امرؤ أن يتفوق في المدنية - وسوف أستعمل منذ الآن «التفوق في المدنية» تعبيرا أميز به بين الممدنين ومجرد المتمدنين الذين يتلونون بلونهم - أقول: لا يستطيع امرؤ أن يتفوق في المدنية دون أن يتوفر له قسط كاف من الأمن المادي. والواقع أن الدولة لم تخرج إلى حيز الوجود إلا نتيجة للرغبة في الأمن المادي. وأرجو ألا تسارعوا فتحسبوا أن الأمن المادي وحده يستطيع أن ينتج أي لون من ألوان المدنية - ولنذكر الجماعات التي تتميز بحسن التنظيم في العالم الحديث؛ غير أن المرء إن أراد أن يحيا حياة متفوقة في المدنية لا بد أن يتوفر له الطعام، والدفء، والمأوى، والمجال، والفراغ، والحرية، ولذا فهنا - من أول الأمر - يواجه الرجل الذي يحب الإنسانية ويتحمس لها، والذي يتأثر بفصاحتي فيصمم على أن يكرس قدراته السياسية لرفع شأن المدنية - يواجه هذا الرجل سؤالا عاجلا شاذا وذلك هو: كيف نستطيع أن نمد القلة الممدنة بالأمن والفراغ اللازمين إلا على حساب الكثرة؟
والجواب إنه ليست هناك وسيلة أخرى نمدهم بها: أن مواطنيهم ينبغي لهم أن يعولوهم كما فعلوا من قبل دائما. المدنية تحتاج إلى طبقة فارغة، والطبقة الفارغة تحتاج إلى وجود الرقيق - أعني أولئك الذين يخصصون جانبا من فائض وقتهم ونشاطهم لعول غيرهم؛ فإن أحسست أن مثل هذه التفرقة لا يمكن احتمالها، فلتكن شجاعا وتعترف أنك تستطيع أن تستغني عن المدنية، وإن المساواة - لا الخير - هي ما تريد. إن المساواة التامة بين البشر لا تتفق إلا مع الهمجية التامة، ولكن ليذكر من يزعم حب الإنسانية - قبل أن يدعو إلى الهمجية - أن بين الناس من يرغب في الخدمة أو أن بينهم - إن شاء - من يرضى بالتضحية في سبيل مثل أعلى.
ومهما يكن من أمر، فإنه من الواضح أن المرء لكي يكون كامل المدنية، ولكي يمارس أعمق الحالات العقلية وأروعها لا بد له من الأمن والفراغ. لا بد أن يتوفر له ما يكفي لطعامه وشرابه، وما يضمن له ذلك. ولا بد أن يتوفر له الدفء، والمأوى، وشيء من المجال، وكل ضرورات الحياة وبعض ما فيها من أسباب الترف. والفراغ كذلك ضروري. لا بد له من الفراغ لكي يربي نفسه على الاستمتاع بالخيرات، ومن الفراغ ما يمكنه من متابعة الاستمتاع بها، وكذلك يجب أن تتوفر له الحرية، الحرية الاقتصادية التي ترفعه فوق مستوى الظروف التي تحطم الروح، وتسمح له بالعيش كيفما وحيثما أراد، والحرية الروحية - حرية التفكير والشعور والتعبير والتجربة، يجب أن تتوفر له الحرية لكي ينمي قابليته، وأن يضعها دائما في طريق المغامرة. إن المرء لكي يظفر بخير ما في الحياة يجب أن يعيش من أجل خير ما فيها.
