هذه العقيدة الملحة - التي تختفي كثيرا وتتستر أحيانا - بأن المدنية أمر تشتد رغبتنا فيه، هذه العقيدة ربما كانت خير ما لدينا من سبب يدعونا إلى افتراض أن المدنية شيء محبب إلى النفوس. وكل من يريد لذلك سندا من الفلسفة يستطيع أن يلتمس هذا السند. فإن فلاسفة الأخلاق يقولون له إنه ينبغي له أن يرغب في المدنية؛ إذ يبدو أن الفلاسفة على اتفاق تام بأنه ليس هناك ما هو خير في حد ذاته سوى بعض حالات العقل التي تبرز من بينها حالات الخلق والتأمل والتدبر والمحبة، ومن المؤكد أن المدنية لا تقوم بما يعوق الخلق الفني، والفنانون يظهرون في المجتمعات المتمدنة كما يظهرون في المجتمعات المتوحشة، والجو الذي يبلغ فيه التكلف أقصاه قد يكون خانقا لأحد الفنانين، ولكنه لغيره مجال للتنفس. إن نظرة إلى التاريخ تقنع كل من يستطيع قراءته أنه ليست هناك علاقة معينة بين الإنتاج الفني لعصر من العصور، كما وكيفا (وإن كنت لا أقصد الوصف السطحي) وبين درجة حضارة هذا العصر، وإذا كانت المدنية أقل ملاءمة لنشوة العقيدة التي لا تستند إلى عقل، فهي - على الأقل - لا تقاومها مقاومة إيجابية، فهي لا تمنح ولا تضطهد؛ في حين أنها تشجع المتع النفسية الأخرى التي يحسها أولئك الذين يكرسون حياتهم للعلم، والفلاسفة المتفكرون، وعلماء الرياضة، ورجال البحث، وكل باحث وكل مفكر - وليس ذلك فحسب، بل إن المدنية كثيرا ما تكون وحدها العامل الذي يجعل هذه المتعة ممكنة. أما حالات التقدير والتأمل، فهي من صميمها - وكذلك العلاقات الشخصية. ولا ينكر في الواقع أن الرجل المتمدن الذي يبحث عن المتعة الفائقة، هو بطبيعته - ولا بد له أن يكون كذلك - هاو لحالات عقلية رائعة؛ ومن ثم فليباركه أساتذة الأخلاق.
ولكن المذاهب الأخلاقية عقيمة في أحسن حالاتها، وميل الأساتذة للخلط بين الأخلاق وقواعد العرف كثيرا ما تجعلهم جماعة منفردة، بيد أنا في ثورة غضب ضد هذه الجماعة ننادي بحرارة بأن أشور بانيبال كان محقا في أنكيال
1
حينما نقش هذه العبارة التي استرعت نظر أرستوبولوس
2 «كلوا، واشربوا ... والعبوا. فإن ما خلا ذلك لا يساوي قلامة ظفر». بيد أن أشوربانيال كان مخطئا، وسرعان ما تصبح الحياة التي يوصي بها مملة كالحياة المثالية التي يوصي بها الأخلاقي المحترف؛ فإن الإنسان الذكي لن يقنع طويلا بالملذات الحيوانية، وإنما هو يضع لذة العقل والعاطفة في المقدمة ثم يضع الملذات الحسية في المؤخرة، فتكون أساسا خلقيا فاتنا، وهذا هو المكان الذي تعينه لها المدنية على وجه التحديد.
أما لماذا يرغب الناس في المدنية فسؤال آخر يجدر بي أن أجيب عنه؛ ما هو الدافع الذي يخرج عددا معينا من المتوحشين عن حالتهم الطبيعية التي تسودها الخرافة وغريزة القطيع إلى حالة التأمل والفردية؟ ليجب عن هذا السؤال أولئك الذين يعرفون أنه لا بد أن يكون الباعث على هذا الإخراج دافعا من الدوافع، ولا يدهشني إذا اكتشفوا ذات يوم أن هذا الدافع الفريد لم يكن شيئا أفضل مما عرف عنا من تذوق للذة المجردة، ومهما يكن من أمر فمن الممكن أن يرى الباحث أن المدنية كانت نتيجة لهذه الرغبة العامة؛ لأنك لا تنكر أن أنبل رجل متوحش محروم من كثير من ملذاتنا بسبب الخوف والجهل، سواء شاطرت هوبز الرأي أو لم تشاطره بأن حياة الرجل الطبيعي قذرة وحشية قصيرة. الرجل المتوحش لا يستمتع البتة بأية متعة من المتع التي يستمدها المرء من حرية التفكير، وقلما يستمتع بالمتع التي تتولد عن الذوق، وليس من شك في أنه يستمد متعة من فنون النحت والنسيج عنده، وليس من شك في أنه ينعم بنوع من أنواع الموسيقى - وكل ذلك مما نقدره نحن أيضا. ولكنك لو عرضت على أنبل المتوحشين مسرحية لأرستوفان أو شيكسبير أو راسين، أو فن الفسيفساء البيزنطي، أو بوسان، أو الموسيقى الحديثة أو السمفوني ، أو حوارا دقيقا، أو حديثا فكها ينم عن ذكاء، أو غزلا معقدا، إن أنت فعلت ذلك، اعترفت فما أظن - بأن ضعف الثقافة يحرمه من ملذات اكتسبنا تذوق الاستمتاع بها. يقول ماك كويدي: «المتوحش لا يضحك مطلقا»، وإني أعتقد أن ماك كويدي مخطئ، ولكني أتصور أن المتوحش قلما