، وإذ ذاك عظم شأنه واشتد أتباعه إيمانا به، وكان له في القاهرة أتباع يبشرون به، وتقاطر الناس من جميع أنحاء السودان؛ ليروا ولي الله ويقدموا له الهدايا، وكان منظره إذ ذاك متصوفا زاهدا يلبس جبة وسراويل من كتان ويتمنطق بحزام، ولكنه فيما بعد قلد المسلمين الأولين في احتياز خمس الغنائم، وأضاف إلى ذلك مصادرته للسارقين والخمارين والمدخنين للتبغ، فكثرت الأموال لديه، وانقلب مترفا وحرم على أتباعه دراسة علم الكلام والفقه، وأحرق الكتب التي تعالج هذه الموضوعات، ولكنه أوصى بالرجوع إلى أصول الإسلام الأولى من قرآن وحديث. ولما احتلت الحكومة البريطانية مصر بعد ثورة عرابي، أرادت أن تخضع السودان فبعثت بعشرة آلاف مصري بقيادة هكس باشا، ولكن من الأسف أن أعلنت ذلك وأبطأت في إعداد عدة الحملة، وذلك مكن المهدي من حسن الاستعداد فهجم المهدي على المصريين غير أن المصريين صدوا هجومه أول الأمر، ثم همزوا آخره وأبيدوا عن بكرة أبيهم، فوقع السودان كله تحت سلطان المهدي وفر من كان فيه من الأوروبيين إلى مصر، واستسلم للمهدي سلاطين باشا، وكان قبل ضابطا نمسويا ثم حاكما على دارفور، ثم اعتزمت الحكومة المصرية مصالحة المهدي والتخلي عن السودان، وأرسلت لهذه المهمة غوردون باشا، فأرسل غوردون إلى المهدي يعترف به سلطانا على كردفان، ويعترف بإباحة تجارة الرقيق فأجابه المهدي طالبا إليه الاستسلام، وعزم المهدي على محاصرة الخرطوم وفيها غوردن باشا، فتقدم إليها وقد أخطأ غوردون فلم يعلن إخلاء المدينة من غير المحاربين فكانوا سببا في الاضطراب، والحاجة الشديدة إلى الضروري من الأقوات وأخيرا أمر أتباعه بالهجوم على المدينة، ففتحوها وقتل غوردون وترك البريطانيون السودان مؤقتا.
وأحاط المهدي السودان بسياج قوي حتى يتقي شر الدسائس، واضطر أن يمنع السودانيين مؤقتا من الحج، ولكنه أصيب في منتصف يونية سنة 1885 بالتيفوس، فمات بعد ذلك بأسبوع وأوصى بالخلافة من بعده لصديقه القديم عبد الله، وكناه بأبي بكر وهو عبد الله التعايشي المشهور.
وقد اغتر عبد الله هذا بقوته وسلطانه، فاعتزم غزو مصر وهو مشروع كان ينوي المهدي تحقيقه وخاف المصريون هذا العزم، فسير سنة 1889 جيشا إلى مصر على رأسه القائد عبد الرحمن النجومي، وأمره باجتياز وادي حلفا، فأنزلت حماية وادي حلفا بجيشه خسارة جسيمه في أثناء زحفه، وخرج أقرباء المهدي على التعايشي لما أحسوا بضعف سلطانه، وكان من أقواهم السيدة زوجة المهدي.
وفي خريف سنة 1896 «قضى اللورد كتشنر - وكان سردارا لمصر - على إمبراطورية المهدي»، وختمت هذه المأساة. ثم كان في آخر القرن التاسع عشر حركة مهدية أخرى في الصومال، إذ ظهر في الصومال محمد بن عبد الله حسن، وقد حج إلى مكة سنة 1895 وهناك تصوف واعتنق فكرة المهدية حتى إذا رجع إلى وطنه دعا إلى طريقته، وسرعان ما اكتسب نفوذا كبيرا في قبيلته، ولكن الحكومة البريطانية قضت عليه سريعا باكتسابها له، واستخدامها إياه في تهدئة الثورات التي تقوم حولها.
وأخيرا في أثناء الحرب العالمية الأولى استطاع الإيطاليون هناك أن يقضوا على سلطته في شمال الصومال، ومات سنة 1920 بعد أن بث في أتباعه تعاليم على غرار تعاليم المهدي.
خاتمة
هذه صورة موجزة لما سببته مأساة فكرة المهدية، ومنها نفهم أن ثوراتها تكاد تكون متلاحقة منها ما كان يبلغ أقصى العنف كالحشاشين، ومنها ما كان يسالم كالبابية. وأيا ما كان فقد أثرت هذه الحركة في الدول الإسلامية المختلفة من أموية وعباسية وعثمانية، كما شجعت الصليبيين على فهم ما عليه المسلمون من ضعف، فهاجموهم واثقين من النصرة عليهم.
وبعد،
فمن المسئول عن ذلك؟ ...
إن الشيعيين اضطهدوا من السنيين وكانوا يدعون أنهم إنما يفعلون ذلك دفاعا عن أنفسهم، ولكن كانت غلطة يزيد بن معاوية في قتل الحسين غلطة كبرى لم يمكن إصلاحها ، فظلت تعمل عملها على طول الأزمان. ولم يكتف السنيون بذلك بل جعلوا يقتلون كل إمام طالبي يظهر، ونحن إذا قرأنا كتاب «مقاتل الطالبيين» لأبي فرج الأصفهاني رعبنا من كثرة ما وقع على العلويين من قتل وتعذيب وتشرد، وهذا القتل المتتابع حمل العلويين أن يختفوا، وقام حول الاختفاء دعاو غير معقولة من عصمة الأئمة ونحو ذلك؛ ولهذا التعذيب والقتل أيضا اضطر الشيعيون أنت يعتنقوا مبدأ التقية، ومعناه ألا يبيحوا بأسرارهم ومعتقداتهم إلا لمن يثقون بهم، وأنشئوا لأنفسهم أدبا شيعيا لا ينقطع وهو يقابل الأدب السني، ولئن كان كثير من الأدب السني كان يقال في مدح الخلفاء والملوك والأمراء السنيين، فإن الأدب الشيعي كان يقال في مدح الأئمة والرثاء الحار في قتلاهم.
وقد أثرت هذه الأحداث المتتابعة أحزانا عميقة في نفوس الشيعة، وانقلبت أحيانا إلى ثورات مهدية نقلنا بعضها، كما أثارت دموعا غزيرة حارة حتى ضرب المثل برقة دمعة الشيعي، وقال القائل:
أرق من دمعة شيعية
تبكي علي بن أبي طالب
وألف الشيعيون الاضطهاد والبؤس والشقاء حتى تمرسوا عليه، وانقلبت بعد ذلك هذه الحالة إلى مؤامرات سرية وتدبيرات خفية حتى لو قلنا: إنهم مهروا في ذلك كمهارة الماسونية لم نبعد عن الصواب، وإلى الآن يجددون هذه الأحزان في العشرة الأولى من المحرم، وينشدون القصائد ويضربون أنفسهم بالجنازير ذكرى لمأساة كربلاء، ويخصون بالسخط والكراهية يزيد وآله الأمويين ويقول بعضهم: ما لحياتنا قيمة لو لم نحزن على مقتل الحسين ونبكي عليه. ويرى بعضهم أن الحزن على الحسين علامة الإيمان الصحيح.