بيد أن الأمن المادي والفراغ والحرية، كلها - لسوء الحظ - تتطلب المال والمال في النهاية لا يمكن الحصول عليه إلا بالعمل المنتج؛ إلا إن كل ضروب كسب المال تقريبا عقبة في سبيل حالات العقل الغزيرة الدقيقة؛ لأن جميعها تقريبا تتعب الجسم وتبلد الذهن، ويؤكد هذه الحقيقة الثابتة مثل الفنانين، الذين يكف أكثرهم عن الخلق بتاتا إذا اضطروا إلى العمل في تحطيم الأحجار أو جمع الأرقام ست أو سبع ساعات كل يوم، ثم إن الرجل الذي يتعلم كيف يكسب العيش لا يمكن أن نحسن تربيته على استغلال الحياة على أحسن وجه؛ فلكي نتيح للشاب أن يمارس خير ما في الحياة لا بد له من تربية حرة محكمة حتى سن الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين، تبقى في نهايتها الحاجة إلى الفراغ شديدة الإلحاح؛ لأن الإحساسات المرهفة عالية التدريب لا تعيش إلا في ظروف حرة فسيحة. كم من ألوف المحامين، وموظفي الحكومة، ورجال الأعمال، الذين تخرجوا في أكسفورد أو كمبردج مؤهلين للاستمتاع بخير ما في الحياة، كم من هؤلاء أمسى - بعد ثلاثين عاما من النجاح المتواصل، عاجزا عن الاستمتاع بأي شيء يفضل نشوة الخمر أو الصداقة العاطفية، أو الروايات الرخيصة، أو الصور الأرخص، أو الموسيقى الشعبية، أو الصور المتحركة، أو الجولف، أو ما يروى في غرفة التدخين من حكايات، أو الأمر والنهي، أما عن العمل البدني، فإن من يزعم أنه بعد عمل يوم كامل في الحفر أو السباكة، أو الصيد والقنص، يكون في حالة تمكنه من استساغة نواحي النشاط الروحي الذي تتميز بدقتها، من يزعم ذلك فإنه يقول كلاما ليس له معنى.
بل أكثر من ذلك أن توفر الأمن والفراغ والحرية وحده يمكن أن يعطي المرء ذلك الإحساس بالاطمئنان وتلك النخوة التي لا تبلغ الحياة بغيرها أو في مراحل تطورها وأعلاها، ولا يعرف كيف ينفق المال - على وجه العموم - إلا أولئك الذين لم يضطروا قط لكسب المال؛ أولئك وحدهم لا يزنون المال بأكثر مما يستحق - فهو وسيلة لما يريدون، وإذا كان التحرر من العمل الشاق وحده هو الذي يبقي على المرء حدة ذهنه، فإن الاستقلال وحده هو الذي يعطي المرء الشجاعة على استخدامه، فلا يحتفظ بقوة الفكر والشعور بإخلاص مطلق إزاء كل موضوع إلا أولئك الذين لم يضطروا قط إلى إرضاء سيد أو التقرب إلى زميل. أولئك وحدهم يعرفون كيف يتخلصون من الغرض تماما، وكيف لا يخضعون البتة للأهواء، وكيف يتابعون فكرة دون النظر يمنة ويسرة ليتثبتوا من ملابساتها العملية، وكيف لا تؤذيهم ضمائرهم في اتباع المنطق، وكيف لا ينزلون عن شيء من ميولهم. هل يمكن لقائد من قواد الصناعة مهما يكن ذكيا أن يتجرد من الأهواء تماما حينما يناقش الاقتصاد السياسي؟ وهل يمكن لأسمي أفلاطوني - إن كان كذلك معلما مأجورا لليونانية - أن يحكم على التربية الكلاسيكية بمزاياها فحسب؟ بل إن الاشتراكيين أنفسهم - إن كانوا كذلك من صغار العمال المأجورين - لا يستطيعون أن يفكروا بعقول متحررة في الموضوع الذي نجادل فيه: هل تتفق المساواة الاقتصادية مع أعلى درجات الخير؟ في حين أن الاشتراكية نفسها من ابتداع المفكرين من الطبقة المتفرغة ، وأولئك أساسا هم الذين دفعوها إلى ميدان السياسة العملية.
