Nous )، وكلما بلغ الفكر درجة منها أحس بما يعتورها من نقص، وشعر بالحاجة تدفعه إلى تجاوزها إلى الدرجة التي تليها على السلم الصاعد، ولكن إلى أين؟ إلى الواحد الذي يكفي نفسه بنفسه.
22
ولا يحتاج إلى شيء عداه، وأي إنسان هذا الذي يستطيع أن يصعد إلى هناك؟ لعله أن يكون ذلك الذي رأى كل شيء، أو كما يقال: رأى معظم الأشياء.
23
ليس هذا الطريق الصاعد المتدرج شيئا جديدا عند أفلوطين؛ فالمعروف أن تفكير أفلاطون في جوهره تفكير صاعد أو كما يقول الفلاسفة تفكير ديالكتيكي، وقد حدد أفلاطون معالم هذا الطريق - بوجه خاص - على لسان «ديوتيما» (في محاورة المأدبة أو المشرب (سيمبوزيوم) - إن شئنا الدقة - في حديثها عن الطريق الصاعد إلى «الجميل نفسه»).
غير أن ما يميز أفلوطين عن أفلاطون، بل ويتفوق عليه فيه، هو أن «الصعود» عنده هو في نفس الوقت «رجوع» وعودة إلى الأصل أو هو ما سميناه من قبل «بالاتجاه إلى الباطن»، وهو سر أصالة أفلوطين وتفرده في تاريخ الفكر الغربي كله.
هذا الطريق يصعد إذن من درجته الدنيا - وهي الجسد - إلى درجته العليا - وهي العقل - ولكن الدرجتين ما زالتا في دائرة العالم، هنا نصل إلى القفزة الحقيقية في تفكير أفلوطين، فعندما يصل التفكير إلى الدرجة الأخيرة فإنه يثب إلى ما يخرج عن حدود العالم أو يعول عليه، أعني إلى الواحد المطلق، أو ما نسميه عادة بالعلو أو بالعالي (الترانسندنس). يقول أفلوطين في الرسالة السادسة:
24 «أما إذا وصلت بملكة المعرفة عندك إلى اللامحدود؛ لأنه ليس من هذه الأشياء، فاستند إلى هذه الأشياء نفسها، ومنها شاهد». ومعنى هذا أن الحركة الصاعدة لا تبدأ في الفراغ أو الخيال الغامض غير المحدود، بل ترتكز على أرض هذا العالم، وتنطلق من أشيائه وموجوداته.
لقد طالما أسيء فهم أفلوطين، واتهم بعداوته للجسد واحتقاره للعالم، وتلميذه فرفريوس هو المسئول عن هذه الخرافات التي رواها عنه؛ ألم يقل: إن معلمه كان يخجل من جسده، ويرفض أن يرسمه مصورا، ويضن بسر حياته؛ فلا يبوح لأحد عن وطنه وآبائه؟
25
अज्ञात पृष्ठ