أما أنت يا صديقي محمد حامد الحمامي فإني إن شاء الله متبن قضيتك إلى أن يفصلوني معك، بل وليفعلوا بي ما هو أكثر، أو إلى أن يصدروا حكما ببراءتك وتلحق امتحانك، فكلنا معك، وإذا كان لنا رأي كما لا بد لأي كائن حي أن يكون له رأي، فنحن والله حائرون؛ فإذا احتججنا بفوضى سجنونا بتهمة إثارة الشعب والشغب، وإذا حاولنا إبداء الرأي بطريقة شرعية متمدينة فصلونا بتهمة الإثارة والتحريض، ومعنى هذا أن الحكومة السرية الغامضة تريد منا أن نحيا كقطيع الخرفان، لا ننطق ببنت شفة، نمشي وراء الكباش الخفية هادئين مساقين، ويكفينا أن لنا الحرية في السير خلفها كما تسير القطعان، قطعان لا تفعل إلا أن تشرب وتأكل - هذا إذا وجد الطعا م أو الشراب - ونقبل أيدينا ظهرا لبطن على نعمة الوجود مجرد الوجود، كائنات بلا رأي وبلا أي حق في إبداء الرأي.
إنني والله لا أصدق أننا نعيش فعلا في القرن العشرين، وإننا استعدنا لإنساننا حقه وحريته، أهو كابوس مزعج ما نحن فيه؟
أم أننا على شفا بداية جديدة لعهد جديد؟
الضحك حتى البكاء
حين اتصل بي صديقي الفنان عادل إمام يدعوني للانضمام لجهود اللجنة الفنية التي أنشئت لدعم الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة، والتي اقترح عادل إمام إقامة حفل كبير يخصص دخله لدعم الانتفاضة.
حين حدث الاتصال التليفوني ووضعت السماعة وجدت نفسي أضحك كما لم أضحك في حياتي، فصوت عادل إمام وملامحه ومجرد تصوري له يضحكني، فما بالك إذا تحدث؟ إنه ينثر السخرية والابتسامات بتلقائية غريبة وضعها الله فيه كما وضع في الياسمين رائحته وفي الكروان حلاوة صوته، ولكن هذه المرة لم أكن أضحك من عادل إمام، كنت أضحك في الحقيقة فيما آلت إليه أحوال ما كان يسمى بالرأي العام المصري عندنا، لقد كنا خلال القرنين الأخيرين منشغلين بكل قضايا العالم من معارك روسيا مع اليابان تلك التي ألف فيها شاعرنا الكبير حافظ إبراهيم قصيدة مطولة، إلى أقل شرخ يحدث في مئذنة أحد مساجد استامبول، وطوال خمسين عاما نحن مشغولون بالقضية العربية إلى درجة الالتحام المسلح والقتال، فماذا بالضبط حدث لنا؟ إنني متأكد وأعرف أن كل مصري ومصرية ينتفض جسده غضبا وغيظا مما تفعله حكومة الاحتلال الإسرائيلي بسكان قطاع غزة والضفة، وأعلم أن الجميع - حتى الأطفال - يستنزلون اللعنات على جنود الاحتلال كلما رأوا منظرا كهذا في النشرة، مع أنها نشرة مخففة جدا بالقياس إلى نشرات الأخبار في التليفزيون البريطاني (الذي يملك اليهود نفوذا كبيرا فيه) والأمريكي الذي يملكونه كله.
وأتطلع أنا إلى رد الفعل العام في مصر فلا أكاد أجد، حتى رد الفعل الوحيد الصادر عن نقابة المحامين لم أقتنع به تمام الاقتناع؛ فهو مثل بعض الحكومات العربية لا يجد أمامه إلا الحكومة المصرية يلومها ويعنفها ويوبخها ويتهمها بالخيانة ويطالبها بإلغاء وتجميد كامب ديفيد، وكأن هذا الإلغاء هو الذي سيوقف تكسير وضرب وقتل الفلسطينيين في الضفة وغزة، ولقد كانت كامب ديفيد كارثة، على الأقل في شقها الفلسطيني بكل معنى الكلمة، ولكنها عندي غير مهمة بالمرة، إنما المهم أننا ربطنا فيها وفي العجلة الإسرائيلية علنا، أما ما حدث في السر فقد كان أدهى؛ إذ قد ربطنا وكأنما للأبد بالعجلة الأمريكية الإسرائيلية أيضا، وأصبحت اليد المصرية مشلولة تماما، أقصد اليد المصرية الرسمية، بل أصبحت محل سخط هذه الدوائر الفاجرة الأغراض، وما محاولة إفشال رحلة الرئيس المصري إلى أمريكا بهذا الفتور الأمريكي وتوريطه في مبادرة لم يقبلوها حتى هم أنفسهم، إلا مثل واحد على أنه لا الأمريكان ولا الإسرائيليون يريدون لمصر أو لرئيسها أن يقوى، أو أن يعود يتزعم العرب كما هو الشيء الطبيعي تماما، وإنما يريدون لمصر ولرئيسها أن تكون دائما مكسورة الإرادة والجناح؛ مجرد دولة عربية أخرى مثلها مثل أصغر دولة عربية تعدادها ربع مليون، كيف ستحل هذه التبعية القومية القمحية السلاحية النقدية، تلك هي القضية الكبرى والأولى إذا أردنا أن نعود لأن نكون أو تنمحي صفحتنا من الوجود.
ولكني هنا لا أتحدث عن مصر الرسمية.
إنما أتحدث عن مصر الشعبية، مصر الرأي العام القوي، المسمع دائما للعالم صوته.
أين هو هذا الرأي العام؟
अज्ञात पृष्ठ