ولكن قلب مصر الحقيقي يا سيادة الرئيس لا يزال سليما وضميرها لم يدخله الغش بعد، والحاجة أم هاشم ليست سوى قطعة مجهولة من ذلك الضمير الذي أعلم أنه موجود وأنه حي وأنه قادر. نعم إن الخير لا يزال في مصر أكثر بكثير من الشر، كل ما في الأمر أن الخير ضعيف جدا؛ لأنه خير الذين لا صوت لهم ولا مال، والشر عال مشهور؛ لأنه شر المزودين بالمال والمشترين للذمم. تصور يا سيادة الرئيس أن المرأة القادرة الحديدية لا تزال تحيا في مصر، وتذهب إلى أي سوبر ماركت وتشتري وينحني لها كل الموظفين، مع أنها مطلوب القبض عليها ومقدمة للمحاكمة وهاربة؟ إنها تستطيع وقادرة أن تشتري حريتها حتى لو حكم عليها بالسجن المؤبد لأنها تملك المليارات.
وفي خطبك يا سيادة الرئيس توجه نقدك اللاذع لصحف المعارضة، والمعارضة السياسية لبعض خطواتك، ولكني أرجوك يا سيادة الرئيس، ولو من أجل أولادك الذين سيحيون في هذه الذات المصرية، أن تري العين الحمراء مرة لهذا السرطان المستشري في الآلة الحاكمة المصرية، أن تتحرك أجهزة التفتيش والقبض والتقديم للمحاكمة، أن يعاقب كل مختلس أو تعاقب إدارة بنك أقرضت بغير مستندات، أن يحدث شيء، أي شيء، يوقف هذا الزحف الشيطاني الكاسح.
وإلى أن يحدث هذا، فيا سيدتي الحاجة أم هاشم حسنا ما فعلت بفسخ خطبة ابنتك، وثقي أنها لن تمس، بشعرة، ولو حدث، فسأحمل أنا بنفسي القضية إلى السيد وزير النقل وربما إلى النائب العام.
الخروج إلى الشمال
بلا سبب واضح أحسست أن روحي قد بلغت الحلقوم، ولا يتسرع القارئ ويتصور أنها حالة سببها الأحوال العامة التي تجتاح مصر هذه الأيام، فأنا أعرف أنها أحوال عارضة تماما، وأن سببها أيضا مثل السبب عندي يرجع إلى حالة من الزهقان الغريب، التي قد تدفع لأي تصرف، من إطلاق الرصاص، إلى إطلاق السباب ومن الحكومة والمعارضة على حد سواء.
وليست هذه الحالة وليدة اليوم أو هذا الأسبوع، بل إنها كانت تنتابني وأنا في طريقي للاجتماع الذي عقده الرئيس حسني مبارك مع الكتاب والإعلاميين، والحق أن الرئيس حسني مبارك فاجأني، كما لا بد فاجأ الحاضرين جميعا، فيومها صباحا أو فجرا، كان خبر إطلاق الرصاص على صديقنا العزيز مكرم محمد أحمد قد استفزنا جميعا، نحن الذين لا نملك سلاحا للدفاع أو الهجوم إلا أقلام حبر متواضعة. وكنت أتصور أن الاجتماع سيكون محوره هو هذا الحادث الفريد في تاريخ مصر، وأن الرئيس سيكون في روح معنوية مكتئبة لا بد. ولكن الرئيس بدأ كلامه معنا وهو في روح معنوية عالية لدرجة أني وجدت نفسي أول الأمر في حالة استغراب كامل، وقلت: ربما الرئيس يريد أن يزيح عن عيوننا ووعينا هذه السحابة الداكنة. ولكنه لم يكن يفعل هذا، كان فعلا يتحدث حديث مصري ابن بلد، يرى المشاكل في حجمها الطبيعي أو حتى حجمها المصغر حتى يحس أنه أكبر منها، ويرى المستقبل أكيدا وقادما، ومزدهرا ولا ريب فيه ولا شك. والحق أن حديثه هذا عدانا فما لبثنا أن أجلنا انفعالنا بما وقع وانخرطنا في نقاش حول مشاكل