إن وجود طبقة متفرغة لا بد منه كوسيلة للخير ووسيلة للمدنية؛ أي إن الرجال والنساء الذين تتألف منهم تلك النواة التي تشع المدنية منها لا بد أن يتوفر لهم الأمن والفراغ، والحرية الاقتصادية، وحرية التفكير والشعور والتجربة. إذا أراد المجتمع المدنية فلا مناص له من أن يدفع ثمنها. لا بد له من أن يعول طبقة متفرغة كما يعول المدارس والجامعات، والمتاحف ومعارض الصور، ويقتضي ذلك التفرقة - التفرقة كوسيلة للخير. إن المدنية كلها استندت إلى هذه التفرقة. فكان للأثينيين عبيدهم، وكان العمال المأجورون الذين ليس لهم حق التصويت في فلورنسة يقومون بأود الطبقة التي أسبغت على فلورنسة ثقافتها، ولا يستمتع بنعمة العدل الاجتماعي سوى الإسكيمو ومن إليهم. لا غنى لنا عن طبقة متفرغة إذ قل من الناس من يولد قادرا على أن يكشف لنفسه عن عالم الفكر والشعور الذي تنبثق منه خير ملذاتنا، وإن قدرات هذه الفئة لتفسد إذا لم تلق الرعاية وتصبح بذورا في العراء، ثم إن المجتمع لكي يتمدن ينبغي أن يتشبع وأن يتغذى دائما بالتأثير اللاشعوري لهذه الفئة الممتازة التي تشع منها المدنية. يجب أن تلقن الغالبية أن عالم الفكر والشعور موجود، ويجب أن تطلع - وهي تكمن خلف عالم مملول من المنفعة العملية - على أهمية العالم العاطفي، وواجب القلة الممتازة أن تشير إلى الطريق. إن أفراد هذه القلة الضالعة في المدنية لا ترشد ولا تحاضر، وإنما تكتفي بأن تحيا حياتها، وسيتبين من عيشهم أن لهم ملذات ورغبات، وقيم ومعايير، وموقف من الحياة، ووجهة نظر، تختلف عما يتصف به الجمهور العامل. إنهم بعيشهم عيشة سلبية يصبحون عوامل إيجابية للخير. إذ إنه عندما يظهر أن القلة قد اكتشفت متعا غزيرة مشبعة لم يتنبه إليها الباحثون عن اللذة ممن هم أقصر نظرا وأقل موهبة، عندئذ تبدأ الكثرة في التساؤل، فتراهم يتساءلون: أليست هناك ملذات تفضل ما لدينا؟ هل يمكن حقا أن يعني الفن والفكر ونشاط الذكاء والخيال والعلاقات الشخصية الدقيقة لهؤلاء الأفذاذ أكثر مما يعني سباق الخيل وسباق الزوارق، والصيد، وكرة القدم، والسينما والويسكي؟ سوف يتبين ذات يوم مشهود وبغير لبس أو غموض أن ألوان النشاط الأولى تعني فعلا أكثر مما تعني ألوان النشاط الثانية، وإن هناك من الناس من يستطيع الثانية، ولكنه يؤثر الأولى. ويدعونا ذلك إلى التفكير. وقد يظهر بين الحين والحين من الهمجيين من يمعن في البحث والتساؤل. فيساوره الشك والقلق إزاء تلك الملذات الواضحة التي كان يسلم دائما بتفوقها. فهل لا يمكن أن تكون الملذات التي لا يسهل اكتسابها أفضل في السعي وراءها؟ فيهب عليه عبق المدنية خفيفا، كما تهب أحيانا رائحة الحشيش الجاف ذات مساء صائف في أخريات شهر يونية على الأحياء الفقيرة في الضواحي؛ فيشتم في هذا العبق بصورة غامضة رائحة طيبة - أو على الأقل رائحة تفضل ما كان يهب عليه من قبل - وإذ هو يخترق الميدان العام الذي عبره من قبل ألف مرة يفاجئه إحساس بالسعادة لا يستطيع تفسيره، ويجد نفسه وقد وقف يحدق في نافورة جميلة، وشعر بالخجل لهذا الذهول الذي أصابه. وقد يحدث بعد ذلك أي شيء، وقد يغلبه شعور مفاجئ بالرضى حينما يكتشف تناقضا في الصحيفة التي كان يقرؤها حتى ذلك الحين مبجلا لما تحتويه غير ناقد لما فيها، وعلى ناصية إحدى الطرقات قد يستمع إلى خطيب يستنكر بشدة قيام حكومة أجنبية بعمل فشلت حكومته هو في أدائه ليجد في هذا الاستنكار تسلية أكثر مما يجد فيه إحقاقا للحق، وقد يتبين له بغتة أن ما صرح ببطلانه أو بمنافاته للأخلاق أحد الأساقفة أو القضاة لا يقوم على أساس؛ فيجد هذا الهمجي ذات يوم - من أثر المباغتة السارة - أنه يسخر مع بوكاشيو من الرهبان.
