كما أن عادات كثير من الشعوب المتأخرة فيما يتعلق بذلك الموضوع الهام - موضوع الأخلاق الجنسية - ليثير فينا الحقد إزاءهم. إن شأنهم في ذلك شأن بزول «ينظرون إلى الزنا بعين الفزع»، فالقبائل التي تقطن غابات البرازيل - على سبيل المثال - تتزمت في التزام الزواج من واحدة، وكذلك يفعل الكثير من قبائل كلفورنيا، ومن المؤلم بل ومن العجيب أن البروفسور وسترمارك - برغم هذا يصف هذه القبائل بقوله: «إنها من جنس منحط وضيع .. وهي من أحط القبائل على وجه الأرض» «والكاردوك لا يسمحون بتعدد الزوجات حتى لزعمائهم، وقد يمتلك الرجل ما يستطيع شراءه من إماء، إلا إنه يجلب على نفسه العار لو أنه عاشر أكثر من واحدة». فإن ذلك يشبه عندهم أن يضاجع الرجل المتزوج طاهيته. ولست على ثقة تامة بما يعني الأستاذ وسترمارك بقوله بأن الزواج من واحدة بين قبائل الفيدا والأندمان الجزريين قاعدة يصر الرجال على التزامها بصرامة إصرار الرجال في أية بقعة من بقاع أوروبا، ولكن الأهالي في كارنيكوبار - على الأقل - لا يجلبون اللوم على أنفسهم في هذا. فالرجل من هؤلاء المتوحشين المحترمين له زوجة واحدة، ويعتبر انعدام العفة إثما مميتا، ويعاقب عندهم - وعند كثير من القبائل المتوحشة الأخرى - من يخالف هذه القاعدة بالنفي أو بالموت. يقول وسترمارك: «مما يستحق الذكر أنه ينتمي إلى هذه المجموعة من الشعوب (المجموعة ذات الإحساس الرقيق في هذه الأمور) متوحشون من طراز منحط كالفيدا من أهل سيلان، والإيجوروت من أهل لوزون، وبعض القبائل الأسترالية». وكان يحق له أن يضيف إلى ذلك أنه مما يستحق الذكر أنه بينما يعتبر أسفل المتوحشين انعدام العفة جريمة شنيعة، فإنها كانت تعتبر في أزهى عصور التاريخ زلة صغيرة على أسوأ تقدير. وخلافا لما كان عليه أهالي كارنيكوبار كان أعمق الناس فكرا وأشدهم حساسية في ألمع العصور التاريخية يغضون الطرف عن خطيئة الزنا الشنيعة، بل لقد نادى أفلاطون بشيوعية النساء. وكان للعفة وزن خفيف في حلقة القبياديس، وبلاد هادريان ، وحدائق مديشي، وفي الصالونات التي صاغ فيها فولتير وهلفيشيس وديدرو نمطا عقليا جديدا بشروا فيه بفلسفة اللذة. ويبدو أن سقراط وشيكسبير ورفائيل وتيتيان وقيصر ونابليون ودوق ولنجتون وجورج إليت ذاتها قد عاشوا حياة تجعلهم غير صالحين لأحسن مجتمعات إيجوردت في لوزن. ولم تكن الحال خيرا من هذا في العصور العظيمة من تاريخ الصين. ولذا، فحيث إن أهالي كارنيكوبار يعتبرون انعدام العفة إثما مميتا، فنحن مرغمون على الحكم بأن العفة ليست خصيصة من الخصائص المميزة للمدنية.
