دخلت إنجلترا الحرب - إن صح ما أذكر - لأن ألمانيا انتهكت إحدى المعاهدات، والرأي السائد أن حربا أوروبية أفضل من ترك الإساءة بغير قصاص - أو كما يقول المثل: لتأخذ العدالة مجراها حتى إن أدت إلى انهيار البيت. وقبول هذا المبدأ المزعج بغير تعديل ربما أثار في العقول المفكرة إحساسا بالقلق، وهو الإحساس الذي ربما دفع المحررين والساسة - الذين كان عليهم أن يبرروا لرواد الكنائس وقراء الصحف الأحرار إعلاننا للحرب - إلى تعزيز الباعث الخلقي بالباعث الديني. وأيا كان الدافع، فذلك هو ما حدث. فأعلن أحدهم، وربما كان مستر لويد جورج نفسه، أو على الأرجح مستر هوراشيو بوتوملي، هذا النداء الجريء: «الصليب ضد كروب» ورحبت الصحف من بداية الأمر بالحرب باعتبارها أرماجدون (أي مسرحا للنضال العظيم بين الأمم)، فبات من المعقول أن يكون قيصر ولهلم الثاني من أعداء المسيح. وليس من شك في أنه كان يشبه نيرون من بعض الوجوه - ربما كان تذوقه المزعوم للموسيقى- وكانت هناك إلى جانب ذلك نبوءات، وشارات، ونذر في السماء، وملائكة تظهر في مونز، وكلها تميل إلى الدلالة على أن الله في جانبنا، وأننا على الأرجح نقف في وجه الشيطان. غير أن بعضنا لم يقنعه هذا التشبيه، وقد تذكروا ما اعتاد صاحب الجلالة الإمبراطورية من وضع كتيب صغير عنوانه «أحاديث مع يسوع» في أيدي الفتيات الصغيرات، ثم - فوق هذا - هل كان من حسن المجاملة أن نصر على أن هذا الأمر يبلغ مبلغ العقيدة، في حين أن الجمهورية الفرنسية لا تتقيد من الوجهة الرسمية بدين، والميكادو يتبع العقيدة الشنتوية؟ وهل من الحكمة أن نزج بإله المسيحيين في نزاع يتحد فيه الكفار الفرنسيون والجاحدون اليابانيون، والمسلمون والمجوس الهنود، والمتوحشون السنغاليون، ضد إمبراطور النمسا السابق، وهو تلك الدعامة من دعائم الكنيسة الكاثوليكية؟ ولذا، ففي الوقت الذي بدأنا نتساءل فيه إن كان من الجائز أن توصف هذه الحرب وصفا دقيقا بأنها حرب صليبية، اكتشف رجل حذر مثقف، أظنه من كتاب الملحق الأدبي بجريدة التايمز، بأن ما يهاجمه الحلفاء حقا هو نيتشه.
وكان هذا الاكتشاف في أول الأمر نجاحا عظيما، وأصبح نيتشه هدفا يصوب إليه كل منا حماسته وثورته البالغة، ويكفي لإدانته من جانب رجال الطبقة الحاكمة أنه كان ألمانيا وشاعرا، وقد قيل عنه أنه يحتقر التوسط ومن ثم كان لدى الطبقتين الوسطى والدنيا ما يبرر كراهيته، ليسقط نيتشه! وما أمتع الضرب في هذا السافل الدنيء! هذا الرجل الذي زعم أنه يسخر من الأحرار دون أن يعجب بالاتحاد بين الأحرار؛ فلقد كان - كما يبدو - كأنه مصاب بالصرع وداء الخنازير، ولم يكن من الرجال المهذبين. وتحدثنا عنه إلى العمال. قلنا لهم: إنه نبي الإمبريالية الجرمانية، وشاعر بروسيا، وتابع دنيء من أتباع أشراف الشبان الجرمان، وإذا كان منا من درس شيئا الأدب الألماني فخفت كراهيته وبلغت به الخيانة الوطنية أن يجادل في عقائدنا، وصمناه بالغدر وأسكتناه. تلك كانت خير أيام عام 1914م، حينما كانت فرنسا وإنجلترا تدافعان عن باريس ضد نيتشه. في حين كانت الآلات الروسية تدفعه من الخلف.
