ذهبت فرقة من مقاتلي زحلة ونزلائها فرسانا ومشاة نحو ألف، انقسمت فئتين؛ إحداهما هبطت قب إلياس، وهي نحو النصف والثانية صعدت إلى ظهر البيدر لجهة المغيثة، وذلك في أواخر النصف الأول من شهر أيار سنة 1860م بعد الظهر، فباتت هذه الفئة في جديتة (قرب زحلة) وما تنفس صباح اليوم التالي حتى كانوا متوقلين التلال إلى ظهر البيدر، فوصلوا عند ضحى ذلك اليوم إلى قرب خان مراد الكبير؛ حيث كان هناك مضارب الإفرنج الذين يشتغلون بطريق العربة اليومية (الدايلي جنس) بين بيروت ودمشق.
وما كاد يستقر بهم المقام حتى أرسلوا طليعة من أربعة عشر شابا مدربين إلى ظهر البيدر ليستشرفوا عسكر الدروز ويعلموا مخيمهم، فلما وصلوا إلى قرب النفق (التونل) الحالي شاهدوا الدروز متأهبين للقتال فوق قرية عين دارة في الصرد (الجرد)، فلما رأى أولئك طليعة الزحليين أرسلوا إليهم فارسا مغوارا يستطلع أمرهم، فهاجمته الطليعة وردته على أدراجه. فلما رآه الدروز عائدا انقسموا إلى فرقتين زحفتا من جهتين متباعدتين على العسكر الزحلي الذي رأوه في محلين، كما سبق أحدهما عند خان مراد والثاني فوق قب إلياس. ولما شاهد معسكر الزحليين من مكانيهما زحف الدروز فئتين سار كل منهما لملاقاة الفئة المتجهة إليه، فخرجت شرذمة قب إلياس إلى قرب عين الحجل في أعلى الربوة وكانوا فرسانا ومشاة مدربين؛ فأصلوا نار الحرب ودحروا الدروز إلى جوزات قطلش قرب عين داره، وغنموا علم (بيرق) بني عطا الله شيوخ عين دارة وعادوا به منشورا، ووراءه بعض سكان العرقوب الذين كانوا في زحلة ولبسهم أشبه بلبس الدروز.
أما الفرقة الزحلية الثانية فكانت قد وصلت إليها النجدات تباعا من خان مراد، فعززت موقفها وهاجمت فئة الدروز المتجهة إليها فدحرتهم على أعقابهم إلى ما فوق العزونية (مقابل عين دارة)، وكانوا نحو خمسمائة مقاتل. وتقدم الشيخ علي بن خطار بك العماد (قائد الدروز وزعيمهم) بنحو مائتي نفر لتخليص علم عين دارة الذي غنمه الزحليون، فأمطرهم الزحليون بالرصاص، فأصيب الشيخ علي برصاصة في ركبته جندلته عن جواده فخر صريعا، ولولا مداركة الفرسان له وحملهم إياه لأجهز عليه الزحليون. وكانت الفئة الزحلية الثانية قادمة لنجدة هذه وأمامها علم عين دارة، الذي غنموه يحف به كثير من العراقبة الذين هم أشبه بالدروز في ملابسهم، فتوهمتهم فئة الزحليين هذه أنهم الأعداء فأمطرتهم رصاصا مصوبا، فقتلت سبعة من العرقوبيين، ولما تقاربوا عرفوا خطأهم وانضم بعضهم إلى بعض. وكان خطار بك العماد مع أربعمائة مقاتل في ظهر البيدر ، فلما علم بجرح ابنه قال: «إذا كان قد أصيب بالرصاص من الأمام فلا بأس؛ لأنه يدل بذلك على شجاعته، وأما إذا كان قد أصيب من الوراء فهو جبان.» فطلب خطار بك المبارزة فبارزه أحد أبطال الزحليين بالرصاص والسيف، فلم يظفر أحدهما من رفيقه بطائل، وقصتهما مشهورة يتناقلها الناس إلى يومنا. ثم انتهت هذه المبارزة بالمسالمة وانكف الدروز عن القتال، فجمعوا شملهم وحملوا جريحهم الشيخ علي إلى عين دارة فبريح مسقط رأسه حيث قضى نحبه بعد ثلاثة أيام. وقد قتل من الدروز بهذه الموقعة عدد غفير بينهم نحو ستة وثلاثين من شيوخهم منهم الشيخ حمود عبد الملك وقتل من زحلة عشرة أنفار منهم خليل جرجس إليان وأخوه إلياس، وإلياس صوايا، وإلياس عصفور، وطنوس واكيم، ومخول أسعد أبو حسان بعد قتله اثنين من الدروز، ويوسف شكري من دير القمر بعد قتله أربعة منهم، وذلك قبل أن لفظا أنفاسهما. وكانت هذه الموقعة أهمها عند قلعة ابن عفان قرب خان مراد وذلك يوم السبت في 14 أيار (شرقي). ولما عاد الدروز لم يلحقهم الزحليون خوفا من خدعتهم، إذ كانت قد انضمت إليهم النجدات الكثيرة من المتن والشوف ووادي التيم.