مصر الكبرى معه. ولقد تخيلت وأنا أستمع وأناقش أن هذا الرجل هو بالضبط ما تحتاجه مصر ليقودها في هذه الأيام، حمدا لله أنه ليس في عصبية هذا أو عدوانية ذاك، وأن باله طويل طويل، وأعرف أن هناك مثلا شعبيا يقول: طول العمر ينيل الأماني. ويبدو أن الأمر كذلك أيضا في مسألة طول البال، فربما طول البال هو الذي سيضع الجسر الذي تعبر عليه مصر من أزماتها، ولكني - وأنا لا أستطيع أن أمنع نفسي من هذه الصراحة - أحس أن طول بال الرئيس أطول كثيرا مما يجب أحيانا، على الأقل أطول من استطاعتنا نحن كشعب وككتاب على طول البال، وربما هذا هو الخلاف الوحيد بين بعضنا وبين الرئيس مبارك، خلاف «كمي» في طول البال، وأبدا ليس خلافا «كيفيا» على حل المشاكل.
أقول: وجدت نفسي في الأسبوع الماضي في تلك الحالة التي ذكرتها لكم عن «الزهق»، ب «الصدفة» المحضة كنت أقرأ مقالة صديقي الكبير الأستاذ خالد محمد خالد في الوفد، فوجدته يتحدث عن نفس الحالة من الزهق، وأنها ألجأته إلى التاريخ، وبالتحديد إلى قصيدة شوقي في رثاء أدهم باشا التركي، كانت تغريبة إذن، تغريبة تاريخية ليتخلص من حالة الزهق، ولكن لأن التاريخ يزيدني زهقا على زهق، فقد آثرت أن تكون تغريبتي جغرافية.
وهكذا ركبت العربة ومعي العائلة وانطلقت شمالا، ولم أذهب إلى الإسكندرية هذه المرة، اندفعت غربا إلى ما بعد الإسكندرية، كانت جغرافية مصر الشمالية تنتهي عندي حول العجمي والمكس والدخيلة، هذه المرة قلت لنفسي: سأظل أسير في هذا الطريق المزدوج الجميل إلى أبعد مدى ممكن أن أصله. وفعلا هو طريق مزدوج وجميل؛ فإلى سنين قليلة، ربما إلى العام الماضي فقط، كان طريقا من أسوأ الطرق في مصر ضيقا مكدسا بعربات النقل هائلة الضخامة والكارو والمارة والصيادين وفناطيس الغاز وكل ما يخطر على قلب بشر ... هذه المرة وجدت اتجاهين حديثين جدا، ربما انتهي منهما هذا العام فقط، وكنت أتصور أن مجلس إسكندرية المحلي هو الذي فعل هذا، لكن عرفت من الأستاذ عبد الله محمود رئيس مشروعات الشاطئ الشمالي أن وزارة الإسكان والمجتمعات الجديدة هي التي قامت بإنشاء هذا الطريق. والحق أني كنت أسمع كثيرا عن وزارة الإسكان والمجتمعات الجديدة، ولكن ربما لأني كنت أحيا في القاهرة المخنوقة المزدحمة كنت أحس أنها وزارة تكاد تكون وهمية أو نظرية على الأقل، ولكن حبي للسفر جعلني أبدأ أرى آثار تلك الوزارة وذلك الوزير النشيط المهندس حسب الله الكفراوي من مدينة 6 أكتوبر إلى العاشر من رمضان إلى السلام إلى الصالحية إلى المشروعات الجديدة، في تلك التي وجدت محافظا عسكري القدرة على التخيل والتنفيذ اللواء يوسف عفيفي بمشروعاته السياحية في منطقة البحر الأحمر، ناهيك عن المشروعات في محافظتي شمال وجنوب سيناء، هذه كلها جعلتني أعتقد أننا انكفأنا على مدننا القديمة ومشاكلها بطريقة جعلتنا لا نكاد نرى العمران الذي يحدث في أماكن من مصر لم نلتفت لها قبلا وكأننا لا نعتبرها جزءا من مصر أو أنها ملكنا.
