كذلك كانت مدننا في العصور الوسطى مكونة من أزقة وحوار تكون حيا، والأحياء مدينة، والمدن تكون دولة، في العصر الحديث وحين حدثت الهجرة الهائلة من القرية إلى المدينة، ومن الزراعة والتجارة إلى الصناعة، فقد إنساننا القادم قدرته على تكوين المجتمعات الأصغر، امتلأت مدننا بآلاف العائلات أو حتى الأفراد الذين لا يربطهم رابط ولا يسألون أمام مجموعة ولا يحسون بالانتماء، ومن السهل أن يبدأ الإنسان يفقد كثيرا من خصائصه الأصلية حين ينفرط عقده ويصبح وحده يفكر، ووحده يصنع لنفسه القيم التي تلائمه. إن من يفقد الانتماء يفقد الأصالة، والفرد حين يفقد خصائص مجتمعه الأصغر يفقد تماما خصائص المجتمع الأكبر.
هكذا نشأ لدينا المجتمع الغريب الفريد من نوعه، المكون من أفراد لا يجمعهم إلا العمل مرة، أو القهوة، أو أحيانا السكن في مكان واحد.
ينجبون أبناء، ينشئون أفرادا هم الآخرون ... والنتيجة أن الكتلة بدلا من أن تكون بناء قويا تتفتت وتتسطح، ويصبح في مكان البناء سطح من الرمال الصغيرة المتراكمة، بل حتى الأشكال الحديثة للمجتمع مثل النقابات والنوادي والجمعيات نشأت في ظل الاستعمار، لوثها عن عمد، وأخمد فيها الروح، وتحولت من مجتمعات جديدة مفروض أن تكون فيها الروح، وتحولت من مجتمعات جديدة مفروض أن تكون أداة الوجود والمقاومة، إلى أشكال من التجمع وظيفتها كبح جماح أفرادها واحتوائهم وتقييد حركتهم وشلها ليس إلا.
الداء واضح وظاهر
الداء واضح وظاهر، لا يمكن أن يوجد شعب وحدته الفرد، إن الشعب ليوجد - أي الشعب - وحدته مجتمع أصغر، وما لم يكن أفراده منظمين بطريقة أو بأخرى في هذه المجتمعات الأصغر، فالنتيجة أن شعبا كهذا ممكن أن يكون تعداده مائة مليون، في حين أن حاصل قوته تقل بكثير جدا عن مجموعه، بينما شعب آخر تعداده عشرة ملايين من الأفراد يكونون مجتمعاتهم المختارة الأصغر لتكون بدورها المجتمع الواحد الأكبر، تكون حاصل قوته أكثر بكثير جدا من الملايين العشرة؛ فالعمل كمجتمع لا تكون نتيجته حاصل جمع مجهودات أفراده، ولكن العمل كجماعة يكاد يكون حاصل ضرب مجهود الواحد في الآخرين، وليس حاصل جمع أو أحيانا قسمة، الداء واضح وظاهر. الدولة من المجتمعات الأخرى نشأت كظاهرة اجتماعية لتنظيم العلاقة بين المجتمعات الأصغر، الدولة عندما نشأت من الخارج، من المستعمر، من أصول لا علاقة لها بالشعب أو وحداته، نشأت لتفتت الشعب في الحقيقة وتكبته.
إن الروتين والقوانين واللوائح التي تحفل بها حياتنا ولا يوجد لها نظير في أي بلاد أخرى سببه أن الدول جاءت أجنبية، كما كان العرض أجنبيا. إنها تعامل الشعب كما لو كان عصابة من اللصوص وقطاع الطرق.
وقد كان هدفها على الدوام أيضا أن تحول بين الشعب وبين تحوله إلى مجتمع، أي تحول دون قيام التنظيم والمجتمعات الأصغر، ليبقى الفرد من أبناء الشعب وحده بمفرده أمام جهاز الدولة الرهيب.
كيف بإمكان مجتمع كهذا أن تنفجر طاقاته ويعمل وينتج وينمو، والدولة تتولى بتر أي صلات تنشأ داخله لتحوله إلى جسد حي كبير منتج، وتضع ما شاء لها من قوانين كلها ليس فيها قانون واحد يحمي المواطنين، إنما كلها قوانين لحماية العقار أو الأرض أو الملكية أو السيادة، كلها قوانين ليس هدفها فقط تفتيت الشعب، إنما أيضا إحالة أفراده إلى عبيد فرادى؟
ولكن تلك قصة أخرى.
अज्ञात पृष्ठ