ومما زاد في العطف عليهم أنهم أقرب الناس إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأنهم معارضون للدولة الرسمية القائمة والمعارضون دائما ينالون عطف الشعوب كالذي نراه بين أحزابنا اليوم ... يضاف إلى ذلك أنهم مضطهدون، وكذلك المضطهد محل العطف وقد أنجح مواقفهم توالي الظلم من رجال الدولة الرسمية حتى لا يكاد ينجو من بذلك أحد منهم، فإسراف في الترف ومصادرات للأموال، وضرائب قاسية ظالمة وعكوف على الشراب إلى غير ذلك.
نعم إنه كان من الجميل جدا كرههم لظلم الخلفاء الرسميين، وإفهامهم الناس هذه المظالم التي ترتكب وحثهم على المطالبة بتحقيق العدل ورفع الظلم، ولكن يؤخذ عليهم شيئان:
الأول:
أنهم مزجوا هذه الدعوة بالأساطير، ولم يكتفوا بالرجوع إلى العقل.
والثاني:
أنهم لما ملكوا ونجحوا فعلوا في حكمهم مثل ما فعل الأمويون والعباسيون من مظالم ونحوها، فالفاطميون أسرفوا أيضا في الترف، واستمتعوا في مصر بكل أنواع النعيم كالذي روي عن هارون الرشيد.
وكانت ثروة الفاطميين تفوق القدر ويصعب تصديقها على العقل، فيقول المقريزي مثلا: إن رشيدة بنت المعز خلفت من العملة الذهبية نحو ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار عدا الجواهر والحلي، وخلفت ابنته الأخرى واسمها عبدة نحو سبعمائة وخمسين ألفا عدا الصناديق التي تحتوي على خمسة أكياس من الزمرد، وثلاثمائة قطعة فضية وثلاثين ألف ثوب صقلي، كما أن المعز اشترى ستارة من الديباج من فارس بنحو اثني عشر ألف دينار، وأولعوا بالتصوير مع أنه محرم في الإسلام فقالوا: إن اثنين من المصورين كان ينافس أحدهما الآخر هما القصير وابن عزيز، أحدهما صور الراقصة في ثياب بيض في قوس ملون بالسواد يحسبها الناظر داخلة فيه، والآخر صور فتاة بثياب حمر في قوس أصفر يحسبها الناظر بارزة منه، والخليفة الظاهر كان يعكف عن اللذائذ واللهو من خمر ونساء، ويترك أمور الدولة لوزرائه وقواده وهم يقابلونه كل عشرين يوما مرة، ثم يدعي هؤلاء النواب أنه أوعز إليهم بكل شيء، وأنه إمام معصوم متفرغ للعبادة. وقد كان يحدث هذا من الظاهر أيام كان الناس في مصر في مجاعة كبرى لا يجدون الخبز الضروري.
ولقد بدأت الدول الفاطمية في مصر ببذخ وترف، وانتهت بما يدلنا على غاية البذخ والترف، فبدأت بالهدايا التي قدمها جوهر للمعز، وانتهت ببيع صلاح الدين ما وجده في قصر المستنصر، وكل هذا التعرف والنعيم كان على حساب الشعب نفسه.
ولما حضر المعز أشار إلى طريقة حكمه إشارة مختصرة، وهي سيفه وذهبه حتى ضرب المثل بسيف المعز وذهبه، وليس حكم البلاد بواسطة السيف والذهب هو الحكم العادل الذي يطالب به المهدي المنتظر الذي يملأ الأرض عدلا، ونقرأ سيرتهم في موائدهم واحتفالاتهم، فنعجب من كثرة فخفختهم وعظمتهم وغناهم، مع ما يحكى من فقر الشعب، وكان للمعز مثلا يوم حج شمسية نصبت له مصنوعة من الذهب، مزينة بالزمرد الأخضر والياقوت، وكتب عليها آيات الحج بزمرد أخضر، وحشيت الكتابة بدر كبير لم ير مثله، حتى إنها لما جرت نصبها عدة فراشين لكثرة ثقلها، وصنع سرير الملك من الذهب، واستعمل فيه مائة ألف مثقال، وعشرة آلاف مثقال، وكل الحياة من هذا القبيل ... هذا من ناحية ترف الخلفاء الفاطميين وبؤس الشعب. ومن ناحية أخرى كم قتل الحاكم بأمر الله وكذا فعل غيره من الخلفاء، ولما تولى الظاهر الفاطمي عكف على اللهو والملذات بما لا يقل شأنا من ترف المترفين المستهترين من الخلفاء العباسيين، ولما أزال صلاح الدين ملكهم وكل بالمحافظة على قصورهم الطواشي قراقوش، وتسلم القصور وفيها من خزائن ودواوين وأموال، ونفائس ما عظم عن الوصف، وقد قالوا: إن صلاح الدين أمر ببيع ما في القصور، فاستمر البيع فيها نحو عشر سنين وكان من الموجود فيها مائة صندوق من الكسوة الفاخرة الموشحة المرصعة، وعقود ثمينة وجواهر نفيسة، وكان فيها آلاف من العبيد والخدم وآلاف من الجواري ليس فيهم فحل إلا الخليفة وأولاده، وليس هذا الغنى المفرط إلا من دماء الشعب الفقير البائس.
وكان حكم القرامطة والحشاشين لا يقل شأنا عن هذا، نعم إنهم كانوا يسوون بين الناس في الغنى والفقر، وكانوا يضربون الضرائب على الأغنياء ويصرفونها على الفقراء، ولكن لهم ناحية أخرى سيئة جدا في حكمهم وهي القسوة والقتل والتخريب والهدم، وهي أعظم فظاعة من الغنى والفقر.