ودعنا لا نداهن أنفسنا فنحسب أن حب الوطن فضيلة من فضائل المدنية المميزة لها. فقد عرف بها هنود أمريكا الشمالية، حتى لقد قال كارفر عن النودواسيس: «إن أول عاطفة وأقواها تملكا لقلوبهم هي الشعور بشرف قبيلتهم، وسعادة أمتهم»، وكتب ماك جريجور عن اليوروباس في غربي أفريقيا يقول: «ليس بين البشر جنس أشد منهم إخلاصا لبلده»، ومع ذلك فهذه القبيلة - إن صح ظني - قد اتهمت بأكل المبشرين، وكذلك «كثيرا ما يموت السلومون الجزريون من الحنين إلى الوطن وهم في طريقهم إلى مزارع فيجي أو كوينزلاند» وطبقا لما يقول مستر وليامز أخذ أحد أهل فيجي عند زيارته للولايات المتحدة - بناء على أمر من سيده - يعدد الأوجه التي تتفوق فيها هذه البلاد على بلده، فأسكته على الفور المستمعون من أهل وطنه، وصاحوا قائلين: «إنه رجل ثرثار وقح: اقتلوه» ومهما يكن من الأمر في موضوع العفة، فإنه من الواضح أن شعلة الوطنية تتأجج ناصعة في جزر فيجي كما تتأجج في أي جزء من أجزاء أوروبا. وبالرغم من أنه قل من الأمم الحديثة من يتعلم منهم الكثير، فإن كثيرا من الشعوب المشهورة من قديم ربما أفادت من مثالهم. فأهل الصين مثلا سرعان ما تعلموا - بعد عهد كنفيوشس - من فلاسفتهم أنه يجب علينا أن نحب الناس جميعا على السواء. «وطبقا للكتاب الهندي المسمى بانشا تنترا أنه لا يعتبر الرجل واحدا منا أو غريبا عنا إلا ذوو العقول الضيقة». وقد قال ديموقريطس الأبدري: «إن كل بلد مطروق عند الرجل الحكيم، وأن الأرض بأسرها وطن كل من كان له قلب كريم». كما أن القورنيائيين والكلبيين الأواخر عدوا الوطنية سخرية من السخريات، وتطورت عقيدتهم إلى تلك العالمية الرواقية المتسامحة التي اعتنقها سنيكا وابكتيتس وماركس أوريليس. وكان حكم فلتير النهائي وهو يتكلم عن الحرب: «وأنه من الجلي أن بلدا من البلاد لا يكسب إلا إذا خسر الآخر، ولا يستطيع أن ينتصر دون أن يخلف كثيرا من البائسين».
وأعتقد أنه يجب أن نقر أن الإحساس بحقوق الملكية، والصدق، والنظافة، والاعتقاد في الله والحياة الآخرة والعدالة الأبدية، والشهامة، والعفة، بل والوطنية، ليست جميعا بين الصفات المميزة للمدنية، وإن تكن - برغم هذا - من وسائل المدنية، بل ومن وسائلها القوية الفعالة. ومن الواضح أن روح المدنية شيء لم يحققه المتوحشون؛ ومن ثم فلا يمكن أن يتوقف على الفضائل البدائية، وأن المفارقة بين المتوحش النبيل والرجل المتمدن التي جرت على الألسن في المائتي سنة الماضية لتدل على إجماع الرأي على أن المدنية ليست إنتاجا طبيعيا. ويجب أن نتوقع أن يكون لها شأن بالصفات التي اكتسبتها الإنسانية أخيرا - الشعور بالذات وروح النقد. يجب أن نتوقع أن تكون نتيجة من نتائج التربية، فالمدنية شيء مصطنع.
غير أن هناك رأيا متخلفا يستند أساسا إلى علم ناقص يتمشدق به المدعون وأنصاف المتعلمين. والمدنية بناء على هذا الرأي تتوقف على الخضوع المطلق لقانون الطبيعة.
1
والشعار الذي ينادي به أصحاب هذا الرأي هو «خل الطبيعة وشأنها»: إن مملكة الحيوان ومملكة النبات هما مثال التمدن. وهم يقولون بأن الإنسان قد أفسد الأمور؛ لأنه لم يسمح للأصلح بالبقاء، ولن نكون حقا متمدنين حتى نترك الضعيف للموت، وحتى نقر بصفة رسمية أن القوة هي الحق. عندئذ يرث الأرض الصالحون. وهنا يتبادر إلى الذهن بالطبع هذا السؤال: ومن هم الصالحون؟ إذا كان الناقصون من الناحية الجسمانية قد نجحوا في تنظيم المجتمع بحيث أصبح طلبة جامعة لندن لا يخشون بأس رجال الشرطة الذين يحدقون بهم، أفلا يجوز أن يكون ذلك لأن الناقصين من الناحية الجسمانية هم المتفوقون في الناحية العقلية؟ وإذا وثقنا فيما روته كتب المراجع، فقد كان التطور نتيجة للمكر كما كان نتيجة لقوة الأعصاب. ألم يكسب الإنسان ذلك الحيوان الثديي الضعيف في معركة البقاء ما لم يكسب الماموث الضخم العظيم، وحتى بين بني الإنسان ربما لم يبق إلا من كان أصلح للبقاء. يبدو لي أن حجة الطبيعيين متناقضة، إذا كان بقاء الأصلح من قوانين الطبيعة، فإنا نستطيع أن نفترض أن الأصلح للبقاء هم الباقون فعلا. وليس من غير المحتمل أن تصبح الحرب الحالة الطبيعة للبشر، وإذا كان الأمر كذلك فإن المستقبل سوف يكون مع أولئك الضعفاء الماكرين الذين يكيفون أنفسهم لظروفهم بابتداع الوسائل التي يتحاشون بها الخدمة العسكرية، كما حدث في العصر الجليدي أن بقيت تلك الأنواع التي عرفت كيف تحمي نفسها من حدة المناخ. يقول طلاب العلم: «لقد تدخلتم مع قانون الطبيعة»، ونجيبهم بقولنا: «هذه هي طبيعتنا».
