المدارس الفلسفية الإسلامية
(1) مدرسة الكندي
لم يظهر في الإسلام مدارس فلسفية منظمة تفتح أبوابها للطلبة كما كان الحال في أكاديمية أفلاطون أو «لوقيون» أرسطو، أو حديقة إبيقور؛ وإنما ظهرت على معنى الصحبة والأتباع وتقليد المذهب. وهذا على عكس مدارس الفقه واللغة والتفسير والحديث، التي أنشئت منذ القرن الخامس الهجري، وانتشرت في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ورتب لها الأساتذة والكتب والجرايات، وأقيمت لها أبنية خاصة؛ وعلة ذلك أن الفلسفة كان ينظر لها بعين الارتياب، واتهم المشتغلون بها بالكفر والإلحاد، فلم يكن يتسنى للدولة أن ترعاها.
ثم إن الفلاسفة الإسلاميين لم يكونوا فلاسفة فقط، بل اشتغل معظمهم بالطب أو الرياضيات، ثم اتصلوا من ذلك بالفلسفة، ولم تنقطع صلتهم بالطب أو بالرياضيات، فكانوا حكماء وأطباء في آن واحد. وكانت هناك مدارس طبية ملحقة بالبيمارستانات يتخرج فيها الأطباء. ولكن حديثنا أساسا عن المدارس الفلسفية، فأين كانت تلك المدارس؟ الأرجح أن الفلاسفة كانوا يعقدون تلك المدارس، والأصح أن يقال «المجالس» في دورهم، ولم يكن عدد أتباعهم كبيرا، بل بضعة نفر.
ومن هذا القبيل مدرسة الكندي، وهو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث الكندي، فيلسوف العرب، وأحد أبناء ملوكها؛ لأن كندة كانوا ملوكا على اليمن. تولى إسحاق بن الصباح إمارة الكوفة في خلافة المهدي والهادي والرشيد، وولد ابنه يعقوب بالكوفة سنة 185 هجرية، وبها تعلم القراءة والكتابة والنحو والعربية والفقه وعلم أصول الدين، ولكنه انصرف عن علم الكلام إلى علم الطب والفلك والرياضة والفلسفة، وشارك النقلة في الترجمة، وكان يصلح الكتب المترجمة بأسلوبه العربي الفصيح، وفسر كثيرا من كتب أرسطو، وألف كتبا مبتكرة جعلت مؤرخي الفلسفة الإسلامية يصفونه بأنه فيلسوف العرب. وقد نبغ في خلافة المأمون والمعتصم، وكان مؤدب أحمد بن المعتصم بالله، وعاش زمان المتوكل، وتوفي سنة 255 هجرية.
إن الكندي فيلسوف على الحقيقة ، جدير بهذا الاسم، ويعد استمرارا للتعليم الإسكندراني الذي ورثه العرب بعد نقله إلى اللغة العربية، بعد أن دفع هذا التراث دفعة قوية، وطعمه بالديانة الإسلامية موفقا بين الدين والفلسفة.
وقد عاصر الكندي المترجمين، حتى قيل إنه أحد أربعة من حذاقهم، والثلاثة الآخرون هم: حنين بن إسحاق، وثابت بن قرة، وعمر بن الفرخان الطبري. والحق أنه لم يكن مترجما بمقدار ما كان مصلحا للتراجم الغثة، وكان إلى ذلك مقتبسا للفكر اليوناني يلخصه ويأخذ زبدته، وكان يصطنع مترجمين من السريان ينقلون إليه ما يريد من كتب، ومن المعروف أن الذي كان يترجم لحسابه يسمى «أسطاث». وكان الكندي يعرف اللغة السريانية معرفة جيدة، وألف بهذه اللغة رسالة صغيرة. أما معرفته للغة اليونانية فمشكوك فيها.
وله مؤلفات غزيرة بلغت زهاء مائتين وستين كتابا ورسالة في شتى فنون المعرفة؛ من منطق ورياضيات وفلك وموسيقى وعلوم طبيعية وميتافيزيقا وأخلاق وسياسة وكيمياء وغير ذلك؛ مما يجعلنا نقول إنه كان فيلسوف الحضارة العربية في القرن الثالث الهجري. ومعظم كتبه كان يوجهها إما للمعتصم، أو لأحمد بن المعتصم، أو لبعض الإخوان والتلاميذ، الذين كانوا يستفسرون عن مسائل، تعد الرسالة ردا على تلك الأسئلة. ومعظم الرسائل الباقية بين أيدينا تجري على هذا النحو من السؤال والجواب، مما يؤكد أن الكندي لم يكن مترجما ناقلا، بل كان مفكرا أصيلا حصل المعارف السابقة وتمثلها، ثم أبدى رأيه بعد ترجيح وجهة نظر على أخرى، وإضافة آراء جديدة. ونضرب مثالا لذلك برسالة يجيب فيها عن ثلاث مسائل مختلفة، الأولى: لم صار البخار يجمد في الجو؟ والثانية: عن الصحو والغيم. والثالثة: إذا كانت الأعداد بلا نهاية، فهل يمكن أن تكون المعدودات بلا نهاية. وليس من الضروري أن يكون السائل قد تراسل فعلا مع الكندي؛ إذ لعله قد باحثه، وكانت نتيجة المباحثة تقييد هذه الرسالة. وكذلك كان يفعل مع تلميذه أحمد بن المعتصم بالله، ولذلك جاءت رسائله ذات هيئة تعليمية مرتبة.
ويبدو أن الكندي كان يستقبل تلاميذه في داره، حيث كان يقتني مكتبة واسعة من أكبر المكتبات، حتى سميت بالمكتبة «الكندية». ولهذه المكتبة قصة جديرة بالرواية؛ إذ كان محمد وأحمد ابنا موسى بن شاكر في أيام الخليفة المتوكل يكيدان كل من ذكر بالتقدم في معرفة، فدبرا على الكندي حتى ضربه المتوكل، ووجها إلى داره فأخذا كتبه بأسرها، وأفرداها في خزانة سميت «الكندية»، واسترجع الكندي مكتبته فيما بعد حين رضي عنه المتوكل.
ومن تلاميذه أبو العباس أحمد بن محمد الخراساني، كان ممن ينتمي إلى الكندي، وعليه قرأ، ومنه أخذ. ومنهم ابن كرنيب أبو أحمد الحسين بن أبي إسحاق بن إبراهيم الكاتب، وكان يعد من جملة المتكلمين. ومنهم علي بن الجهم، وكان من الشعراء المختصين بالمتوكل. وعدوا منهم كذلك جماعة باسم نفطويه، وحسنويه، وآخرون على هذا الوزن.
अज्ञात पृष्ठ