قال شاهد عيان يوم دخل القرامطة الكعبة: رأيت رجلا قد صعد البيت الحرام ليقلع الميزاب، وكنت أطوف بالبيت وإذا بقرمطي سكران قد دخل المسجد بفرسه، فضفر له حتى بال في الطواف وجرد سيفه يضرب به من لحقه، وانهالوا مرة على قوافل الحجاج يسلبون وينهبون ويفسقون ويقتلون، وأتى القرامطة من الأفعال ما تقشعر منه الأبدان، وأخذوا كل ما وصلت إليه أيديهم من الحلي الثمينة والتحف القديمة التي كانت معلقة على جدران الكعبة أو محفوظة في خزائنها حتى قالوا: إنهم استخدموا نحو خمسين جملا لنقل ما نهبوه من الكعبة فقط. ومائة ألف ألف لما غنموا من مدينة مكة وضواحيها، وكان مما نهبه القرامطة الحجر الأسود كما ذكرنا من قبل، وخرجوا من مكة ينشدون علنا:
فلو كان هذا البيت لله ربنا
لصب علينا النار من فوقنا صبا
لأنا حججنا حجة جاهلية
محللة لم تبق شرقا ولا غربا
وأنا تركنا بين زمزم والصفا
جنائز لا تبغي سوى ربها ربا
والحشاشون نكلوا بالبلاد تنكيلا فظيعا، وخوفوا العظماء وأرهبوهم، والموحدون اضطهدوا ابن رشيد الفيلسوف وسجنوه بعد أن أكرموه، ومهدي السودان كان حاكما مستبدا يقسو ولا يرحم، وينكل بأعدائه وخصومه تنكيلا شديدا، فحكوماتهم كانت تنعي على الظلم وتظلم، فلا رأينا عدلا من السنيين ولا من الشيعيين «وكلهم في الهم شرق». والعدل الذي كان يقول به دعاة المهدي المنتظر لم يتحقق في كثير ولا قليل، ولكن ظلما يقابل بظلم، وشعبا يطمح إلى العدل فيخيب أمله، نعم إن عقائد هذه الشيعة وأسرارها وما قيل عن تعاليمهم متناقضة، فبينما يقول مؤيدو الإسماعيلية: إنهم منعوا السكر وحتموا الزواج بواحدة إذا بخصومهم يرمونهم بشرب الخمر والاعتداء على النساء، وقد زاد في بلبلة الأفكار والتناقض في ذكر المعتقدات قلة ما أثر عنهم من كتب وتعاليم. ولكن مهما اختلف المختلفون في المعتقدات، فأمامنا الأعمال الظاهرة التي لا تشرف والتي لا يستطيع أحد أن ينكرها، سواء أكان من المعارضين أم المؤيدين، ولو كانت هذه التعاليم قد دخلت قلوبهم وأنهم يستمدونها من مهدي منتظر، ومن إمام حق مستتر لانعكست عقائدهم على أعمالهم، أما الأعمال سيئة فما قيمة المعتقدات ولو صحيحة. فحكومات الخلفاء الرسميين لم تكن ترضي عاقلا، وحكومات الشيعيين كذلك لم تكن ترضي عاقلا أيضا، والناس إنما يطمحون بعد هذا الفشل إلى إمام عادل يتبع العقل لا المهدي المنتظر، وربما كان الفرق بين ظلم خلفاء بني أمية وبني العباس من جهة والشيعيين من جهة أخرى أن الأولين كانوا يظلمون ويجهرون، والآخرين كانوا يظلمون ويستترون.
على العموم كان الخلفاء الرسميون يظلمون الشيعة وينكلون بهم، وكان الشيعة يثيرون الثورات ويدبرون الدساس والمؤامرات، والنتيجة ظلم من هذا وظلم من ذاك.
في ضوء هذا لا نستطيع أن نحدد المسئولية، هل هي على أهل السنة أو على أهل الشيعة، ونحار كما حار أبو العلاء في قوله:
لا ذنب للدنيا فكيف نلومها
واللوم يلحقني وأهل نحاسي
عنب وخمر في الإناء وشارب
فمن الملوم أشارب أم حاسي
وربما كان الأصح أنهما مسئولان معا: هذا السني بجوره وظلمه وسفكه لدماء العلويين من غير حساب، وهذا العلوي بالانتقام من غير وقوف عند حد، وكلاهما لم ينظر في المسألة إلى مصلحة المسلمين، وإنما نظر فيه إلى نفسه وحزبه، والله يحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون.
ونحن إذا ذكرنا حللنا فكرة المهدوية إلى عناصرها الأولية، وجدناها ترتكز: (1)
على الاعتقاد بإمام من آل البيت، وأن هذا الاعتراف أساس من أسس الإيمان كالاعتقاد بنبوة محمد، روي عن أبي حمزة قال: قال لي أبو جعفر: إنما يعبد الله من يعرف الله. فأما من لا يعرفه فقد ضل ضلالا بعيدا. قلت: جعلت فداك فما معرفة الله. قال: تصديق الله - عز وجل - وتصديق رسوله، وموالاة علي، والائتمام به وبأئمة الهدى - عليهم السلام، والبراءة إلى الله - عز وجل - من عدوهم، وليس بمسلم حقا من لا يعترف بالله ورسوله والأئمة جميعا، وإمام عصره ومن لا يفوض أمره للإمام، ويبذل نفسه في سبيله، فالعقيدة في الإمام ركن سادس من أركان الإسلام. (2)
عصمة الأئمة وعصمة المهدي المنتظر، فالأئمة لا يذنبون بطبيعتهم ولا يفكرون في ذلك. وقد ثارت خلافات في عصمة الأنبياء بالطبيعة، ورووا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «توبوا إلى ربكم فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة»، وقال: «إنه ليغان على قلبي»، فهذه الأحاديث ونحوها لا تؤيد معنى العصمة التامة، ولكن الشيعة لا يختلفون في عصمة الأئمة. (3)
علم الأئمة والمهدي بالمغيبات مع أن النبي
صلى الله عليه وسلم
يقول: «ما لي ولهم يسألوني عما لا أرى، وإنما أنا عبد لا علم لي إلا ما علمني ربي». وفي القرآن الكريم:
قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله . (4)
الاعتقاد بأن للأئمة نورا إلهيا أو قبسا من نور الله على نحو يرفعهم فوق المستوى البشري المألوف، وغلا بعضهم في ذلك فرأوا أن عليا والأئمة هم صور وأشكال، يتمثل فيها الجوهر الإلهي وأن جثمانية هذا الجوهر ليست إلا حادثا طارئا. (5)
أن هؤلاء الأئمة ومنهم المهدي إنما جاءوا ليواجهوا الدهر، ويرفعوا الظلم ولذلك اقترنت دائما كلمة يملأ الأرض عدلا بكلمة كما ملئت جورا.
وقد كان لبعض الناس في عقيدة المهدوية خرافات غريبة، من ذلك أن بعضهم كان يخرج كل يوم إلى مكان معين قبل طلوع الشمس ينتظر مجيء المهدي؛ لأن بعض الأساطير فيها تحديد مكان الخروج وزمانه، فإذا لم يجدوا شيئا عادوا منكسي الرءوس.
ومنها ما حكاه ابن خلدون أنهم كانوا يحسبون خروج الإمام بحساب الجمل، فيحددون زمان خروجه فإذا كانوا يحسبون خروج الإمام بحساب الجمل، فيحددون زمان خروجه فإذا جاء هذا الوقت، ولم يخرج ادعوا أن هذا التاريخ تاريخ ولادته لا تاريخ خروجه.
على كل حال فإن هذه العقيدة في المهدوية وصفاتها لا تتفق وطبيعة الأشياء، فأي خليفة معصوم وأي إنسان يعرف الغيب، وأي إنسان يختفي ويبقى مختفيا مئات السنين من غير أن يجري عليه الله حكم الموت ثم يكون عنده دائما عينان نضاختان فيهما عسل وماء؟ ... هذه الأشياء كلها لا تجوز إلا على السذج الذين فقدوا عقولهم ... وأظن أن انتباه الرأي العام، وتعقله يقللان في المستقبل من تكرار مأساة المهدوية. وقد نشأت عقائد ثانوية على هامش المهدوية من أهمها: (1)
أولا: فكرة التجديد والمجدين وهي تلاقي ما عند المهدية من أن المهدي يخرج ليلاقي أحداث الزمان، ويرفع الظلم ويحقق العدل. (2)
فكرة الصوفية في القطب والغوث والأبدال، فهي فكرة تلاقي ما يقوله أصحاب النظرية المهدوية في أن المهدي أفاض عليه الله من نوره، وأناله قبسا منه. وسنشرح كل نظرية من هذه النظريات بكلمة تبينها.
