माकुल और ना माकुल हमारी बौद्धिक परंपरा में
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
शैलियों
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ، إن السامع ليستيقظ وعيه عند ذكر «الحقيقة النظرية» الأولى، فيوشك أن تأخذه الحيرة مما قد يبدو له فيها من تناقض؛ فكيف لإنسان أن يحمل التوراة ولا يحملها في وقت واحد؟ فما هو إلا أن تسارع إلى ذهنه «الصورة» التي يمكن حسها من دنيا الخبرة اليومية المباشرة، وهي صورة الحمار يحمل أسفارا، فالحمار يحمل هذه الأسفار التي هي أوعية العلوم ومستودع ثمر العقول، ثم لا يحس بما فيها ولا يشعر بمضمونها، ولا يفرق بينها وبين سائر الأحمال التي ليست من العلم في شيء، ها هنا يرى رؤية العين كيف يحمل الحمار الأسفار ولا يحملها؛ لأنه يحملها من حيث هي أثقال ولا يحملها من حيث هي معرفة، وعندئذ يسطع ضوء الوضوح على الحقيقة الأولى التي كانت مثار حيرة وتساؤل.
لكن سؤالا ينشأ، يثيره الجرجاني، وهو لا بد مثار عند من يطرح هذا الموضوع للنظر، ويجيب الجرجاني عن السؤال بما لا بد أن يجيب به الناقد النافذ البصيرة في حقيقة الفن ما هي؟ لا اختلاف في ذلك بين الفنون، شعرا كان الفن أم صورة مرسومة أم تمثالا منحوتا في حجر أم نغما موسيقيا معزوفا، والسؤال هو: بماذا نفاضل بين «صورة» و«صورة»؟ هل تتساوى القيمة الفنية في ثمرتين من ثمرات فن بعينه، إذا كانت كل منهما قد توسلت إلى الحقيقة المراد عرضها بصورة محسوسة توازيها في طريقة التكوين؟ لا، هنالك بعد ذلك ما نفاضل به بين صورتين، وهنا تجب العناية في النظر، حتى لا يأخذنا الظن بأن المعول في المفاضلة هو «الكثرة» هناك و«القلة» هنا، دون النظر إلى وحدة التركيب؛ إذ لا بد من سريان الوحدة العضوية في الحالتين ليمكن حسبانهما من الفنون أولا، ثم بعد ذلك، وفي إطار هذه الوحدة العضوية المحتومة لأي عمل فني، نقارن بين كثرة التفصيلات في إحدى الثمرتين وقلتها في الأخرى.
ألا إن الجرجاني هنا ليهديه نفاذ البصيرة الفنية إلى أصل نقدي ليته رسخ في الأذهان أكثر مما رسخ، إذن لاسترحنا من أكداس مكدسة في «تراثنا» الأدبي، وفي «حاضرنا» الأدبي كذلك، مما يسري في الناس وكأنه فن وهو لا يزيد عن عبث العابثين، والأغلب أن يكون وجه النقص فقدان «الوحدة» التي تضم التفصيلات الكثيرة في كيان عضوي واحد.
