عزيزتي فرجينيا:
إذا كرمت هذه الرسالة بإهدائها إليك، فإني أفعل ذلك فقط وقبل كل شيء لأني بسحر اسمك آمل أن أسحر قارئيها، ولست أخجل من أن أدين بهذا أو بغير هذا من المنافع لما بيننا من صداقة. ولكن الواقع أن ما دفعني حقا إلى ذلك باعث أكرم وأشد تشويقا، دفعني إليه أنك وحدك من بين رفاقي التي شهدت مولد هذا الابن المتخلف المنكود وتابعت تقلبات الحظ معه. أنت وحدك التي تعرفين أنه أول ثمرة لكل ما تأملت فيه، وكل ما عداه (سوى بعض مجموعات من المقالات) تفرع عنه بمعنى من المعاني. إن تاريخ التفكير في هذه الرسالة يرجع إلى عهد طفولتنا. تذكرين يا فرجينيا، أننا كنا في الأغلب اشتراكيين في تلك الأيام، وكنا نهتم بمصير البشرية، ومن ذلك الاهتمام نبعت الفكرة أولا، ثم التخطيط العام، ولما فكرت - بطبيعة الحال - أن يكون «عملي العظيم»، وهو كتاب يعالج كل أمر هام من أمور عصرنا، لا يغفل منها شيئا، كتاب أسميه «النهضة الجديدة». «وكان خيالا صبيانيا»، على حد تعبير للشاعر هود في مكان ما كما أظن. وبرغم من هذا التفكير الصبياني فقد أدركت حتى في ذلك الحين أن تفسير ما بلغناه يقتضي بيان ما صدرنا عنه. كان مقدرا «للنهضة الجديدة» أن يعرض صورة عن الفن المعاصر، والفكر، والتنظيم الاجتماعي، وذلك بتعقب تاريخ هذه المظاهر للمدنية من أقدم العصور حتى الوقت الحاضر - أي حوالي عام 1909م - ولكن ما إن حل عام 1911م حتى كنت قد ازددت حكمة - أو على الأقل كبرت سني قليلا - فأدركت أن موضوعي لا تمكن معالجته. من أجل هذا، وبوحي المعرضين الأول والثاني من معارض «ما بعد التأثريين» اجتزأت من كتابي «النهضة الجديدة» فصلا نشرته في ربيع عام 1914م تحت هذا العنوان البسيط الشامل «الفن».
ثم اشتعلت نيران الحرب، فعدلت من آرائي كثيرا بما كان لها من نتائج سياسية واقتصادية - كما سوف يتبين لك بعد قليل - والواقع أن الفرق بين هذه الرسالة وبين الكتاب الذي اعتدت أن أتحدث عنه في غرفة عملك بميدان فتزروي إنما يعزى لهذا الحادث الفاصل، لأن المهزلة وإن تكن ما تزال قائمة، إلا أن ضوءا جديدا قد ألقي عليها وأقصد بالمهزلة منظر ملايين الرجال والنساء وهم يحاولون عن طريق النظام السياسي والاجتماعي أن يحصلوا على ما يعتقدون - بدرجات متفاوتة - إنهم يريدونه، ويسمون ما يعتقدون أنهم يريدونه خيرا، وما إن حل خريف عام 1918م حتى بدأت نظرتي إلى الأمور تتغير، وتحورت آرائي ومعتقداتي. إن ما كان يبدو لي قيما كغايات ما برح كذلك؛ إلا أن كثيرا مما كنت أحسبه وسائل ممكنة لهذه الغايات بدا لي خلوا من المعنى. نظرت إلى المشكلة القديمة نظرة جديدة. وكانت نظرتي جادة، وربما كانت شائقة، في لحظة من اللحظات. ولذا ففي ذلك الخريف أخرجت المخطوط القذر وشرعت أكتب من جديد.
وما برح القدر يترقبني، أو يترقب المخطوط على الأصح. ففي مستهل عام 1919م ألفيت نفسي ناقدا فنيا محترفا وأديبا محترفا - ولم يكن ذلك ذنبي - ومرة أخرى تخليت عن «العمل العظيم»، ولكني استخرجت منه فصلا آخر، ونشرته تحت عنوان «الحرية البريطانية»، وكانت رسالة صغيرة - ولكنها في رأيي تدعو إلى الإعجاب - ولم يلحظها أحد، بيد أني وددت أن أواصل الحديث؛ ومن ثم حملت إلى هذا المكان الهادئ مخطوط عام 1918م واستخلصت منه مقالا من المدنية.
لن تسمعي بعد اليوم عن «النهضة الجديدة» فإن ما تبقى من المخطوط بعد الذي استخلص منه استعمل منذ بضعة أشهر وقودا للنار. هنا تجدين خلاصة جدلنا المعروف القديم، بعد أن حورته الحرب، ولم يحوره شيء آخر، لأنه منذ الحرب، والثورة الروسية والانقلاب الإيطالي، لم يحدث شيء ولم أقرأ شيئا، مما يحولني جديا عن رأيي في المدنية أو عن الوسائل التي تتحقق بها. هنا عصارة خير أيامي وأفكاري مجموعة، وأرجو أن تكون موحدة، حسنة التغليف والطباعة بالتأكيد، يضعها عند قدميك يا عزيزتي فرجينيا صديقك المحب.
كلايف بل
كاسس - أبريل 1927م
المقدمة
لما كانت بريطانيا العظمى وحلفاؤها تقاتل فيما بين أغسطس من عام 1914م ونوفمبر من عام 1918م من أجل المدنية، فلا يمكن - فيما أعتقد - أن يكون البحث فيما عسى أن تكون المدنية غير ذي موضوع، ولقد كان الناس يحسبون أن «الحرية» و«العدالة» من الكلمات التي تكلفنا كثيرا، بيد أن كثيرا من المفكرين من دافعي الضرائب دهشوا عندما أدركوا أن «المدنية» يمكن أن تكلف في اليوم الواحد من الملايين ما لا أذكر عده، وأن قصة ظهور هذه الكلمة في قمة أغراض الحرب البريطانية عجيبة جدا، أجدني مدفوعا إلى روايتها، حتى إن كانت أقل صلة بالموضوع، والواقع أني لا أستطيع أن أشرح كيف اتخذت هذه المقالة شكلها النهائي إلا برواية هذه القصة.
إن أحكم الزعماء الذين قادونا إلى الحرب وخيرهم كانوا ينادون «إنكم تقاتلون من أجل المدنية» وتلقى الجند هذا النداء فقالوا: «التحقوا بالجيش من أجل المدنية»، وقد أفزعتني هذه الحماسة المباغتة لمبدأ لم يبد بشأنه الساسة وضباط التجنيد حتى ذلك الحين إلا قليلا من الاهتمام، أو لعلهم لم يهتموا البتة به، فناديت بدوري: «وما المدنية؟» وأؤكد لكم أن ندائي لم يكن عاليا؛ لأن النداء المرتفع بمثل هذه الأمور في ذلك الحين كان يؤدي بصاحبه إلى السجون. أما الآن - بعد أن لم يعد السؤال جريمة أو خيانة وطنية - فإني أعتزم البحث فيما عسى أن يكون ذلك الأمر الذي من أجله قاتلنا ومن أجله ندفع. وفي نيتي أن أفحص هدفنا الأساسي من القتال. وسنرى إن كان بحثي سوف ينتهي إلى اكتشاف، وإن كان بين هذا الاكتشاف - إذا انتهيت إليه - وبين معاهدة فرساي أي وجه من وجوه الشبه.
अज्ञात पृष्ठ