ويبدو لي أن الرأي القائل بأن الطبقة المتفرغة وحدها هي التي تتولد عنها فئة ممتازة متفوقة في المدنية وناشرة لها، يبدو لي أن هذا الرأي تؤيده الحجج الدامغة ويتمخض عنه التاريخ؛ ففي أثينا وفلورنسة وفرنسا في القرن الثامن عشر كانت هناك طبقة دنيا مأجورة تقوم بالعمل الوضيع، والظاهر أن محبي الإنسانية ينسون أن الثقافة الأثينية كان يعولها العبيد؛ بيد أن من يريد أن يكشف الظروف الضرورية لقيام المدنية يجب ألا ينسى، ويجب أن يذكر أن ثلثي - إن لم يكن ثلاثة أرباع - السكان في إتكا كانوا عبيدا، ويجب ألا ينسى أن القبيادس كان استثناء. كانت في أثينا قلة من الأغنياء، وليس هناك تنافر بين المدنية والاشتراكية: إن الدولة الاشتراكية إن أرادت أن تتمدن لا بد لها من أن تعول طبقة عاطلة عن العمل كوسيلة من وسائل الخير، كما لا بد لها أن تعول المدارس والمعامل، والسؤال الوحيد هو كيف ننتقي هذه الطبقة. إنها في الوقت الحاضر تختار بالوراثة، وهو نظام فيه إسراف شديد. ليس هناك ما يدعونا إلى الفرض بأن أبناء الأغنياء أفذاذ في الذكاء والحساسية، والواقع أن نسبة الطبقة المتفرغة الحالية التي يمكن وصفها «بالتفوق في المدنية» ضئيلة إلى حد بعيد. إن إنجلترا الحديثة تعول جمهورا من العاطلين ليس من بينهم عدد من الرجال والنساء المتفوقين في المدنية يمكن أن تتألف منه نواة تمدين. ومن الواضح أن مثل هذا النظام غير اقتصادي، ونستطيع أن نفترض - دون أن يكون تفاؤلنا في غير موضعه - أن المستقبل يمكنه أن يبتكر طريقة من الطرق تستبعد من الطبقة المتفرغة على الأقل ثلثي أولئك الذين تحمل أسماؤهم أسمى الألقاب والذين تتحلى بصورهم المجلات الأسبوعية، وأعتقد أنا نستطيع أن نخفض تكاليف الإنفاق على نواة العاطلين إلى حد كبير دون أن نضحي بما هو أثمن من آسكت وكاوز، وليس من شأني هنا أن أرسم الوسيلة لذلك؛ فالمشروعات في ذهن كل فرد، ونستطيع أن نقول كلمة عن امتحانات المسابقة، نستطيع أن ننقل إلى الطبقة المتفرغة التي تنفق عليها الدولة أوائل الطلبة والطالبات في مدارس الدولة كل عام، وإن كنت مثل تعتقد أن من المهم أن يبدأ إعداد أبناء الطبقة الممتازة منذ ميلادهم، فليكن الاختيار بالاقتراع. إنك لو اخترت الطفل الذي يكون ترتيبه الألفين بين أقرانه وجعلته عضوا، فإنك سوف تحقق بالتأكيد نتيجة تفضل ما تحققه من النظام الحاضر ، وأذكر كذلك أنه ليس من الضروري أن يكون العاطلون عن العمل جميعا الذين يقع عليهم اختيارك من الطبقة الرفيعة؛ غير أنه من الضروري أن تكون النسبة المختارة كافية؛ فإن أية طريقة تسلكها لا بد أن تؤدي بك إلى أفراد يثبت فيهم سوء الاختيار؛ بيد أن ذلك ليس بأمر ذي بال؛ فالعدد مهما انخفض لا يؤثر في الهدف الأساسي، وهو أن تكون هناك طبقة من الرجال والنساء الذين لا يطلب منهم شيء ما - حتى أن يبرروا وجودهم؛ ذلك لأن كثيرا من أصحاب الفضل على الإنسانية، وأكثر كبار الفنانين والمفكرين، وأكثر المبشرين بالمدنية ممن لا تذكر أسماؤهم من غير شك، أكثر هؤلاء لم يبرروا وجودهم في أعين أغلب معاصريهم. إن عصرهم لم يستطع - على وجه العموم - أن يقدر خدماتهم، ولم يمكنهم من البقاء سوى وجود طبقة متفرغة كانوا ينتمون إليها أو وجدوا من بين أفرادها من يرعاهم، ومن ثم كان وجود طبقة متفرغة مستقلة تمام الاستقلال ليس عليها أي التزام، الشرط الأول، لا للمدنية فحسب، ولكن لأي مجتمع له نوع من الكرامة. إن أعلى الأمور قيمة وأشدها مشقة لا يؤدي بالإرغام، بل ولا يؤدي بدافع من الإحساس بالواجب، ولكنك إن خلقت طبقة لا تتطلب منها شيئا، فكن على يقين أنه سيخرج من بينها أولئك الذين يقدمون لنا الكثير.
