وذهبت للدعوة الغامضة
كانت الدعوة غامضة تشبه ما تكون بالألغاز: بيان ميداني للجيش الثالث، المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة يدعوكم: الوجود في مطار ألماظة الحربي الساعة 900. أسعدتني الدعوة تماما رغم غموضها، وفي نفس الوقت رحت أطارد مختلف الأعذار التي يمكنني أن أتعلل بها، واستيقظت في السادسة صباحا لأصل إلى طريق المطار في الثامنة والنصف، وأقضي نصف ساعة كاملة أبحث عن مدخل مطار ألماظة، مع أنني كنت قد سافرت منه مرة على ما أذكر قبل افتتاح المطار الجديد-القديم حاليا؛ ذلك أن المباني أحاطت بالمطار حتى ابتلعته تماما ولولا سائق تاكسي شهم طلب مني أن أتبعه ليريني باب المطار ما وصلت، ووصلت.
وجوه باسمة مرحبة من قادة سلاح الطيران، وجه الصديق الكبير الفريق صفي الدين أبو شناف رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة وأشواق وعناق. هذا رجل أحب التحدث معه؛ فقد صاحبنا في زيارتنا للمصانع الحربية، وأحسست إحساسا عميقا أنني يمكن أن ألقي كل ما لدي من أسئلة وهواجس، ولم يتردد أبدا أو يبدو عليه انزعاج ما لأي سؤال، وهي إجابات عميقة معقولة تماما، ومن لحظة تلك المواجهات الصريحة أحسست أننا أكثر من أصدقاء. - إلى أين يا سيادة الفريق؟ - إلى سيناء.
نعم كان قلبي يحدثني أننا ذاهبون إلى سيناء، فصحيح أن الجيش الثالث يحتل جانبا من الضفة الشرقية للقناة ومدينة السويس، ولكن فرحتي أكدت لي أننا بسبيلنا إلى القيام بزيارة لمكان ما في سيناء تدور فيه معركة بالذخيرة الحية، وتصور لأمر ما أن المعركة ستكون في المنطقة «أ» أي في الجانب الشرقي المباشر لسيناء، لم أكن أتصور أبدا أن المعركة ستكون في أحد المضايق الثلاثة الرئيسية لسيناء، مضيق الجدي أضيقها جميعا وأصعبها غزوا؛ إذ إن المعركة كما شرحها لي الفريق أبو شناف ستفترض أن العدو وقد قام بغزو سيناء مرة أخرى وأنه نجح في الاستيلاء على مضيق الجدي، وأن قوات الجيش الثالث الميداني ستقوم بصد الهجوم وطرد العدو من المضيق واحتلاله وطرد العدو الغازي منه.
ومع الزميلين والصديقين صلاح منتصر ومحفوظ عبد الرحمن ركبنا ومعنا محافظ السويس الضاحك المتفائل أبدا اللواء تحسين شنن وكوكبة من كبار الضباط، ركبنا هليكوبتر من الطراز الذي تركبه فرق الصاعقة والمظلات.
ولأن تلك اول مرة في حياتي أركب هليكوبتر فقد بدت التجربة مثيرة تماما ولكن الإثارة لم تستمر سوى بضع دقائق؛ فالركوب في هذا النوع من الطائرات يستلزم لياقة بدنية عالية وقدرة على احتمال الضجيج، بحيث لا بد أن تكون «طبلة» أذنك مصنوعة من الصلب الرقيق، فضجيج محركها عال تماما، وكأنك تطير بوابور جاز كبير مما تصنع الطعمية بواسطته، صحيح أن الطيران لم يستغرق أكثر من ساعة، لكنها تساوي بحساب الطيران المدني العادي ست ساعات من التعب والإرهاق.
عبرت الطائرة قناة السويس ولأول مرة أرى القناة من علو منخفض وأدرك أن عمقها الحقيقي هو في مجرى رئيسي على جانبيه مياه، هذا حقيقي ولكنها مياه ضحلة لا تحتمل إلا ملاحة القوارب فوقها.
ثم بدأ الشاطئ الغربي لصحراء سيناء، شاطئ رملي مثله مثل شواطئ البحر الأحمر وخليج السويس، وفجأة وجدنا أنفسنا فوق هضبة سيناء التي تحتل وسط سيناء من الشمال إلى الجنوب، هنا كشرت الطبيعة عن أنيابها وأصبحت متجهمة قاسية التضاريس، هذه الهضبة المتجهمة لا يمكن القتال فوقها؛ فمسالكها وعرة واختراقها مستحيل، إلا من ثلاثة أو أربعة مضايق متعرجة تضيق تماما عن الحافة الشرقة للهضبة بحيث يصبح عرض نفق - مثل الجدي - لا يسمح إلا بمرور دبابة واحدة، وبحيث يمكن لأي كتيبة واحدة أن تدافع عن كل نفق إلى ما شاء الله، وكنا نقرأ عن هذا كله ونقرأ عن ترك الجيش لمواقعه شرق المضايق والتقهقر بالأمر إلى غرب القناة، وكنا نندهش نحن المدنيين الذين لا يعرفون شيئا عن العسكرية لهذا الذي يحدث وكنا نستنكره، ولكن ما فائدة رأينا المدني الذي يأتي دائما بعد إعطاء الأمر وفوات الأوان؟
وعلى الطبيعة تبدو المسألة واضحة تماما؛ فالممر وإن كان ممرا إلا أنه حصن طبيعي ضد العدو، فمنه ننفذ إلى غرب سيناء، وبه نستطيع أن نحصن مصر والجزء الأكبر من سيناء ضد أي غزو قادم، من الشرق هبطت الهليكوبتر واستقبلنا اللواء عادل القاضي قائد الجيش الثالث، وما إن هدأ - على المقاعد - فوران الدم الحادث من وابور الجاز الذي كنا نركبه، حتى جاء المشير الذي احتفل بشجاعتنا في الحضور، وكانت الخيمة عامرة بالملحقين العسكريين العرب وأعضاء من مجلسي الشعب والشورى وكبار قواد القوات المسلحة، وكانت الريح قد بدأت تصفر، ورغم حرص قيادة الجيش الثالث على توفير الراحة لنا، إلا أنها تقف عاجزة أمام أحوال الجو المتقلبة، فقد بدأت الهضبة التي كنا نطل منها على الممر الواقع تحتنا بكيلو متر بدأت تقذفنا بكميات من الرمال، إلى درجة أكاد أقول فيها أننا عدنا من سيناء رجالا من رمال من قمة شعرنا إلى ما بين أصابع أقدامنا.
وبدأ البيان.
अज्ञात पृष्ठ