على الرغم من امتناعه بوجه عام عن الحديث عن حياته الخاصة، إلا أنه روى لنا بعض التفصيلات خلال أحاديثه معنا؛ ففي الثامنة والعشرين من عمره أصابته حمى الفلسفة، فاتجه إلى أبرز معلميها بالإسكندرية، إلا أنه كان يعود بعد الاستماع إلى محاضراتهم حزينا مهيض الجناح. فلما رأى أحد أصدقائه ما هو عليه من خيبة أمل، وكان يعرف مزاجه، صحبه إلى أمونيوس الذي لم يكن قد حضر عليه بعد. وبعد أن سمع أفلوطين محاضراته، قال لصاحبه متعجبا: هذا هو الرجل الذي كنت أنشده.
ومنذ ذلك اليوم استمر يتبع أمونيوس حتى بلغ من تقدمه في الفلسفة أنه رغب في الاطلاع على مناهج الفرس والمذهب السائد بين حكماء الهند. وصادف أن الإمبراطور جورديان كان يعد حملة يجردها على الفرس، فالتحق أفلوطين بالجيش وذهب مع الحملة، وكان عند ذلك في التاسعة والثلاثين من العمر؛ إذ كان قد أمضى أحد عشر عاما في صحبة أمونيوس. وانهزم الجيش في العراق، وقتل الإمبراطور، وهرب أفلوطين إلى أنطاكية، ثم ذهب إلى روما واستقر بها وهو في الأربعين من العمر.
كانت روما عاصمة الإمبراطورية، وقلب العالم المتحضر في ذلك الزمان، فاجتذبت إليها عددا من العلماء والفلاسفة والأدباء. في هذه العاصمة أنشأ أفلوطين مدرسته، التي ظفرت بتأييد الإمبراطور، فكفاه بذلك مئونة الإنفاق على المدرسة. ولم تقتصر المدرسة على الإمبراطور جاليانوس الذي حكم من 260 إلى 268، وكان أديبا فيلسوفا، بل شاركته زوجته الحضور على أفلوطين. ويبدو أن المدرسة كانت تستقبل النساء كما تستقبل الرجال، وإحداهن سيدة تدعى «جمانا» كان أفلوطين يسكن في دارها. ويبدو كذلك أن المدرسة كانت تفتح أبوابها لكل طالب؛ فقد ذكر فرفريوس في السيرة التي كتبها عن أفلوطين، أنه كان يمتنع من الجلوس أمام المصورين أو النحاتين ليرسموا صورته أو ينحتوا له تمثالا ، حتى إن تلميذه أميليوس حين طلب منه أن يسمح بالوقوف أمام مصور أجابه: «ألا يكفي أن نحمل هذه الصورة التي قيدتنا الطبيعة فيها؟ أتحسب حقا أنني يجب أن أرضى بأن أترك لخلفي صورة للصورة؟» فلما أبى أفلوطين، عهد أميليوس إلى صديق له اسمه «كاتريوس» يجيد الرسم، فأدخله إلى المدرسة يستمع إلى دروس أفلوطين، وكانت الدروس مباحة لكل طالب.
كان هدف أفلوطين من المدرسة أن تكون نبراسا يهدي النفوس إلى التقوى والصلاح والخير، فكان يصرف تلاميذه عن الاشتغال بأمور الدنيا، ويحملهم على حياة من الزهد توصل إلى شفاء النفس بالتجرد عن جميع العلائق وإماتة سائر الشهوات. وكان هو نفسه مهملا أمر جسده محتقرا إياه، ممتنعا عن أكل اللحم. وقد استهوت هذه التعاليم كثيرا من التلاميذ، حتى إن «روجاتيانوس» عضو الشيوخ نزل عن أملاكه وأمواله وعبيده وألقابه، وسار في طرق الزهد حتى أصبح لا يأكل إلا مرة واحدة كل يومين. وكان للناس - رجالا ونساء - فيه اعتقاد عظيم، حتى إنهم عندما كانت تحضرهم الوفاة يعهدون بأبنائهم وبناتهم وما يملكون لرعايته ووصايته، فكان منزله يعج بالصبيان والبنات، وكان إلى ذلك يقوم بتعليمهم الأدب والشعر، ويأخذهم بيدهم إلى طريق الفلسفة، ويحتفظ بأموالهم لا يمسها حتى يبلغوا مبلغ الرجال وسن الرشد.