وأرجو ألا تحسب تلك الفئة التي تتقاضى أجورا مرتفعة من هذه الطبقة المتفرغة، فإن أولئك الذين يكسبون الألوف العديدة من الأموال كل عام عن طريق تجارتهم أو مهنتهم أو خدماتهم، لا يفضلون في شيء العبيد الذين تغدق عليهم الأجور، وهنالك بطبيعة الحال لهذه القاعدة استثناء، ولكن هؤلاء الذين يشذون عن القاعدة يصبحون - عادة - بطبيعة حياتهم عاجزين عن بلوغ كمال المدنية شأنهم في ذلك شأن العامل اليدوي الذي يعجز كذلك بطبيعة عمله، والواقع أنه إذا ما أمسى من أولئك الذين يطلق عليهم «قادة الصناعة» أو «كبار مستخدمي العمال» فإنه كسيد يكون أقل مكانة من الرجل العادي. لأن مستخدم العمال والصانع الكبير، بل والصانع الصغير، يميل - في هذا الشأن - إلى اكتساب شهوة الحكم، والاعتقاد في النجاح كمعيار للقيم، وإحساس بأهمية ما يقوم به من عمل، مما يباعد بصفة خاصة بينه وبين التفكير الواضح والشعور الدقيق، ومن ظريف التعليقات على التفكير السياسي الحديث أننا نميز في فرض الضريبة بين الدخل المكتسب والمال غير المكتسب، ونؤثر الأول في المعاملة. إن الرجل الذي يكتسب ماله يستعمله عادة وسيلة للاستزادة منه، ووسيلة للنفوذ، والاعتبار، والتظاهر، والملذات الحيوانية والمتع البربرية. يجب أن تبحث عن تلك الطبقة المتفرغة التي تستخدم المال وسيلة للخير بين أولئك الذين يتناولون دخلا غير مكتسب. إن الرجل الذي يكسب المال يميل إلى الجمود، وقسوة القلب، وضيق الأفق، وانقباض النفس. إنه يتمسك بما يحصل عليه في عنوة وشراسة، ولا يكف عن محاولة الاستزادة. إن أكثر نظريات الحرية والاشتراكية والثورة صدرت عن الرجال المتفرغين، بل عنهم كذلك صدر ذلك التشكك في حق الفرد في الملكية أو النفوذ الذي يكاد اليوم أن يكون صفة من صفات الثقافة. وقلما يكون للدخل المكتسب أي نفع كبير لغير صاحبه - وهو كذلك كرأس مال مجرد في يد الدولة. في حين أن جانبا كبيرا من الدخل غير المكتسب كان دائما يخصص لعول أولئك الذين يقدمون للبشرية أكبر الفوائد من عملهم الذي لا يعود عليهم بالربح الوافر؛ فإذا كان المبدأ الأساسي في فرض الضرائب هو امتصاص دخل الطبقة المتفرغة لمصلحة كاسبي الأجور - صغارا كانوا أو كبارا - فإنما يدل ذلك على أن العصر ناقص المدنية.