وأخشى أن يطرق أذن العالم البيولوجي المتحمس كلامي هذا كما لو كان سفسطة وشرا. وإذا ما أدرك أنه ينهزم في الجدل فالأرجح أن يلجأ إلى قواعد الأخلاق. وقل من يستطيع أن يتكلم بنغمة خلقية عالية مثل رجل العلم الذي لم يتم نضوجه. فهو يصم - وضميره مطمئن - بالميوعة والتقلب والخيانة والجبن والوضاعة والسخف والاندفاع وراء العاطفة. والشر المطلق - يصم بهذا كل من يعتقد أن من واجبنا ألا نهمل الكسيحين من الأطفال حتى الموت، وألا نخنق الفنانين المصابين بالدرن، وألا نكل إلى البروفسور راي لانكستر اختيار حبيباتنا. يقول هؤلاء العلماء ساخطين: «ينبغي لنا» ولكني أتساءل: أليسوا في هذا أيضا متناقضين؟ ليس في الطبيعة ما «ينبغي» وإنما فيها ما «يكون». حينما يقول العالم البيلوجي: إنه لا ينبغي لنا ألا نتدخل مع الطبيعة، فهو يزن الرأي وزنا خلقيا لا طبيعيا. وإذا كانت المعايير الخلقية تتخذ أدلة في صالح قانون الطبيعة، فهي يمكن أن تتخذ أدلة ضدها بنفس القوة، فنستطيع أن نقول: إنه مما يؤذي حسنا الخلقي أن نقتل الأطفال والشعراء والمصابين وكل من يفقد الأمل في بلوغ المستوى (ب-1) من الكفاية، فإن مثل هذا العمل لا يؤدي في حكمنا إلى حالات عقلية طيبة. ويقول طالب العلم عابسا: «حسنا، ولكن ثقوا أن الإنسان إذا رفض أن يطيع قانون الطبيعة لا بد أن يهلك»، فنجيب قائلين: وإذا كانت الغاية والغرض الوحيد من وجود الإنسان ليس إلا أن يحافظ على نوعه، وإذا لم تكن للفرد قيمة إلا أن يكون وسيلة لهذه الغاية، فهل يكون ذلك أمرا ذا بال؟ إنه إذا تحتم على أي نوع من أنواع القردة أن يفنى فإن ذلك لا يعني البتة شيئا، وإذا كان الإنسان لا يعيش لأي غرض سوى ما يعيش من أجله القردة، فإن استمرار بقائه يصبح كذلك عديم الأهمية. أما إذا سلمنا بأن الإنسان يعيش من أجل غرض آخر غير الاحتفاظ بنوعه انهار البناء الشامخ كله من أساسه. إذ ربما كانت من أجل هذه الأغراض الأخرى عينها حمايتنا للضعيف واحترامنا للفرد.
إن المشكلة التي أردت أن أجلوها لمصلحة طالب العلم في ساوث كنزنجتين هي هذه: إما أن يكون الحق فيما هو كائن، أو أن الإنسان أوسع معرفة من الطبيعة، وليس في الحالة الأولى ما يدعو إلى الاعتراض، أما في الحالة الثانية فإن لدى العالم البيولوجي مجالا أوسع للاعتراض. فالماستدون (حيوان منقرض يشبه الفيل) بعدما فشل في نضاله من أجل البقاء، تلاشى من الوجود، وأخذ مكانه نوع آخر يحمل رسالته، رسالة الاحتفاظ بالجنس، وهكذا سارت الأمور سيرا حسنا. وكذلك إذا فني جنس علماء سوث كنزنجتين، وحل محله جنس آخر أقدر منه كفاية من الناحية البيولوجية، فماذا يكون الضرر من ذلك؟ إن الأمور هكذا تسير كذلك سيرا حسنا، ويتحقق غرض الطبيعة. لماذا نأخذ على عواتقنا الاحتفاظ بعلماء سوث كنزنجتين ما لم نعتقد أن هدفهم يختلف عن هدف الطبيعة ويدق عنه؟ هنا يقاطعني القارئ متسائلا: «لماذا تفضح نفسك بهذا الانفعال وتلك الإطالة؟ لا شك أن عبارتين اثنتين كانتا تكفيان لإقناع أي فرد بأننا لا نعني بالجماعة المتمدينة نوعا كامل التنظيم لمجرد الاحتفاظ بنفسه؟ أليست النمال كذلك؟».