فأما التجديد والمجددون فمستند إلى حديث رواه أبو هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». والفكرة في ذاتها وجيهة؛ لأن التشريع دائما يتغير بتغير الزمان والمكان.
وفي الفقه أمثلة كثيرة من هذا القبيل، فقد رووا أن أبا حنيفة كان يقول: من غصب ثوبا وصبغه أسود فقد قلل من قيمته، وكان أبا يوسف يقول: من غصب ثوبا وصبغه أسود فقد زاد قيمته، والسبب في ذلك اختلاف الزمان والبيئة؛ لأن الدولة العباسية اتخذت السواد شعارا رسميا لها، وكان من خالفها يبيض أي: يلبس البياض فارتفع بذلك سعر الملون باللون الأسود.
وقال الفقهاء أيضا: في الأزمنة القديمة كان الرجل إذا رأى غرفة في البيت سقط عنه خيار الرؤية؛ لأن الغرف كلها متشابهة في الشكل، وبعد ذلك اختلفت البيوت فأصبح لا يسقط عن الرجل خيار الرؤية إلا إذا رأى الغرف كلها لاختلاف هندسة الغرف.
والإمام الشافعي نفسه له مذهب قديم لما كان في العراق، ومذهب جديد لما حضر إلى مصر لاختلاف البيئة، بيئة العراق وبيئة مصر، وهذه إحدى العلل الكبرى لمشروعية النسخ، وهي أن الزمن يتغير فيقتضي ذلك تغير التشريع، وقد أخذ الفقهاء والمؤرخون يبحثون في كل مائة سنة عمن يصلح أن يكون مجددا، قالوا: إنه على رأس المائة الأولى كان عمر بن عبد العزيز، والثانية الشافعي، والثالثة ابن سريج أو الأشعري، والرابعة أبو حامد الأسفرائيني، والخامسة الغزالي، والسادسة الفخر الرازي، والسابعة ابن دقيق العيد وهكذا.
والحق أن هذا التحديد نسخ للفكرة الصحيحة، تجديد التشريع كلما تغيرت الظروف، وقد يكون ذلك أكثر من مائة سنة، وقد يكون في أقل فليس من الضروري تحديد المائة بالوزن أو بالمتر، وإنما فائدة «الحديث بيان الفكرة»، وذلك لا يكون في التشريع وحده بل يكون في كل مرفق من مرافق الحياة الاجتماعية.
وهذا التجديد معناه مرونة العقل لإحلال الأوضاع الجديدة محل الأوضاع القديمة، أو تعديل الجديد ليتفق والقديم، وكانت تتوارد على الشيخ محمد عبده أسئلة جديدة لم يتعرض لها الفقهاء من قبل؛ لأن البيئة خلقتها خلقا جديدا مثل قراءة في الراديو، ولبس البرنيطة والتأمين على الحياة، وإيداع المال في صناديق التوفير وهكذا، مما لم يكن معروفا من قبل، وقد عرف جان جاك روسو التجديد بأنه «الأخذ بالمبادئ الإنسانية والمبادئ العقلية والتسامح الفلسفي، وإحلال ذلك محل الأوضاع القديمة، ومحل تقديس السلطات ومحل التعصب والضيق النظر»، ويكون التجديد في كل حالة بحسبها، وقد يجد دعاة التجديد أنفسهم أمام تيارين متناقضين فيضطرون إلى منازلتهما جميعا كالذي حدث في عصرنا في مذهب الاشتراكية، إذ رأى أصحابها أنهم مضطرون إلى منازلة فكرة الشيوعية المتطرفة وفكرة الرأسمالية الجامدة.
ويساعد على فكرة التجديد شعور الشعوب بسوء الحال، وطموحهم إلى حال خير من حالهم، ونظام خير من نظامهم، وعدل يحل محل ظلمهم لتسري الدعوة إلى التجديد وإلى التعمير سريان النار في الهشيم. ووصف سوء الحال وبث الطموح إلى خير منه هما أهم ما دعا إلى إثارة الشعوب لدعوة المهدية.
والناس في قبول دعوة التجديد مختلفون، فهناك جماعات أشد مقاومة للتجديد وجماعة أشد تلبية لها. ذلك أن الجماعات التي تكونت حديثا ولم تتقيد بقيود ثقيلة من الأوضاع كأمريكا تكون أقرب إلى التجديد، ومن كثرت أوضاعهم وقدمت كانوا أشد بطئا في قبول فكرة التجديد، وما مظاهر القلق والاضطراب في الأمة إلا مظاهر حرب بين جديد وقديم، وبعبارة أخرى بين قديم ظهر فساده وجديد لم يرتكز بعد، ومن المظاهر البينة أن مرافق الحياة جديدها وقديمها في كل شعب تتفاعل كما تتفاعل المواد الكيميائية، حتى يتم بينها الانسجام فإذا دخل التجديد في مرفق، فسرعان ما تنفعل لذلك سائر المرافق، كحوض الماء يصب فيه ماء بارد وماء ساخن، فسرعان ما يكتسب البارد السخونة والساخن البرودة حتى يتكون منهما ماء في درجة حرارة واحدة، والفرق بين الدعوة إلى التجديد والدعوة إلى المهدية أن الأولى ترتكز على العقل، وعلى تجارب الحياة وعلى الواقع، أما الدعوة الثانية فترتكز على عقيدة دينية فقط بإمام منتظر، وأن السلطة السماوية هي التي تقربه وهي التي تؤيده ... وأما فكرة الصوفية في القطب والأبدال، فهي أن الصوفية كما تأثرت بالإسلام تأثرت أيضا بتعاليم الفلسفة، وخصوصا الفنوسطية والأفلاطونية الحديثة، وخلاصتها أنه في القرن الثاني الهجري حينما ترجمت كتب الفلسفة إلى اللغة العربية اندس من بعض الجهات أو تسربت فكرة من الأفلاطونية الحديثة من مثل نظرية الفيض الإلهي والفناء في الله، وتأويل آيات القرآن بالرموز المعنوية، فهم إذا سمعوا قوله تعالى مثلا:
واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ، أولوها بأن لها تفسيرا باطنيا هو أن المرسلين الثلاثة هم الروح والقلب والعقل، وأن الاثنين الأولين هما الروح والقلب وهما اللذان كذبوهما، وأن الثالث هو العقل كالاعتقاد في نظرية الفناء في الله، وشرطهم أن الإنسان يجب أن تتلاشى شخصيته، وينعدم شعوره بوجوده كالذي قال: «دعني أفنى كما تفنى الأنغام في العود، فإننا إليه نعود»، وهم يدعون إلى فناء الفرد في الذات الكلية الإلهية، ولا يستطيع المكان ولا الزمان أن يحد هذه الذات المتناهية، وللمريد درجات في الفناء يترقى إليها شيئا فشيئا، ووسيلة ذلك عمق التأمل، وبعبارة أخرى المراقبة الدقيقة لحالات النفس، وينتهي به ذلك إلى غاية هي أن يصبح المتأمل فيه شيئا واحدا، وهذا هو التوحيد الصحيح.