يبتسم. إنه يفتح فاه ولا يرفع قط كتفا أو حاجبا وليس للمتع الذهنية أو الظلال الدقيقة للعاطفة معنى لديه. ملذاته محدودة تسير على وتيرة واحدة، وكم من الآلام يحتمل مما هو ضروري وغير ضروري؛ ذلك لأن أقوى أسباب الألم، وألد أعداء المتعة هو الخرافة والجهل والعاطفة التي لا سلطان لصاحبها عليها - وتلك هي مميزات الهمجية الأساسية. إن الرجل الكاثوليكي الحديث، قد يكون بدينا نهما يتناول اللحم والنبيذ، ويمتلئ قلبه بالحقد، ثم يجعجع قائلا إنه سعيد وإنه مؤمن؛ بيد أنه برغم هذا لا يعتقد فعلا في الخرافة، وهو في ذلك يختلف عن الرجل الهمجي. إن كان سعيدا فذلك لأنه يعتقد صادقا في أمور قليلة سوى قدرته على الهضم، ولولا ما تقدمه له المدنية في الوقت الحاضر من أمن وعلم، ما طال اعتقاده في هذه القدرة. إن عقيدته لم تبلغ بها الحرارة أن يدرك ما هو الفزع الخرافي، ولكن الفلاح في العصور الوسطى الذي كان يؤمن بأنه بمتابعة ميوله يسير رأسا إلى الجحيم المقيم، والرجل الهمجي الذي يعيش خائفا من أن يقرب المحرمات - هؤلاء يعرفون الفزع، ويقضون شطرا كبيرا من حياتهم في ألم واضطراب نفساني، وتستطيع المدنية أن تنقذهم بأن تبين لهم أن الحياة شيء يستمتع به المرء، ثم تبين لهم بعد ذلك كيف يستمتعون بها، وذلك بأن تخرجهم عن اعتزازهم بنعمة الامتلاء والرضا بالراحة وبغض كل ما عداها - إن كان بهم أدنى ميل إلى الملذات الدقيقة، كما تظهرهم المدنية كذلك على عالم من الآراء يكتشفونه ومن العواطف يحسونه. المدنية - كالشيطان - تظهر المرء على كل ممالك العالم - عالم الروح - في لحظة من الزمان، وتدفعه إلى امتلاكها، وربما - بعد هذا كله - كان ذلك الدافع الخفي الذي كنا نبحث عنه هو الشيطان - الذي عرف في بلاد أخرى وعصور أخرى باسم بروميثيوس.
ومهما يكن من أمر، فأنا على يقين، من أن كل امرئ قادر على فهم هذا التعبير إذا خلص في الإجابة عن هذا السؤال: هل أريد المدنية؟ لم يجد مفرا من الاعتراف بأنه يريدها (ولكن كم من الناس يستطيع الإدراك؟)، وأنا أعرف كذلك أن الفلاسفة يقولون له أنه من الواجب عليه أن يريدها؛ غير أنه فوق علمي أن أعرف إن كانت الأكثرية قد أرادت المدنية أو سوف تريدها. أكثر الناس يريد اللذة، ولكنها لا تطيق بعد النظر، والمدنية ليست بالطريق الواضح. إن الهمجي الذي أخذ الأرنب إلى بيته وطهاه كان رجلا شاذا، ومن حسن حظي أنه ليس من شأني أن أحمل الأكثرية على التنبؤ بالمستقبل، ولكن ما دمت قد حاولت أن أفسر ما عنيت بالمدنية، وما دام ذلك غاية أرمي إليها، فسوف أسمح لنفسي بالإشارة إلى الوسائل. سوف أرسم صورة عامة للأداة التي يستطيع بها الناس أن يخلقوا المدنية، إن كانت المدنية ما يريده الناس.
الشعب المتمدن، الذي يتميز عن تلك النواة التي تضفي عليه المدنية، يتألف من رجال ونساء يتخذ الجانب الأكبر منهم موقفا فيه شيء من النقد للحياة، ويتصف بتذوق بدائي للتفوق والامتياز. إنه يحاول بصورة غير مهذبة - وإن تكن واعية - أن يدرب نفسه على استغلال قوى التفكير والشعور التي يمتلكها أكبر استغلال. وقد اكتشف أهل إسبرطة أن مجتمعا بأسره - أو على الأصح الجانب الحر من هذا المجتمع - يمكن أن يدرب نفسه على القتال، وكان الأثينيون - على قدر ما وصل إلينا من علم - أول من دربوا أنفسهم، عامدين، على تقدير الحياة. هذا التدريب المقصود الواعي بنفسه صفة مميزة من صفات المدنية. وما يترتب عليه من استمتاع، تلك الحالات العقلية الطيبة التي تنجم عنه، هو الغاية التي تعتبر المدنية إحدى وسائلها. وأقول: «إحدى الوسائل» لأن المدنية وإن كانت أخصب ما نعرف من وسائل إلا أنها ليست الوسيلة الوحيدة للخير، وهذه الوسيلة - التي تؤدي على الأرجح إلى الخير - التي استطاعت فطنة الإنسان (حتى الآن) أن تبدعها - كما رأينا - ليست سوى ذلك اللون الذي تضفيه على المجتمع نواة قوية - وإن تكن صغيرة - من الأفراد الضالعين في المدنية. ومن ثم فإن الجماعة التي تريد أن تمدن نفسها لا بد أن تكتشف أولا - ثم تنشئ ثانيا - تلك الظروف التي تلائم إنتاج الممدنين.
لا يستطيع
3
अज्ञात पृष्ठ