هذا الساحل الشمالي مثلا صحيح أن الأجانب والدبلوماسيين هم الذين اكتشفوا فكرة مصيف العجمي، حيث يستطيع الإنسان أن يتحرر تماما من ملابس المدن ونفاق المدن ويترك نفسه للشمس والبحر والهواء الجميل والطبيعة وسواحل هي أجمل - أجمل شواطئ العالم - وقد زرتها كلها من ميامي بيتش إلى بلاجات تايلاند، وكابري ونيس ... هذا النوع من الرمال، هذا الانحدار التدريجي نحو الماء، هذا اللون الأزرق الفستقي لمياه البحر، هذا كله لا يمكن أن نجده إلا في شواطئ البحر الأبيض الجنوبية وأجملها جميعا الشواطئ المصرية من مرسى مطروح إلى أن تبدأ ضواحي الإسكندرية ... ومن المضحك هنا أن نذكر أن شاطئا رائعا كشاطئ مرسى مطروح لم نكتشفه إلا عن طريق السينما وعن طريق فيلم ليلى مراد الشهير شاطئ الغرام، ولولا هذا الفيلم، ولولا السينما، والآن لولا التليفزيون لما زادت معلوماتنا عن بلادنا عما كنا قد قرأناه عنها في كتب الجغرافيا.
المهم بدأت الرحلة زهقان كما قلت ويا للأثر الساحر للطبيعة في تغيير معنويات الإنسان ومزاجه، كان أحد أسباب زهقي لا بد هو ضيق الفتحة التي نرى منها حاضر مصر ومستقبلها وواقعها ... ونحن نرى هذا كله من خلال وسائل إعلامنا، ولأن تلك الوسائل قد ضاقت نظرتها هي الأخرى حتى ليكاد الإنسان يحفظ ماذا ستحتويه كل صفحة من صفحات الجريدة، وماذا سيكون عليه البرنامج في كل ليلة وفي كل قناة من قنوات التليفزيون، حتى برنامج «خمسة سياحة» رغم جمال فكرته وتنفيذه وتقديمه، إلا أن هذا البرنامج لا يجعلني «أعيش» المنطقة التي يتحدث عنها، وأشمها وأفتح صدري لهوائها وتاريخها وأستنشقه، لماذا يكون «خمسة» أي خمس دقائق كل يوم لا تكفي حتى ليتعرف الإنسان على كنه المكان؟ لماذا لا يكون برنامجا أسبوعيا معدا إعدادا جميلا وحافلا بالمعلومات وبالإخراج المتقن للطبيعة وللناس وللآثار إن وجدت. هذا الساحل الشمالي، بودي لو كان معي كاميرا فيديو لأصنع للناس شريطا كاملا لل «خروج»، الخروج من الوادي الضيق والمدن المكدسة والأحياء الشعبية المعلبة بسردية البشر، هؤلاء الناس جميعا لو رأوا بلادهم على حقيقتها أو على اتساعها، لو رأوا كم تمتد شواطئها كم ونوع الحياة الكامنة في صحرائها، لو رأوا مشروعات الوزارة في واحة سيوه مثلا، هل عندنا فيلم تسجيلي كامل لكل واحة من واحاتنا؟ فيلم «فتي» يقوم به مخرج كبير كصلاح أبو سيف أو علي بدرخان أو علي عبد الخالق أو العظيم يوسف شاهين ...؟
अज्ञात पृष्ठ