ومع ذلك، فإن هذا التحصين ضد نيتشه لم يكن كذلك باعثا على تمام الرضا: أولا لأنه مما يجلب على المرء الكآبة أن يقف موقف المدافع في كل مكان، وثانيا لأنه كان من العسير أن تحكم على نيتشه، ومن الشذوذ - فوق ذلك - أن تحارب ضد رجل لم يسمع بوجوده منذ ستة أشهر واحد في كل عشرة آلاف، وقد أردنا ألا نحارب ضد أمر من الأمور فحسب، بل أردنا شيئا نحارب من أجله، من أجل ماذا؟ كانت بلجيكا دولة صغيرة جدا، بل بقعة قذرة، والمسيحية تجافي الحكمة، وتوازن القوى فكرة عتيقة، ونحن أنفسنا سببا بعيد الاحتمال. تطلعنا إلى هدف سام له رنين، وهو برغم هذا مألوف معروف، هدف يفخر به الناس أجمعون ويسرهم أن يدفعوا غيرهم إلى الموت في سبيله، سواء منهم المسيحيون واللادينيون والأحرار، والمحافظون والاشتراكيون، من يحب الحرب دائما ومن يؤمن ببغضها، ومن يغرم منهم بماري كوريلي ومن يؤثر عليها مسترولز، ومن يحب منهم الويسكي ومن يؤثر عليه ليدي آستور، وبعبارة موجزة: سواء منهم من يستمد الرأي من «الديلي نيوز» ومن يستمده من «الديلي إكسبريس». ثم حدث أن طرأ هذا الكشف النهائي الجميل - وهو أننا نقاتل من أجل المدنية - لذهن أكثر شمولا، لذهن رجل لديه حس تاريخي وشعور بأهميته، لذهن رئيس الوزراء أو البروفسور جلبرت موري فيما أعتقد. ثم طرأ لذهني هذا السؤال العاجل: «وما هي هذه المدنية التي نقاتل من أجلها؟».
ولست آمل أن أقدم تعريفا دقيقا، فلقد كبرت الآن عن سن ذلك الوثوق الجليل الذي مكنني من أن أقول للعالم على وجه الدقة ما هو الفن في ستين ألف كلمة، ومع ذلك فكما يستطيع القائد البريطاني أن يشير اعتباطا بطرف عصاه الغليظ إلى خريطة فرنسا، ويقول مخادعا: إن هدفكم يجب أن يكون في مكان هنا على وجه التقريب، فإني كذلك ربما أستطيع أن ألوث بإشارتي مصورا للآراء العامة وأقول: «إن المدنية تقع هنا على التقريب».
ولنبدأ برأي واضح مملول. يبدو أنه من المعقول أن نفترض أن المدنية خير. فإنها إن لم تكن كذلك لما كاد أن يتوقع أحد منا أن ندفع كل هذا من أجلها. وما دامت المدنية خيرا، فلا بد أن تكون كذلك إما كغاية أو كوسيلة. إننا عندما نتحدث عن «مجتمع عظيم المدنية» قد نقصد «مثل المدنية الأعلى» أو «الكمال المطلق» أو «السماء»، وفيما عدا ذلك فإن المدنية ليست غاية من الغايات. ولما كنا عادة نتحدث عن عيوب المدنية ورذائلها، فإن ذلك يشير إلى أنها عند أكثرنا لا تعدو أن تكون وسيلة من الوسائل. إن السماء تتخطى حدود التمدن، وقد يبلغ المجتمع قمة التمدن، ومع ذلك يقصر عن بلوغ المثل الأعلى، ويترتب على ذلك أن الأمر الذي أنا مقدم على تعريفه، أو الذي أحاول تعريفه ليس الخير المطلق، ولكنه وسيلة معينة من وسائل الخير. وسوف أهتم فيما بعد بتقدير قيمته. أما في الوقت الحاضر فيكفي أن تتفق على أنه ما دامت المدنية خيرا وما دامت حالات العقل الخيرة تعد وحدها عادة غايات خيرة، فالمفروض إذن أن تكون المدنية وسيلة كحالات العقل الخيرة، وهذا بالطبع سبب آخر يدعونا إلى الابتهاج؛ لأن أولئك الذين كانوا يقاتلون من أجلها هم أولئك الذين فازوا في المعركة.