هذه النزعة وأمثالها هي بعض نزاعات الصوفية، وبعضهم يرى أنها لا تتنافى - بل يجب أن تكون - مع التزام الشعائر الظاهرة من صلاة وزكاة وصوم وحج، وبعض الفرق يرى أن هذه الشعائر الظاهرة ليس إلا وسائل لغاية، فمتى حصلت الغاية فلا لزوم لها وأن من حق الصوفي أن يتخطى كافة النواميس الخلقية، وأن يخرج على العرف الاجتماعي.
على كل حال اندس إلى الشيعة الصوفية معا بعض هذه التعاليم، وتلاقيا في بعض هذه المظاهر فكما اعتقد المهدية في المهدي واختفائه وخروجه؛ ليملأ الأرض عدلا اعتقد الصوفيون أن هناك مملكة روحانية منظمة تنظيما دقيقا، وهي وراء هذه المملكة الظاهرة، كما اعتقد الشيعة أن لهم أئمة غير الأئمة الرسميين من أمويين وعباسيين وغيرهم، وسمى الصوفية رؤساء هذه المملكة بأسماء خاصة كالقطب والغوث والأبدال، فالقطب يمثل الإمام أو الخليفة وهو على رأس المملكة الروحانية، وأحيانا يسمونه قطبا وأحيانا غوثا، فإذا سموه قطبا فباعتبار مركزه في المملكة الروحانية وأنه على رأسهم، وإذا سموه غوثا فباعتباره ملجأ الملهوف، وقد عرفوه بأنه موضوع نظر الله في كل زمان أعطاه الله الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون سريان الروح في الجسد وبيده قسطاس الفيض الأعم، وهو يتبع علمه وعلمه يتبع الحق وهو يفيض روح الحياة على الكون ومرتبته تسمى القطبية، وهو باطن روح الحياة على الكون ومرتبته تسمى القطبية، وهو باطن روح النبوة ولا تكون القطبية بعده إلا لورثته، وليسوا ورثته لصلبه ولكن ورثته ممن يستحقون هذه الولاية، وله في المملكة الروحانية نواب يسمون الأبدال، كل إقليم له بدل خاص يشرف على شئونه، وهكذا رسموا معالم هذه الولاية الروحانية، وقسموا أعمالهم وقالوا: إنها لروحانيتها معصومة كعصمة الأنبياء والأئمة، وهاموا في ذلك ما شاء لهم الخيال، فهم يضعون الخطط للعالم الظاهري؛ ليفعل ما يفعل ويترك ما يترك فسموا كثيرا من كبار الصوفية بقطب الأقطاب والقطب الرباني ونحو ذلك.
وسموه أيضا بمجمع البحرين؛ لأنه يجتمع في بحر الوجوب والإمكان، وتجتمع فيه الأسماء الإلهية والحقائق الكونية إلخ ... فكم من القرب بين تعاليم الصوفية وتعاليم الشيعة في هذا الباب، وكذلك بين تعاليم الصوفية وتعاليم المهدوية.
وقد عقد ابن خلدون فصلا قيما في المهدي والمهدوية، ذكر فيه الأحداث التي وردت في المهدي مثل ما رواه جابر، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «من كذب بالمهدي فقد كفر ومن كذب بالدجال فقد كذب»، ومثل ما رواه الترمذي عن النبي
صلى الله عليه وسلم : «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلا مني يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي»، ومثل حديث عن علي عن النبي قال: «لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي، يملؤها عدلا كما ملئت جورا»، ومثل ما رواه الحاكم عن أم سلمة قالت: «سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يذكر المهدي ويقول: هو حق وهو من بني فاطمة»، وعن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : المهدي مني، أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، إلخ ... »، وقد ضعف ابن خلدون أسانيد هذه الأحاديث، وروى حكايات عن جماعات كثيرة، قالوا: بدعوة المهدية وأن أكثرهم فشل في دعوته فقتل أو هرب، ثم ذكر علاقة فكرة المهدي بالمتصوفة، فقال: «إن المتقدمين منهم لم يكونوا يخوضون في شيء من هذا، وإنما كان كلامهم في المجاهدة بالأعمال ثم كان كلام الإمامية من الشيعة في تفضيل علي والقول بإمامته وادعاء الوصية له، ثم حدث بعد ذلك القول بالإمام المعصوم، وجاء آخرون يدعون رجعة من مات من الأئمة بواسطة التناسخ، وآخرون يدعون ألوهية الإمام بنوع من الحلول، فتسرب هذا إلى الصوفية فقالوا: بالقطب وقالوا: بالحلول كالذي كان من الحلاج وأشباهه، ويقول: إن المتصوفة الذين عاصروا ابن خلدون أكثرهم يشيرون إلى ظهور رجل مجدد لأحكام الملة ومراسم الحق، ويتحينون ظهوره ...
ومن رأي ابن خلدون أن من نجح من دعاة المهدية يرجع نجاحه لا إلى أسباب دينية، وتنبؤات ونحو ذلك، وإنما يرجع على أن له عصبية قوية تحميه وتدافع عنه، كالذي حدث للفاطميين والقرامطة وغيرهم.
وأما من فشل منهم ففشله يعود إلى ضعف عصبيته؛ ولذلك كان منهم من قتل ومنهم من هرب وذلك وفاقا لنظرية ابن خلدون التي أثبتها في محل آخر، وهو أن الملك لا يقوم إلا على أساس من العصبية، وعلى هذا قامت دولة بني أمية لتعصب الأمويين لها، وقامت دولة العباس لتعصب الخراسانيين لها، وهذا هو السر في الحديث المأثور: «الأئمة من قريش»، والسر في ذلك عصبية القرشيين لهم؛ ولذلك تدور العلة مع المعلول فإذا كانت هناك عصبية أقوى من عصبية قريش، فصاحبها أولى كالجنود الأتراك الذين كانوا يتعصبون للمعتصم، ونحو ذلك من الجنود المصطنعة، فالمهدية أيضا قامت على أساس هذه العصبية، وقد قواها إلصاق المهدية بالدين، والناس للدين أكثر انقيادا.
