ولكن العقبة الكبرى أمام هذا الإسفين كانت واضحة وجلية لكل ذي عينين، مصر؛ إن وجود مصر الدائرة القومية المعادية للغرب الاستعماري، مصر العربية المسلمة غير المنحازة القائدة والمثل والمثال أمام شعوب آسيا وأفريقيا والعالم الثالث. وجود مصر، بهذه الخطورة في الموقع والمكانة وبتلك القوة التي بدأت تتبدى، هذا الوجود خطر رهيب على المشروع الإسرائيلي الأمريكي الاستعماري كله، يهدد بوأده والقضاء عليه.
ولهذا كان الهدف الأول طبيعيا ومنطقيا جدا، إن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تتكشف عن شعوب عربية وإسلامية أطاحت بالاستعمار القديم جانبا وتطمح إلى وجود مستقبل مستقل متين، ولكن ثبت أن تلك البلاد تمتلك في جوف أرضها أعظم كنز عرفه تاريخ البشر؛ كنز الطاقة البترولية التي يعتمد وسوف يعتمد عليها الغرب خلال - على الأقل - الأعوام المائة القادمة لكي يعيش ويصنع ويتدفأ ويأكل ويحيا ويرى؛ كنز تحيا فوقه شعوب عربية إسلامية «متخلفة» لولا مصر التي كانت قد قطعت شوطا طويلا في طريق التقدم.
فهل معقول أن يترك الغرب الإسرائيلي الاستعماري وضعا كهذا قائما؛ إن معناه ببساطة أن يسلم الغرب روحه و«زمارة رقبته» للعرب وللمسلمين ولرأسهم القائد والمدبر والقادر على إقرار «كادر» دفاعي تكنولوجي عامل مدرب يعمل من أجل أن تقبض البلاد العربية على ثروتها وأن تصبح ليس سادس بل ربما ثالث قوة عالمية .
إذن لا بد من ضرب مصر.
ولتكن تلك الضربة موجهة في نفس الوقت إلى العلاقات بين مصر وتلك البلاد العربية المسلمة من ناحية، ومن ناحية أخرى ضربة موجهة إلى العلاقات بين البلاد العربية نفسها وبين بعضها البعض، ثم بين البلاد العربية وبقية الكتلة الإسلامية الكبرى، ثم داخل الكتلة الإسلامية نفسها.
وتاريخ العرب الحديث كله، تاريخ مصر وتاريخ السعودية، والكويت والعراق والمغرب والجزائر وليبيا وموريتانيا، تاريخ باكستان وأفغانستان وحتى الصومال والسودان والحبشة ... هذا التاريخ كله بداية من أواخر الخمسينيات وإلى الآن هو شريط سينمائي واحد متعدد الفصول والأبطال، هذا صحيح، ولكنه تطبيق حرفي لسيناريو هدفه في النهاية ضرب القوة العربية والإسلامية الصاعدة والاستيلاء على مقدراتها وثرواتها وتأخيرها تكنولوجيا وحضاريا إلى أسوأ مدى، ولتكن البداية هي ضرب رأس الرمح الذي يهدد بتجميع هذه القوى وتكاتفها وتآزرها ... مصر.
وامسك معي أية بداية خيط وأي حدث سياسي أو عسكري وأي عراك عربي أو إسلامي أو إسلامي عربي أو إسلامي إسلامي أو عربي عربي، وتتبع هذا الخيط فستجده يوصلك دائما إلى الكابل الرئيسي للخطة، ضرب العمود الماسك بين المشرق والمغرب العربيين الواصل ما بين باكستان وماليزيا الرابط بين الرباط وموريتانيا ونيجيريا وحتى المسلمين في جنوب أفريقيا. ولم يكن السيناريو سيناريو تافها ككثير من سيناريوهات وروايات السينما المصرية أو الهندية التجارية ... كان سيناريو متقنا جدا ومحسوبا جدا ومدروسة كل تفصيلة فيه، دراسة خبراء كبار ودكاترة في علم قهر الشعوب.