وإذا قلنا بأن المدنية وسيلة للخير، فلنذكر أن ذلك ليس معناه أنها الوسيلة الوحيدة. وأراني مضطرا إلى ذكر ذلك؛ لأن الرأي أخيرا قد ساد بأنه ما لم تكن الوسيلة للخير هي الوسيلة الوحيدة، فإنها لن تكون البتة وسيلة، ومن أجل هذا لم يظفر العلم برضا جماعة من المفكرين. ولعلي أستطيع أن أقول جماعة من الكتاب، لغير ما سبب سوى أنه من رأيهم بل ومن رأي أكثر الناس، أن الدنيا التي لا يكون فيها إلا العلم دنيا تنقصها العاطفة وينقصها الجمال، كما أن الرأي الذي يقول بأن العاطفة والجمال والعلم قد تكون جميعها خيرا رأي - لسبب لست أدريه - يمقته العقل الخيالي الجديد المفزع، سواء في داخل البلاد أو خارجها. فالمدنية إذن ليست بالتأكيد هي الوسيلة الوحيدة للخير. وما دامت الحياة وسيلة ضرورية لحالات العقل بضروبها كافة، فهي وسيلة من وسائل الخير، وحيث إن الشمس والمطر من وسائل الحياة، فهما كذلك من وسائل الخير، وليس من شك في أن الحياة والشمس والمطر هي كذلك من وسائل المدنية، ما دامت المدنية بغيرها لا يمكن أن تظهر في حيز الوجود. ولكنها ليست هي المدنية، كما أنها ليست من وسائل الخير بمقدار ما هي من وسائل المدنية فحسب، بل إن الحياة والشمس والمطر والخبز والنبيذ والجمال والعلم والمدنية هي - في الواقع - جميعا من وسائل الخير. وما ينبغي لنا أن نذكره هو هذا: إن الجمال وسيلة مباشرة للخير، والمدنية وسيلة وسط، في حين أن الشمس والمطر والحياة نفسها وسائل بعيدة وإن تكن ضرورية.