وقد قرأت رسالة للأستاذ أحمد بن محمد بن الصديق في الرد على ابن خلدون سماها «إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون»، وقد فند كلام ابن خلدون في طعنه على الأحاديث الواردة في المهدي، وأثبت صحة الأحاديث وقال: إنها بلغت حد التواتر، ونقل أحاديث أخرى لم يذكرها ابن خلدون، وكان من رده عليه، أن ابن خلدون قال: إنه لم يخلص من هذه الأحاديث التي وردت في المهدي إلا القليل أو الأقل منه، فسأله في صراحة وماذا تصنع بذلك القليل، هل يؤمن بالقليل إلا إذا اشتهر أو تواتر؟ كلا لا يمكن ذلك؛ لأنه لا يرى هذا الرأي ولا رآه أحد قبله ولا بعده، ثم نقده أيضا في أنه احتج في مواضع أخرى من تاريخه بأحاديث أفراد ليس لها إلا مخرج واحد، وفي ذلك المخرج مقال، أتراه إذا وافق الحديث هواه قبله ولو كان حديث آحاد، وإذا لم يوافق هواه لم يقبله لو كان صحيحا؟؟ ثم رد عليه في دعواه نسبة رأي بعض الصوفية في الحلول، وأنها مستقاة من الشيعة بأن هذا غير صحيح وأن ابن خلدون لم يفهم معنى الحلول، ثم قال: أنه يؤمن بأحاديث المهدي لما ورد فيه من الأحاديث الصحيحة والحسنة، وأن ابن خلدون مبتدع والمبتدعة أقسام، منهم من كفر ببدعته كالمجسم، ومنكر علم الله للجزئيات، ومنهم من لا يكفر ببدعته وهو من ابتدع شيئا دون ذلك وربما عدا ابن خلدون من هذا القبيل، وقد أطال في ذلك وخالف ابن خلدون في دعواه الكذب أو الضعف في كل من روى عنه ابن خلدون، وروى عن جماعة من أهل العلم، قالوا شعرا في المهدي يثبتون وجوده، مثل:
وخبر المهدي أيضا وردا
ذا كثرة في نقله فاعتضدا
ومثل قول السيوطي:
وما رواه عدد جم يجب
إحالة اجتماعهم على الكذب ... إلخ إلخ
فلئن كان ابن خلدون قد قال: بضعف الأحاديث الواردة في المهدي إلا القليل، فإنه اعتمد في رد هذا لا على السند وحده ولكن على مخالفة المتن لحكم العقل أيضا، والظاهر أن مذهب ابن خلدون قبول خبر الواحد إذا أيده حكم العقل، ورفض الأحاديث الكثيرة إذا لم يؤيدها العقل، وهذه بعينها كانت طريقة كبار المعتزلة كالنظام وأبي الهذيل العلاف، فلهم في الحديث طريقة خاصة غير طريقة المحدثين، فالمحدثون يعتمدون في النقد والإثبات على السند وحده، أما المعتزلة وعلى رأيهم ابن خلدون فيعتمدون على نقد السند، ويحكمون العقل في المتن، ولا سيما أن كل الحسابات التي بنيت على ظهور المهدي في وقت معين، وفي مكان معين استنادا على اليازرجات والملاحم والتنبؤات، وحساب الجمل ظهر كذبها، ولم يصح منها شيء فكل حركة من حركات المهدية، سواء منها ما نجحت وما لم تنجح قد قضى عليها، إما في مهدها أو بعد قرون قصيرة أو طويلة، وما نجح منها كالفاطميين والقرامطة والحشاشين لم يملئوا الأرض عدلا كما ملئت ظلما على حساب دعواهم، بل كان مثلهم مثل غيرهم وكانوا في مدة حكمهم محتاجين هم أنفسهم إلى مهدي آخر يذهب بظلمهم، ونحن نعلم من التجارب أن الله جعل للعدل والظلم قوانين اجتماعية كالقوانين الطبيعية للأشياء، والقوانين الاجتماعية هذه ليس منها إمام مستتر يعيش مئات السنين، وهو في استتاره يحرك أتباعه ليزيلوا المظالم، إنما الطريق الطبيعي هو ظهور مصلح اجتماعي يشعر الناس بالألم من الظلم، والطموح إلى العدل، فيضطهد ويعذب ولا يزال أتباعه يكثرون، وكلما عذب أمام الناس ازدادت دعوته قبولا، حتى يقوى فيزيل المظلمة أو المظالم التي دعا إلى إزالتها، ويحل الصالح محل الفاسد.
وقد قرأت رسالة أخرى في هذا الموضوع عنوانها «الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة» لأبي الطيب بن أبي أحمد بن أبي الحسن الحسيني، ذكر فيها أيضا أقوال ابن خلدون ورد عليه، وعند أقواله زلة زلها وليست من التحقيق في شيء، واستخلص أخيرا أن المهدي يظهر في آخر الزمان، وإن إنكار ذلك جرأة عظيمة وزلة كبيرة.
وأما السنيون فعقيدتهم في المهدي أقل خطرا؛ لأنهم يعتقدون أنه من أشراط الساعة كالمسيح والدجال، وأنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى المهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة على أثره، ثم ينزل عيسى فيقتل الدجال، ثم يأتم عيسى بالمهدي إلى غير ذلك.
ولما كانت الساعة أو آخر الزمان غير معلوم الوقت كان كل خارج يدعي أنه المهدي، وأنه علامة آخر الزمان إلى غير ذلك، وقد كتب الإمام الشوكاني كتابا في صحة ذلك سماه التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح.
وأنا ممن يرى رأي ابن خلدون في ضعف هذه الأحاديث المهدوية، وفي أن من نجح من المهديين، إنما نجح لكثرة أتباعه وقوتهم، وفشل من فشل لقلة أتباعه وضعفهم، ولسنا ننصر ابن خلدون لسنيته ولا نضعف خصومه لشيعتهم.
إنما نقبل ما نقبل ونرفض ما نرفض للحق وحده، حسبما نعتقد وكلام ابن خلدون أقرب للعقل، ولئن كانت الأحاديث المروية عن المهدي قد ضعفها ابن خلدون لسندها، فهناك وجه آخر لتضعيفها، وهو عدم ملاءمتها للعقل إذ كيف يعقل إمام معصوم يخرج في زمان قد حدد، وأنه يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما، بل إن الواقع أيضا ينافي ذلك، حتى إن من نجح من دعاة المهدية، وأسس دولة لم يحقق عدلا ولم يرفع ظلما، بل كان الثائرون والمثور عليهم على دين واحد وسياسة واحدة، كما بينا ذلك.
وقد نظم الصوفية - كما قال ابن خلدون - مملكة باطنية على نظام المملكة الظاهرية، ولقبوا أصحابها ألقابا منهم الأوتاد والأبدال والنقباء والنجباء وعلى رأسهم القطب، وهم يرتقون في المناصب كما يرتقي الموظفون، وهذا القطب يعلم ما كان وما يكون وقد سئل أحمد ابن تيمية: «هل في الوجود طائفة من أولياء الله يقال لها: الأوتاد وأخرى يقال لها: الأبدال وغيرها يقال لها: النقباء، وخلافها يقال لها : النجباء، ورئيس على الكل يقال له: القطب الغوث الفرد الجامع؟ فقال: إن إطلاق هذه الأسماء من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، بل ذلك كله كذب وضلال لا أصل في كتاب الله، ولا سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولا قاله أحد من سلف الأمة، ولا من الشيوخ الكبار المتقدمين الذين يصلحون للاقتداء بهم، والله تعالى يقول:
قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ، ويقول:
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ، ويقول:
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء .
وقد قال الوهابيون بقول ابن تيمية هذا، وقد أقام بعض الصوفية مراسيم كمراسيم الدولة الظاهرية، وقالوا: إنه تجب لصحة القطب أن يبايع في دولة الباطن، كما يبايع الخليفة في دولة الظاهر، وقد قال ابن الجوزي: إن أحاديث البدال كلها موضوعة، وهؤلاء الأبدال الذين يزعمون أنهم أربعون كلما مات منهم رجل أبدل الله مكانه رجلا، وقد ربطوا هذه الأخبار عن الأقطاب والأبدال وغيرهم بأخبار الخضر، إذ كان يعلم علم الباطن على حين موسى - عليه السلام - كان يعلم علم الظاهر، وزعموا أنه حي مستتر في كل زمان!