ورثت أمريكا وإسرائيل كل الملف العربي الإسلامي الذي كانت قد جمعته وظلت تحتفظ به فرنسا وبريطانيا وهولندا وحتى ألمانيا للمنطقة والاتجاهات الدينية والطائفية والمذهبية وتاريخ كل هذا وذاك، تاريخ العلاقات والحزازات العرقية والقبائلية والأحقاد ونقاط الضعف ومفاتيح التفجير ... درست هذه الملفات كلها وذاكرتها ووعتها ثم بعقلية متقدمة جدا ودائبة جدا لا تيأس ولا تغفو راحت أمريكا الإسرائيلية وإسرائيل الأمريكية تنفذ المخطط لحظة بلحظة ودقيقة بدقيقة وتفصيلة بتفصيلة، مع الاستعداد الفوري لتنفيذ الخطط الجاهزة البديلة إذا حدث متغير غير متوقع. •••
والمضحك المؤلم المخجل أننا جميعا اشتركنا في تمثيل هذا المخطط وإنجاح الرواية، كلنا رغم أنوفنا في أحيان وبغفلتنا في معظم الأحيان وبغبائنا دائما وبانعدام الرؤية وقصور التفكير؛ ذلك أن التفكير والتدبير في مجتمعاتنا يحتكره الحكام، ولأن همهم الشاغل الأوحد هو المحافظة على كراسيهم، فإن الإحاطة بالرواية الرهيبة كلها ودورهم هم حتى فيها لم يكن محل تفكيرهم أبدا، زد على هذا أننا مجتمعات تفكر - إذا فكرت - بعواطفها، ولو حاول أحدنا إعمال تفكيره انهالت عليه الاتهامات أحيانا، الاتهامات المغرضة العميلة كي تشوهه، وأحيانا اتهامات الطيبين ذوي النيات الحسنة الأغبياء تماما غير المدركين ماذا يفعلون أو ماذا يراد بهم وبنا، غير واعين أننا نقوم بالدور كأي «كومبارس» أو ممثل ثانوي، ولا يعرف ولا يحيط بكل الرواية ولا يرى منها إلا ذلك الجزء الصغير الضيق القادر على رؤيته، بل والمعتمد على غفلته ليؤديه وببراعة الجاهل يفعل. حتى «عتاولة» الثوريين ضد أمريكا ونفوذها عهد إليهم هم الآخرون بأدوار ما، أدوار لم يلقنوها، هذا صحيح، ولكنها أدوار ردود الفعل المحسوبة؛ فمثلا حين تريد أمريكا أو إسرائيل أن تجعل العقيد القذافي يخدم هدفها فهي لا تذهب «بعبط» وتطلب منه أن يفعل كذا أو كيت، ولكنها تجعل مصر مثلا أو السعودية بناء على معلومات خاطئة أو مخطأة تفعل هذا الشيء أو ذاك، وتكون هي عارفة تماما أن مصر أو السعودية أو السودان إذا فعلت كذا فإن رد فعل العقيد سيكون «كيت»، وهو بالضبط ما تريده هي لتأخذ من فعلته حجة لتقوم هي في هذه الدولة أو تلك أو حتى على مستوى العالم بعمل هذه الشيء أو ذاك.
والأمثلة كثيرة وبالآلاف، ألم يرد الرئيس السادات بنفسه أنه قبض على عصابة من عملاء ليبيا كانت تنفذ مؤامرة لاغتياله وأنهم ضبطوا في أماكنهم وفي جيوبهم الخطط والأسماء والاتصالات والمخازن التي أخفوا فيها الأسلحة؟ لم يلحظ أبدا أي أحد أن السادات قال بعد هذا إنه علم بأمر تلك الخطط من السلطات المغربية، ومن أين علمت السلطات المغربية بالخطة؟ اتضح باعتراف بيجين نفسه أن المخابرات الإسرائيلية هي التي «عرفت» بها أولا وحارت كيف تخبر السادات بها والعلاقات كانت في قمة تأزمها بين مصر وإسرائيل، فوجد بيجين ومخابراته أن خير طريقة لإخبار السادات هي الإفضاء للمخابرات المغربية بالمعلومات، وأعتقد أن بيجين في هذه النقطة كان يكذب؛ لأن سبب لجوئه للمغرب هو لكي تأتي الأخبار للسادات من مصدر لا يشك فيه؛ إذ لو عرف أن المصدر إسرائيل لشك في الحال، وهكذا وصلت المعلومات إلى السلطات المصرية التي قامت بالقبض على المتآمرين في حالة تلبس أو شروع تلبس، ويومها اشتعل السادات غضبا وقال عن القذافي: والله لن يفلت من يدي.
अज्ञात पृष्ठ