وما كنت لأنفق المداد والورق في هذا الغرض لولا أني أدركت أنه يؤدي إلى غيره، مطابق له، ومع ذلك كثيرا ما يهمله حتى أولئك الذين يقبلونه في صيغته الأولى الجلية الواضحة، وبخاصة حينما يستحثوننا على أن نقوم بهذا العمل أو ذاك لصالح المدنية: ذلك أن المدنية لا يمكن أن تكون من وسائل الخير إلا إن كانت وسيلته الوحيدة، وبطبيعة الحال لو كانت المدنية هي الوسيلة الوحيدة للخير، لاستتبع ذلك أن يكون كل أمر يؤدي إلى الخير جانبا من جوانب المدنية، وحيث إن المدنية ليست كذلك، فحري بنا ألا نخطئ في الاختيار والانتقاء. ليس من شك في أن الجن (وهو نوع من أنواع الخمر) والكتاب المقدس من وسائل الخير إذا تناولتهما أيد ملائمة في الوقت الملائم. ومع ذلك فنحن نتساءل إلى أي مدى يبرر التجار الأوروبيون والمبشرون صحة دعواهم من أن ما يحملونه إلى البلدان المتوحشة هو من المدنية. وكثيرا ما كانت العقائد التي لا تنبني على العقل ولا تتسامح، والوطنية العمياء والولاء وسائل لحالات عقلية سامية، وللخير تبعا لذلك، بيد أنها ليست بالمدنية، بل لقد دلت على أنها في أكثر الأحيان معادية لها. المدنية وسيلة معينة للخير. ويجب أن نحذر من أن نزعم بأن كل ما نحب أو نقدر جانب منها. يجب ألا نزعم أنها تشمل كل الفظائع المحببة إلى نفوسنا. فقد نؤثر إيثارا كبيرا أكل شريحة من لحم الضأن المحمر على دراسة الميتافيزيقا. بيد أنه من حماقة الرأي أن نسلم - على هذا الأساس وحده - بأن أكل اللحم من بين هذين العملين العجيبين أقرب إلى المدنية، المدنية - وهي ليست الوسيلة الوحيدة للخير، وليست مجرد وسيلة للخير - وسيلة معينة، نستطيع أن نعتبرها عظيمة الأهمية، استنادا إلى رأي ساسة الحلفاء، وإلى أسباب هي عندي أكثر متانة وأشد صلابة. ولا زلنا - برغم هذا - بعيدين عن اكتشاف ماهيتها.
إن هذه الصفة «متمدن» كما يعلم أولئك الذين قضوا خير سني حياتهم في دراسة هذه الأمور من الناحية اللغوية، مشتقة من حالة للمجتمع اسمها باللاتينية
civitas
اشتقاقا صحيحا شائعا. وحتى منتصف القرن الثامن عشر كان الفرنسيون يشتقون وصفهم «المتمدن» من الاسم اليوناني «للمدنية»، وعندما نتحدث عن عصر متمدن نقصد أن المجتمع الذي يعيش في هذا العصر مجتمع متمدن. «المدنية» - على الأعم والأصح - تنسب إلى جماعة بشرية مؤتلفة منظمة، وهي - في استعمال أقل في عمومه وفي صحته - تنسب إلى أشخاص، أو مواطنين. غير أن العقل الذي لم يتدرب على التصريف والاشتقاق - حتى هذا العقل يستطيع أن يدرك أن المدنية في الواقع لا بد أن تكون من إنتاج الأفراد المتمدنين، وأن أي محاولة لفهم طبيعة هذه الظاهرة أو لتعليل وجودها تؤدي حتما ومباشرة إلى البشر الذين يبدعونها ويحافظون عليها، والإدراك العام المجرد - فوق هذا - يدلنا على أن الفرصة أمامنا للحكم على الأفراد أجدى وأقرب إلى الاحتمال بكثير من أية فرصة نأمل أن تتاح لنا للحكم على هيئة غامضة متعددة الجوانب كالدولة أو المجتمع. الإنسان قريب التناول، وتستطيع أن تقول شيئا يقرب من التحديد عن رغبات أو ميول جون سمث أو دي سنج، ولكن أي شيء دقيق تستطيع أن تقول عن بريطانيا العظمى أو الصين؟ إذا تحدثنا عن «شرف الصين» أو «مصالح إنجلترا» فمن المستحيل أن نعني شيئا محددا، ومن غير المحتمل أن نعني البتة شيئا. فليست لجميع سكان بريطانيا العظمى نفس المصلحة، وليست لجميع أهل الصين نفس المشاعر. ولكنا نستطيع أن نعين في وثوق العاطفة التي تتحكم في رجل صيني بعينه، وأن نتابع في يقين نوعا من السلوك يكون في مصلحة سمث. ولو أن إنجلترا امتنعت عن إعلان الحرب على ألمانيا لما استطاعت أن ترفع رأسها مرة أخرى كما يعلم كل منا، ولكني أستطيع أن أقول إن سمث يستطيع أن يشمخ بأنفه.
अज्ञात पृष्ठ