وأخيرا نقرأ في الدولة العثمانية نظام الفتوة وتعاون بعضهم مع بعض وفرقة البكطاشية والنقشبندية، ونحو ذلك من نظم سرية وتعاليم خفية، فنسمع منها صدى لأنظمة الإسماعيلية ودعواتهم، بل ربما كانت صدى لتأثير المبادئ الإسماعيلية في أوروبا فهناك ما يشبه تعاليمهم في نظم الأديرة والجمعيات، بل ربما كان للقرامطة تأثير بين في نظم الرهبنة اليسوعية، وربما تكشف الأيام عن ذلك.
وقد كان من مبادئ القرامطة فرض ضرائب على الفقراء؛ لتوزع على المرضى والمحتاجين منهم عند الضرورة وهو شيء يشبه عمل النقابات الحديثة، وكم نقل الصليبيون في حروبهم مع المسلمين من أنظمة، فلعل منها النظام الإسماعيلي والديمقراطي الذي ساد الجمعيات الأوروبية.
من هذا نرى كيف لعبت المهدوية في تاريخ الإسلام، وإصابته مع الأسف بمصيبتين كبيرتين:
إحداهما:
إضعاف شأن المسلمين إضعافا كبيرا بهذه الثورات المتتالية.
وثانيتهما:
بنشر هذه الأساطير والأوهام بينهم مما أضعف عقولهم، وهما ضرران كبيران.
وكثيرا ما يعتقد الناس الاتصال فعلا بالمهدي، وتلقي تعاليمه كالذي رواه الشعراني من أن هناك اجتماعات روحية صوفية، وأنه كان أحد أفراد هذه الجمعية وهو صديق للشعراني واسمه الشيخ حسن العراقي أفضى إليه بأنه هو في حداثته كان يقيم في دمشق، وأنه أضاف المهدي أسبوعا عنده وأخذ عنه أساليب الذكر والزهادة، وأنه يستفسر من المهدي عن كل ما أشكل عليه، وأن هذا الاتصال سبب له طول العمر، فقد كان سن العراقي عندما تحدث بهذا الحديث يبلغ من العمر 127 سنة.
وقد ساح بعد ذلك إلى الهند والصين، ثم رجع إلى مصر ومنعوه من دخولها، وهناك قصص كثيرة حول الاتصال بالمهدي والأئمة والمختفين، وقد كانت هذه الفكرة تملأ أذهان الناس حتى استفتي فيها ابن حجر الهيثمي، وكان السؤال يدور على أنه سئل عن طائفة يعتقدون في رجل مات منذ أربعين سنة أنه المهدي المنتظر الموعود بظهوره آخر الزمان، ويعتقدون أن من أنكر مهديته فقد كفر فما قوله في ذلك، وقد سبب ذلك أنه وضع كتابا في أحاديث المهدي والمهدوية سماه «القول المختصر في علامات المهدي المنتظر».
وقد كان من جراء ذلك أن ألقى درسا كبيرا في هذا الموضوع في مكة حين حج، وقد ذكر بعض المستشرقين في كتاب ألفه عن فرق الإسلام أن بعض رجال الهنود ظهروا في الهند، وادعوا المهدية بينهم رجل يدعى الشيخ محمد الجونبوري دعا هذه الدعوة، ونفى من بلاد الهند، وتوفي سنة 1505، إلى كثير من أمثال ذلك.
وعلى الجملة فقد كانت هذه الحركة المهدوية حركة دائمة لا تنقطع في إثارة الفتن والقلاقل، ولم كان قد من الله على المسلمين بفنائها لتغير وجه تاريخهم، ونرجو أن التنبه الحديث والوعي القومي الكبير يقضي على هذه الأساطير.
وربما كانت ثورة المعري الفكرية سببها ما شاع في أوساطه من الدعوة إلى الإمام والمهدي المنتظر، وتلقي التعاليم عنه، فثار أبو العلاء على ذلك وقال: إنه لا يؤمن بإمام ولا مهدي وإنما يؤمن بالعقل؛ ولذلك أكثر في تقدير العقل وإحلاله أعلى مكان، وقال في ذلك أبياتا كثيرة من أوضح ذلك قوله:
يرتجي الناس أن يقوم إمام
ناطق في الكتيبة الخرساء
كذب الظن لا إمام سوى العقل
مشيرا في صبحه والمساء
فالإمام الذي يشير إليه هو ما كان يشاع في محيطه من مهدي منتظر، فقال: كذب الناس إنما الإمام هو العقل وقوله:
ما كان في هذه الدنيا بنو زمن
إلا وعندي من أخبارهم طرف
يخبر العقل أن القوم ما كرموا
ولا أفادوا لا طابوا ولا عرفوا
عاشوا طويلا وماجوا في ضلالتهم
ولا يفوزون إن جوزوا بما اقترفوا
وقوله:
خذوا في سبيل العقل تهدوا بهديه
ولا يرجون غير المهيمين راج
ولا تطفئوا نور المليك فإنه
ممتع كل من حجي بسداد
وقوله:
ساس الأنام شياطين مسلطة
في كل مصر من الوالين شيطان
من ليس يحفل خمص الناس كلهم
إن بات يشرب خمرا وهو مبطان
وقال:
رويدك قد غررت وأنت حر
بصاحب حيلة يغط النساء
يحرم فيكم الصهباء صبحا
ويشربها على عند مساء ... إلخ.
فهو يصور قيام الدعاة إلى إمام مستتر، وظلم الناس وفسادهم، ويدعو إلى استعمال العقل كما أمر الله. •••
وأخيرا أطلقت في مصر كلمة المهدي على من أسلم، وكان هو أو أبوه نصرانيا ويسمونه في سوريا المهتدي بدل المهدي، وذلك كالشيخ المشهور الشيخ محمد الحنفي المهدي، وقد كان من قوم أقباط فأسلم وتعلم في الأزهر وما زال يتفقه حتى ولي الجامع الأزهر، وكان يتداخل في الأمور، واتصل بالفرنسيين عند دخولهم، ولما رتبوا الديوان الذي يجري الأحكام بين المسلمين جعلوه في ديوانهم، وكان هو المشار إليه، وكان الناس يقصدونه في الحوائج ويمشون حوله وأمامه وتقبل شفاعاته، ويأتي إليه الفلاحون بالهدايا من أغنام وسمن ونحو ذلك وأثرى ثراء عظيما، واستمر في مشيخة الأزهر والتدريس فيه، واختاره محمد علي باشا ليسافر مع ابنه طوسون إلى الحجاز لمحاربة الوهابيين، لما رجع انتقض عليه الأزهر، فعزل إلى آخر ما كان.
وممن لقب بهذا اللقب شيخنا الأستاذ محمد المهدي، وكان أستاذا لنا في مدرسة القضاء وأحد تلاميذ الشيخ محمد عبده المقربين إليه، وقد كان من أصل نصراني؛ ولذلك كان يسمى الشيخ محمد المهدي زيكو.