موقعة كفر سلوان
وبعد عشرة أيام من ذلك التاريخ استأنف الزحليون القتال، فسار نحو ألف مقاتل إلى حمى كفر سلوان. وكان يوسف بك كرم الأهدني قد أرسل إليهم كتابا يعدهم فيه أنه مستعد لمعاونتهم وأن يتربصوا مطمئنين، فأرسلوا يستقدمونه من المروج قرب المتين إلى حمى كفر سلوان لمفاوضته، فأرسل يعتذر لموانع أخرته، ويقال إن ذلك كان بطلب الأمراء اللمعيين لاستيائهم من الزحليين كما سبق. ونشبت الحرب بين الزحليين والدروز، فأحرقوا كفر سلوان وبقوا فيها أربعة أيام، وكان الدروز قد اجتمعوا في قرنايل وأوقفوا القتال. فعاد الزحليون إلى بلدتهم وبقي عبد الله أبو خاطر مع نحو ثلاثمائة مقاتل، فهاجمه الدروز من الصبح إلى المساء وكسروه إلى جهة حجر الأطرش أو درجة الأساكفة فوق عين حزير، فأنجده الزحليون وثبتوا في ذلك الموقف إلى أن عاد الدروز عنهم، فرجعوا إلى بلدتهم، وقد قتل منهم في ذلك اليوم الذي هو الأربعاء في 25 أيار (شرقي) نحو عشرة منهم حنا المطران، وعيد سعادة، وجرجس البدوي (شمعون)، وخليل الطباع، وقتل من الدروز نحو خمسة عشر نفرا.
موقعة السهل
ويوم الأربعاء في أول حزيران (شرقي) حدثت موقعة السهل على جسر بر إلياس بين الزحليين والدروز، وكان زعماء الدروز إذ ذاك الشيخ إسماعيل الأطرش من عري (حوران)، وخطار بك العماد الذي قتل الزحليون ولده كما مر والشيخ كنج العماد. أما زعماء زحلة فهم الذين ذكرناهم في ما مضى من المواقع، ولكن الزحليين لم يكونوا لينقادوا إلى زعمائهم في هذه المعارك، لما بينهم من المشاحنات والبغضاء والتحاسد. فسارت فرقة من مقاتلي زحلة دون إرادة الزعماء والقواد إلى جسر بر إلياس يوم الأربعاء في أول حزيران (شرقي)، وبعد أن أبدوا بسالة تذكر اندحروا، وقد قتل نحو ثلاثة وثلاثين من زحلة والمعلقة وجرح نحو عشرين، وكان بين قتلى الزحليين مراد بن عبد الله أبي خاطر جمح به جواده، فأدركه الدروز وقتلوه وخليل الجريجيري، وحبيب مرعي المعلوف، ونصر بن أنطون فرح المعلوف وولده يوسف، وصعب بن داود الحاج نقولا، وعازار أبي زهر وغيرهم. ومما يروى أن عبد الله أبا خاطر وأبا علي المعلوف، وهما من أكبر عقلاء الزحليين كانا قد منعا المقاتلين من شهود هذه الموقعة، فلم يسمعوا كلامهما بل غرروا بأنفسهم وعادوا بفشل؛ فلذلك لم يشأ عبد الله أبو خاطر مشاهدة ولده قتيلا لأنه عصاه. ومما يستحق الذكر أن عبد الله شحاده الخوري صعب أنقذ نعمة بن الحاج نصر الصفدي من تحت سيف الدروز الذي كاد يفتك به، وأنقذ أيضا صليبي أبا خاطر من زحلة وأبا محفوظ من جديته.
وهكذا كانت نيران المواقع قد ازدادت اضطراما والخصام اشتد احتداما، فتجمع الدروز والعربان والمتاولة والأكراد من أطراف البلاد السورية جماهير غفيرة، وتعاونوا على تدمير زحلة والتنكيل بسكانها والاستثآر منهم متعجبين من بسالتهم الشديدة التي قاوموا بها (مع قلتهم واختلافهم وعدم إنجادهم) تلك القوات العظيمة، وثبتوا أمامها في معارك متعددة ثبوت الأبطال المدربين.
موقعة الفرزل وبساتين الكرك
ويوم الخميس في الثاني من حزيران (شرقي) كان بعض الزحليين والبعلبكيين مجتمعين قرب الفرزل لصد هجمات الدروز الذين زحفوا على أبلح، فمنعهم أهلها عن دخولها فوصلوا الفرزل، وهناك أبدى المسيحيون ولا سيما الزحليين ثباتا غريبا وردوا الدروز على أعقابهم وتأثروهم إلى بساتين الكرك بعد أن قتلوا منهم ثلاثة، وأما هم فلم يقتل منهم أحد.
अज्ञात पृष्ठ