وكانت المدينة الفاضلة الحلم الذي راود معظم الفلاسفة اليونانيين، وعلى رأسهم أفلاطون صاحب الجمهورية أو المدينة الفاضلة المثالية. وانتهز أفلوطين فرصة منزلته عند الإمبراطور جاليانوس وزوجته سالونينا، تلك المنزلة التي كادت تبلغ التقديس والعبادة، فطلب منهما أن يعيش هو وأتباعه في «كامبانيا» التي كانت فيما يروى مدينة للفلاسفة في قديم الزمان، ثم تهدمت وخربت. ورأى أفلوطين إعادة بناء المدينة، وأن يعيش السكان في ظل القوانين التي يضعها لهم، ويسمي المدينة «فلاطونوبوليس»
. ومعنى بوليس
باليونانية مدينة، ومنها هليوبوليس إحدى ضواحي القاهرة، ومعناها مدينة الشمس. وعزم أفلوطين الإقامة مع أتباعه في تلك المدينة لولا أن حساده في البلاط حالوا بين الإمبراطور وبين تنفيذ وعده.
وكان بالمدرسة تلاميذ كثيرون، إلا أن أشهرهم كان أميليوس، وكذلك طبيب من الإسكندرية اسمه أسطوخيوس لزم أفلوطين في أواخر حياته إلى أن توفي، واتبع مذهب أفلوطين وأصبح فيلسوفا على الحقيقة. هذا إلى جانب فرفريوس كاتب هذه السيرة، والذي عهد إليه أفلوطين بمراجعة كتابه ونشره. وكان أفلوطين في التاسعة والخمسين عندما اتصل به فرفريوس قادما من أثينا. وظل أفلوطين زهاء عشر سنوات لا يدون شيئا ولا يكتب فلسفته، بل يتحاور مع جماعة من الأصحاب على أساس ما تعلمه من أمونيوس. ويمضي فرفريوس في روايته بعد ذلك قائلا: إنني حين أول ما التقيت به، كان قد ألف خمسا وعشرين مقالة - وستسمى المقالة فيما بعد تاسوعا - حصلت عليها، على الرغم من أنه لم يعطها إلا لعدد قليل جدا. الحق أنها وزعت بعناية شديدة، ولم يضع أفلوطين لهذه المقالات عناوين، فاجتهد كل من حصل عليها أن يضع لها العنوان المناسب. وظللت على صلة وثيقة به مدة ست سنوات، وألف بعد ذلك أربعا وعشرين مقالة أخرى، ثم أرسل لي حين كنت بصقلية وقبل وفاته بمدة قصيرة أربعا أخرى، فأصبحت جملتها أربعا وخمسين. وعندما نشر فرفريوس هذه المقالات قسمها ستة أجزاء، في كل جزء تسع مقالات، ومن هنا جاء اسمها وهو تاسوعات أفلوطين. وقد نقل بعضها في عصر الترجمة، وسميت كتاب «الربوبية»، ونسبت خطأ لأرسطو، قام بالترجمة ابن ناعمة الحمصي وصححها يعقوب الكندي.
ويمضي فرفريوس قائلا: وكان لا بد من مراجعة ما كتبه؛ لأنه لم يكن يطيق إعادة قراءة ما كتب، ولم تكن حالة بصره تسمح له بذلك. وكان خطه رديئا، يسيء الربط بين الألفاظ، ولا يعنى بقواعد الإملاء؛ لأن عنايته الوحيدة اتجهت نحو الفكرة، وقد لزمته هذه العادات طول حياته. وقد تعود أن يتصفح خطة بحثه في ذهنه من أولها إلى آخرها، حتى إذا جلس لتدوينها جرى القلم على الورق بما احتفظ به في ذهنه بجرة واحدة، وكأنه ينسخ من كتاب مفتوح. وإذا عرض له أن يتحدث مع شخص ما، أقبل عليه بكل حواسه مع الاحتفاظ بتسلسل فكره واضحا أمام ذهنه. حتى إذا انصرف محدثه، لا يرجع أبدا إلى ما سبق أن كتبه، بل يصل ما انقطع وكأن شيئا لم يصرفه عن التفكير. وهكذا كان يعيش في داخل نفسه ومع الآخرين في آن واحد.
أما في محاضراته ، فكان بارعا في العرض مع قدرة فائقة على الابتكار والفهم. وهو حين يتكلم كان نور عقله يضيء وجهه بشكل واضح. وكان على استعداد أن يتلقى الاعتراضات ويجيب عنها بنفس القوة التي وجهت إليه. وقد استمر فرفريوس يوجه إليه مدة ثلاثة أيام أسئلة عن ارتباط النفس بالبدن، واستمر يجيب عنها بغير انقطاع. كان موجز الأسلوب، مركز الفكر، معناه أوسع من لفظه، ملهما في تعبيره. وقد جمع في كتاباته بين مذاهب الرواقية والمشائية، مدمجا بوجه خاص فيها ميتافيزيقا أرسطو. حصل العلم النظري بالهندسة والميكانيكا والبصريات والموسيقى، غير أنه لم يكن على استعداد للمضي في دراستها دراسة تامة عميقة.
अज्ञात पृष्ठ