هذه الثورات التي ذكرناها هي النتائج الماهية لفكرة التشيع وفكرة المهدية.
وهناك نتائج بعيدة المدى، فهناك أفكار شيعة ومهدوية تسربت إلى الفنون والعلوم، حتى يصعب على الباحث المدقق استخراجها، نجدها في التفسير وخاصة التفسيرات الرمزية لبعض الآيات القرآنية، وفي الأحاديث التي وضعت بإحكام كبعض أحاديث رواها الحاكم وغيره في أخبار المهدي، وموعد ظهوره وكونه من أشراط الساعة وغير ذلك، وهناك الآراء المنسوبة على التصوف وتطبيقهم فكرة المهدي على فكرة الأقطاب، وكأفكار الحلاج في الحلول تشبيها لما قاله المهديون في الأئمة.
وهناك تعاليم القرامطة والفاطمية في أشعار المتنبي وابن هانئ وغيرهما. وكلما جد الباحثون أمكنهم بعد التدقيق أن يربطوا بين أشعار للشعراء، ومعان للتشيع قريبة الشبه. وإن الفنون في بعض الأحيان تنزع في بعض تصميماتها إلى فن فارسي شيعي كالمحاريب المقرنصة وكطابع الخشب المحفور، ورسم النباتات والحيوانات التي تتعارك، أما التاريخ فقد عبث به كل العبث فترى نزعة مهدوية شيعية تلون الأحداث تلوينا زاهيا بديعا، ومن سني يلونها تلوينا أسود قائما، كالذي رأينا في نسب الفاطميين إلى فاطمة، منهم من يؤمن بصحته كل الإيمان، ومنهم من ينكره كل الإنكار، وكل يوم يستخرج الباحثون تسرب القضايا الشيعية إلى العلوم والفنون المختلفة، وحتى النحو نرى فيه هذه النزعة أيضا كنسبة وضعه إلى أبي الأسود الدؤلي عن علي بن أبي طالب، ومثل تمثيلهم بقولهم: قضية ولا أبا حسن لها إلخ ...
وعلى كل حال فلعل للمسلمين عبرة من هذا التاريخ الطويل المخزن، وتطور الأحوال يدلنا على أن الزمان قد تغير، وتغيرت العقليات فأصبح لا يجوز على العقول أمام مختف أو مهدي منتظر، وحل القادة والمصلحون والزعماء محل الأولياء وحل الإقناع بالحجج محل الإرهاصات والتخرصات.
والدعوة إلى الإصلاحات محل التنبؤات والتكهنات، والاعتماد على اليازرجات والتنجيمات، وكلما كبر العقل وزاد الوعي قلت الأوهام .
إن عقلية الجيل الحاضر التي تتحرى الأخبار وكشف الأستار، والإصغاء إلى الرأي وما يؤيده وما يعارضه لا يمكن أن تؤمن بإمام معصوم يعيش في الخفاء، ويوحي من وراء ستار بالأوامر والنواهي؛ ولذلك كفر أبو العلاء الذي تقدم زمنه بالإمام المعصوم وقال: لا إمام إلا العقل ولا سلطان إلا سلطان العقل، وأشاع في لزومياته عدم تقديس الإمام وأفاض في ذلك كما رأينا إذ رأى ما حوله من البلاد يخضع للحمدانيين التابعين للفاطميين، ويخضع لداعي الدعاة وقول الدعاة بإمام معصوم، فقابل الإلحاح بالإلحاح والدعوة إلى الخفاء بالدعوة إلى المكشوف.
والحق أنني لم أقصد ببحثي هذا إلا الحق لا تأييدا لسنيين ولا حطا من شيعيين فكما نقدت الشيعين في دعوتهم وسلوكهم أيام مكن لهم في الحكم نقدت الخلفاء السنيين في اضطهادهم للعلويين، والتنكيل بهم تنكيلا شديدا، فلا فرق عندي بين مذهب ومذهب، وإنما الحق أردت وبحثت بحثا تاريخيا بقدر ما يمكني من التحقيق، وقد يكون هناك لوم علي في أني اعتمدت في أكثر ما اعتمدت على الكتب السنية التي وصفت عقائد الشيعة.
وعذري في ذلك أن المصادر الأصلية عن الإسماعيلية والقرامطة وتعاليم الفاطميين والموحدين قليلة بالنسبة لي. ومهما كانت عقيدتهم فلا ينكر منصف نقدهم في سلوكهم، خصوصا وأنهم دعاة العدل المنفرون من الظلم.
وأحب أن أفرق بين باحث يبحث المسائل من حيث تاريخها، وتأثيرها السياسي والاجتماعي وبين داع يخطب في تأييد مذهب أو نقده، فالمؤرخ لا يهمه ماذا فعل أهل هذا المذهب وهل هم على حق أو باطل، إنما يهمه البحث التاريخي مهما كانت النتائج سوداء أو بيضاء، وإذا نقد فيجب أن ينقد إما لضعف سنده أو غلطة في الاستنتاج، ولا ينقد على أساس العواطف التي تواضع أهل المذهب عليها. أما الداعي فإنما يدعو لغاية معينة، ويحاول أن يفسر ما كان ضده على حسب ما يهواه لا على حسب الحق؛ لهذا أسف كل الأسف إذا كان في كلامي في هذه الرسالة، أو في فجر الإسلام وضحاه وظهره ما يغضب إخواننا الشيعيين، وأقرر لهم أن هذه النتائج نتائج تاريخية لا نتائج دعاية فليتقبلوها على ما هي عليه وليس أحب إلى نفسي مع هذا من القضاء على العداوة بين السنيين والشيعيين. فما أحوجنا إلى الصداقة خصوصا في هذا الزمن، ومن أجل ذلك رحبت بالانضمام إلى جماعة التقريب؛ لأنه غاية ما أتمنى، ولست أريد إثارة فتن جديدة إلى الفتن القديمة، وإنما أردت أن أبين وجه الحق للعلماء والباحثين.
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
جدول تاريخي لأهم الأحداث التاريخية المتصلة بفكرة المهدوية
سنة بالتاريخ الميلادي
656-661
خلافة علي
680
مقتل الحسين في كربلاء
685-687
ثورة المختار في العراق
762-763
ثورات العلويين في العراق والمدينة
860
ظهور القرامطة
910
عبيد الله المهدي وبدء الدولة الفاطمية
928
القرامطة يدخلون مكة ويحملون الحجر الأسود
944-967
سيف الدولة الحمداني صاحب حلب
996-1021
خلافة الحاكم بأمر الله الفاطمي
172-1092
وزارة نظام الملك
1107-1130
دول الموحدين
1171
قضاء صلاح الدين الأيوبي على الدولة الفاطمية
1258
هولاكو يستولي على بغداد ونهاية الدولة العباسية
1757
استيلاء الوهابين على الأحساء
1803-1804
استيلاء الوهابين على مكة والمدينة
1843
تأسيس السنوسية في طرابلس الغرب
1844
ظهور البابية
1850
الفتك بأتباع الباب
1870
ظهور المهدي في السودان
1888
المهديون يخضعون مقاطعة خط الاستواء
1896
كتشنر يقضي على المهديين في أم درمان
अज्ञात पृष्ठ