أنشأ «اللوقيون» مدرسة فلسفية تختلف في اتجاهها عن الأكاديمية التي عنيت بالعلوم الرياضية. كانت الأكاديمية تقع خارج أسوار أثينا في الشمال الغربي من المدينة، فاختار أرسطو لمدرسته موقعا في الطرف المقابل من المدينة شرقي الأسوار - أو الشمال الشرقي - على مقربة من طريق مراثون، أكبر الظن بين جبل ليقابيتوس ونهر أليسوس، حيث كانت تقع أيكة مقدسة موهوبة للرب أبولون لوقيوس وربات الفنون. وكانت تلك الأيكة من الأمكنة المحببة إلى سقراط، وكان يرتادها كثيرا. أما لوقيوس التي منها اشتق «اللوقيون»، فهو صفة لأبولون، وتعني الذئب، أو رب النهار.
ولما كان أرسطو أجنبيا، أي ليس مواطنا أثينيا، فلم يكن له الحق في امتلاك الأرض؛ ولذلك استأجر بعض الأبنية وجعلها نواة مدرسته. وفي جوار ذلك المكان، كان «يتمشى» هو وتلاميذه في المماشي، وتحت ظل الأشجار، ذهابا وجيئة، ولذلك سمي أتباعه بالمشائين، ولو أن هذا الأسلوب في «التعليم» - كما ذكرنا من قبل - لم يكن مقصورا على أرسطو وحده، والتعاليم المشائية هي المأخوذة عن مدرسة أرسطو.
ومما يروى أن أرسطو كان يلقي نوعين من الدروس؛ صباحية لخاصة تلاميذه ، وتسمى «سماعية» أو «مستورة». ومسائية للجمهور الواسع، وهذه أقل صعوبة من الأولى، وتسمى علانية أو «منشورة»
Exeteric . ليس معنى ذلك أن أرسطو كان يضفي على دروسه الصباحية صفة السرية، وأنه كان يحجبها عن الجمهور، كلا، بل الأمر أن دروس الصباح كانت تهم فئة قليلة من المشتغلين بالمسائل الفلسفية العويصة؛ كالمنطق، والميتافيزيقا، والعلم الطبيعي، على حين أن الدروس الأخرى كالأخلاق والسياسة، كانت تجذب أسماع الجمهور ويعجب بها، ويقبل عليها.
وأكبر الظن أن أرسطو جمع في مدرسته بضع مئات من الكتب المخطوطة - ولم تكن الكتب إلا مخطوطة بطبيعة الحال - فكانت أول مكتبة في التاريخ، وأصبحت نموذجا احتذت مثالها مكتبة الإسكندرية وغيرها من المكتبات. وكذلك اقتنى عددا من الخرائط ومتحفا من نماذج شتى لأحجار ومعادن ونباتات وحيوانات؛ ليستعين بها على توضيح محاضراته. ويقال إن الإسكندر وهبه مبلغا كبيرا من المال لاقتناء هذه الأشياء، وأمر جميع الصيادين في الإمبراطورية أن يقدموا له نماذج مما يصيدونه في الجو أو على ظهر الأرض أو في الماء.
ولم يكن الإسكندر وحده راعي أرسطو وحاميه، بل كذلك «أنتيباتر» الذي خلف الإسكندر في مقدونيا وصيا على العرش. ونحن لا نعلم حقيقة العلاقة التي كانت تربط بين أرسطو وأنتيباتر الذي يعرف عنه ميول نحو البحث الفلسفي، ولكنه كان صديق أرسطو عندما عاش في بلاط فيليب، ويكفي أن هذه الصداقة بلغت من الوثاقة حدا يجعل أرسطو ينص في وصيته على تعيين أنتيباتر منفذا لها.
وهكذا لقيت «اللوقيون» التأييد من أكبر ملك عرفه التاريخ، وأخلص وصي على عرش مقدونيا، فلا غرابة أن تبدأ المدرسة قوية إلى الحد الذي تبرز فيه على الأكاديمية نفسها، ولم يكن زينوقراط رئيسها الثالث الذي انتخب بعد موت أسبيسيبوس خليقا أن يقف في كفة واحدة مع أرسطو، ولعل ذلك كان من جملة الأسباب التي دعته إلى افتتاح مدرسة جديدة؛ لأنه أنف أن يعمل تحت رئاسة زينوقراط.
ونحن إذا كنا نجهل حقيقة الدروس التي كانت تلقى في الأكاديمية، ولا نعلم سوى الجانب الشعبي من تعاليم أفلاطون في محاوراته التي كان يخرجها للجمهور بين حين وآخر، هذه المحاورات التي لا يزال معظمها موجودا بين أيدينا حتى اليوم، فإن هذا الجانب الشعبي في تعاليم أرسطو، نعني محاوراته الرائعة الأسلوب التي وصفها شيشرون بأن أسلوبها يجري كأنه نهر من ذهب، أضحى مفقودا منذ فقدت هذه المحاورات، بعد أن استمرت ثلاثة قرون من الزمان، يقرؤها جمهور المثقفين، جنبا إلى جنب مع محاورات أفلاطون. ولكننا لحسن الحظ نعلم تمام العلم حقيقة الدروس التي كان يلقيها أرسطو في داخل المدرسة؛ لأن كتبه - ابتداء من المنطق إلى الميتافيزيقا - لا تزال باقية، وسنتحدث عنها فيما بعد.
ولا بد أن الأبنية التي كانت تشغلها المدرسة كانت متعددة واسعة، يتخذ بعضها لسكنى الطلبة، وبعضها الآخر حجرات للمحاضرات، وبعضها الثالث لحفظ الكتب والخرائط وما أشبه. وأحد هذه الأبنية كان معبدا لربات الفنون - أو متحفا كما نقول اليوم
Museum - ولفظ المتحف بالأجنبية نسبة إلى «موزايوس»؛ أي ربات الفن. وأقيم في المتحف تمثال لأرسطو، يقول ثاوفراسطس إنه تمثال نصفي، وقد أوصى أن يوضع في المعبد.
अज्ञात पृष्ठ