يشير رينان في مقال شهير له - بما يدلي من أسباب مقنعة كعادته - إلى أن الوظيفة الحقيقية للطبقة المتفرغة هي أن تبتعد عن مجرى الأمور وتكرس نفسها للاحتفاظ بالمعايير السليمة وذلك بتضحيتهم بالنافع في سبيل الحسن، وبمحافظتهم على كرامة ما في الحياة من أمور رقيقة عسيرة المنال. الطبقة المتفرغة التي تشب على عادة الاستقلال، هي في رأيه شرط ملازم للمدنية، وإني بطبيعة الحال إلى هذا الحد أتفق معه؛ غير أنه في رأيي لا يقف على أرض صلبة حينما يخلص من ذلك - تلميحا لا تصريحا - إلى أن الطبقة المتفرغة - إن كان لا بد من بقائها - يجب أن تحكم، ولست أرى لذلك ضرورة، بل على العكس من ذلك يبدو لي من العسير إن لم يكن من المستحيل لأي إنسان يشغله السلطان مباشرة وبدرجة قصوى أن يكون كامل المدنية. أليس من تناقض العبارة أن نقول: «الطبقة الحاكمة المتفرغة»؟ إني أرجح إن ما كان بذهن رينان أرستقراطية تنقسم قسمين: طبقة متفرغة وطبقة حاكمة، تنشآن على تقاليد واحدة، وتختلطان في كل موقف من المواقف، وليس من شك في أن هذه الطبقة تؤدي إلى المدنية، فهي تمهد السبيل لقيام طبقة متفرغة وأخرى حاكمة تعطف عليها. وقد كانت فرنسا تقوم على هذا النظام خلال المائة وثلاثين عاما من مدنيتها العالية - بالرغم من أن لويس الرابع عشر قد استمد أكثر رجال إدارته من طبقة لم تكن نبيلة اصطلاحا. ويمكننا بسهولة أن نقسم الأرستقراطية إلى طبقة عاملة وطبقة مفكرة. والطبقة الأخيرة هي التي تمدنا بالمدنية، وأما الأولى فتمدنا بالحكومة. بيد أنه مما يفتقر إلى إثبات أن يكون الأرستقراط العاملون خير الحكام - ولست أقطع في هذا برأي يؤيد أن يعارض، ومن الواضح أنه يجدر بالفئة التي تنشر المدنية ألا تكون لها كلمة في الحكم ما دامت السلطة - كما رأينا - يحتمل أن تعبث بقدرات المرء الدقيقة. وهناك من ناحية أخرى خطر ارتآه رينان من أنه ما لم يكن للحكام تقاليد ومعتقدات وتعاطف ومصالح مادية يشتركون فيها مع ناشري المدنية، فإن الإنسان بحقده وغبائه - وفي ثورته على هذا الاعتراف العام المكلف بالتفرقة بين الناس - يرفض أن يقيم أود الطبقة المتفرغة، فيسمح للمجتمع أن ينزلق إلى الهمجية التي يتساوى فيها الجمع وبحكم فيها الجميع، ومن ثم ينشأ هذا السؤال: أي أنواع الحكم أكثر ملاءمة للمدنية؟ وهو سؤال تكاد أن تستحيل إجابته.
إن أي نظام للحكم قد يكون ملائما بشرط أن يمد عددا كافيا من الأطفال بالتعليم الحر الكامل من جميع الوجوه، وبشرط الإنفاق على هؤلاء الأطفال طوال حياتهم، وأن تضمن لهم دخلا يكفي حاجاتهم الثقافية، وبشرط - قبل كل شيء آخر - ألا تطلب إليهم أداء أي عمل. إن القول بأن ما نسميه: «النظم الحرة» ضروري للمدنية، قول يناقضه العقل والتاريخ؛ فإننا نعلم أن مدنية النهضة قد أينعت وأثمرت في عصر الطغاة - ولست في حاجة إلى أن أذكر في هذا الصدد شيئا عن الشرق - عن الصين والفرس - فقد اتفقت معكم على ألا أذكر عنهما شيئا؛ لأن «العجز السياسي» - كما يلاحظ بركهارت بحكمة في كتاباته عن الطغاة الطليان - «لا يعوق الميول المختلفة ومظاهر الحياة الخاصة عن الانتعاش بأقصى درجة من القوة والتنوع»،
अज्ञात पृष्ठ