بقي أمر أو أمران آخران يصح أن نشير إلى أنهما ليسا من المدنية. فهناك مثلا الحيل الميكانيكية المعقدة، إنها ليست من روح المدنية كما ظن بعضهم، ومن الغباء والخيانة الوطنية أن نحسب أن ألمانيا قبيل الحرب كانت أرقى مدنية من فرنسا برغم أن الألمان في تطبيق العلوم على الصناعة كانوا يفوقون كل الأمم، ربما باستثناء شعب الولايات المتحدة، ولا يتصور أحد أن ملبورن تبلغ اليوم ما بلغت أثينا في عصر بركليز. ونحن على ثقة من أن آخر من يقع في مثل هذا الخطأ هم أرقى المتعلمين من أهل هذه المدينة العظيمة المضاءة بالكهرباء، والتي يسير فيها القطار والترام. إن كثيرا من الفرنسيين يقرون مرغمين أن باريس نفسها في الوقت الحاضر أقل مدنية من أثينا لعهد بركليز، والفرنسيون جميعا، بل وكل المتعلمين من الأمريكان، يتفقون على أن باريس الحديثة أرقى مدنية من نيويورك في حين أن أحدا لا ينكر أن باريس متخلفة في طرق النقل والمواصلات، وفي الإضاءة والتنظيمات الصحية.
اعتدت بعد الحرب الروسية اليابانية مباشرة أن أتناول عشائي في مطعم بحي سوهو، حيث اعتادت فئة من صغار الشبان المثقفين أن تجتمع مرة كل أسبوع بأحد الضباط البريطانيين الجذابين المتواضعين الذين عاشوا طويلا في عالم من واجبهم أن يتغابوا فيه حتى ينسوا تماما مبلغ ما لديهم من ذكاء. وأذكر أننا شرعنا نناقش موضوع هذه المقالة «ما هي المدنية؟» وكانت الفابية متقدمة جدا في ذلك الحين، وأكد بعضنا أنه لا يجوز أن يوصف المجتمع بالمدنية إلا إن عني بالفقراء والمرضى والمجانين، ورأى بعضنا (وكانت الجماعة تضم بعض السيدات) أنه ينبغي أن يكون في الجماعة المتمدنة صوت لكل من يبلغ سن الرشد. ورأى آخرون أن الشعب المتمدن حقا يجب أن يمنح كل شاعر وفنان خمسمائة جنيه في العام، وأن ينشئ معارض للصور في مدن الأقاليم - ورأى آخرون غير هذا وذاك، ولكن ربما لم تعد لآرائهم من الأهمية اليوم ما كان لها في ذلك الحين. وأما الضابط فقد قال : «لا أستطيع أن أقول لكم ما هي المدنية، ولكني أستطيع أن أقول لكم متى يقال عن الدولة إنها متمدنة. إن أولئك الذين يتفقهون في هذه الأمور يؤكدون لي أن اليابان كان لها خلال مئات السنين فن رائع وأدب عظيم، ولكن الصحف لم تذكر البتة أن اليابان متقدمة في المدنية حتى اشتبكت في حرب انتصرت فيها على دولة أوروبية كبرى». وكان لهذه السخرية موضعها، ولكن الضابط الهمام نفسه ربما كان آخر من يعتقد أن الكفاية في التسليح هي في الواقع مقياس للمدنية. وإني واثق من أنه يستنكر أشد الاستنكار أن يكون البرابرة الذين اجتاحوا الإمبراطورية الرومانية قوما متمدنين، أو أن التتر الذين قهروا أسرة سنج وهدموا في أواسط آسيا الثقافة الإسلامية كانوا أكثر من زمرة من الوحوش الضارية. وكنت أستطيع أن أقنعه ببعض الأمثلة. وكنت أستطيع أن أجابه أولئك المحبين للبشرية بهذه الأمثلة التي تحير اليوم - أو ينبغي أن تحير - كل من يقيس التمدن بالتقدم الآلي، أما ذلك الذي (أو تلك التي) يعتقد أن المجتمع المتمدن هو المجتمع الذي يكون لكل بالغ فيه صوت فإنه (أو فإنها) إنما يتحدث كلاما خلوا من المعنى بشكل جلي. إن النظم السياسية قد تكون من وسائل المدنية وقد لا تكون. ولكنها ليست من روحها. وكثير من القبائل المتوحشة يحكمها زعماء مستبدون في حين أن غيرها يبدو ديمقراطيا، وقد كانت أثينا في أزهى عصورها أوليجاركية من المواطنين الأحرار يعيشون على كدح عبيد ليس لهم حق التصويت. وكادت فرنسا في القرن الثامن عشر أن تكون ملكية مطلقة. فنحن على ثقة من أن المدنية تتعلق بشيء أبعد غورا من أشكال الحكومات.
अज्ञात पृष्ठ