وليس شرطا أن تجيء هذه التفصيلات إلى رؤية الرائي أو إلى سمع السامع دفعة واحدة، ومن لقطة حسية واحدة، بل إنها لتأتي تدريجا؛ فكل رؤية جديدة تكشف لنا في العمل الفني عن تفصيلات لم نكن قد كشفناها في الرؤية السابقة، ومن ثم جاءت خصوبة الأعمال الفنية الصادقة التي تزداد مع الأيام قيمة لأنها التفصيلات الكامنة في كيانها قد ازدادت انكشافا على توالي الناظرين والناقدين؛ يقول الجرجاني إنك «ترى بالنظر الأول الوصف على الجملة، ثم ترى التفصيل عند إعادة النظر ... وهكذا الحكم في السمع وغيره من الحواس؛ فإنك تتبين من تفاصيل الصوت - بأن يعاد عليك حتى تسمعه مرة ثانية - ما لم تتبينه بالسماع الأول، وتدرك من تفصيل طعم الذوق بأن تعيده على اللسان ما لم تعرفه في الذوقة الأولى، وبإدراك التفصيل يقع التفاضل بين راء وراء، وسامع وسامع» (ص138). وخلاصة القول أنه كلما كانت «الصورة» أخص في تفصيلاتها من «صورة» أخرى، كانت أجود من الناحية الفنية، وبالطبع تكون الوحدة العضوية بين تلك التفصيلات شرطا قائما في الحالتين، فالذي يصف سن الرمح بأنه «كالقبس الملتهب» أقل جودة من الذي يصفه بأنه «سنا لهب لم يتصل بدخان»؛ الوحدة مكفولة للصورة في كلتا الحالتين، لكن الصورة الثانية أغنى في تفصيلاتها، وتشبيهك صوتا معينا بصوت الحيوان مطلق الحيوان، أقل جودة من ذكرك نوعا بذاته من أنواع الحيوان، ووصفك شيئا بأنه أحمر، أقل جودة من أن تورد طيف الأحمر الذي تريده مجسدا في شيء نعرف نحن درجة احمراره، وهكذا.
الحق أنني بهذه الوقفة مع الجرجاني في كتابه «أسرار البلاغة» لا اقتصر على أني وقفت وقفة عقلية مع أحد الأعلام السابقين، بل أزيد على ذلك؛ لأني أستمد من هذا الرجل معيارا في تقويم الفن أستطيع أن أنشره اليوم على العالمين، أفليس مدعاة للحسرة أن يتخبط رجال النقد بيننا اليوم في نظريات نقدية نقلناها عن أصحابها، فهمنا بعضها ولم نفهم بعضها، لكننا في الحالتين نلوك عباراتها بصورة أوشكت بنا على الغثيان دون جدوى، في الوقت الذي نغمض أعيننا فيه عن ناقد كالجرجاني، يستخرج نظريته النقدية استخراجا حميما من جوف الأدب العربي ذاته، فيسهل عينا أخذ النظرية وتطبيقها معا؟!
43
وننتقل مع عبد القاهر الجرجاني إلى كتابه الثاني «دلائل الإعجاز»، وأول ما يستوقف نظرنا هنا - بعد صفحات كثيرة يخصصها للدفاع عن الشعر - تأكيده على وجوب أن يكون النقد الأدبي قائما على أساس موضوعي، أو بعبارة أخرى أن يكون وكأنه بالنسبة لأنماط الأدب التي ينقدها في موقف أي «علم» من العلوم بالنسبة إلى أنماط الظاهرة التي يختصها بالبحث، ها هنا كلام قدم مثله كاتب هذه الصفحات ذات يوم منذ أعوام طوال (انظر كتابي «قشور ولباب») فتصدى له من تصدى، قائلا إن عملية النقد تسلبه أخص خصائصه، وكانوا يعنون التذوق، وعندئذ خرجت عليهم بفكرة أشرح بها موقفي، قلت فيها إن للأدب قراءتين؛ قراءة أولى نعجب فيها - أو لا نعجب - بالقطعة التي نطالعها، ثم قراءة ثانية نحلل فيها تلك القطعة لنقع على العناصر التفصيلية التي لعلها أن تكون مثار الإعجاب أو مدعاة النفور، وما دمنا في هذه القراءة الثانية نحاول جمع الشواهد التي «تعلل» لنا ما قد أحسسنا به في القراءة الأولى، فنحن أقرب إلى النظرة العقلية العلمية منا إلى التذوق؛ لأن كل «تعليل» هو رد للنتائج إلى عللها، وبالتالي فهو عملية عقلية، فما هو إلا أن مرت على ذلك بضعة أعوام، وإذا بعجيبة من عجائب الحياة الثقافية المعاصرة في مصر تظهر في الأفق بلا حياء، وهي أن نسبت هذه الفكرة عينها، للرجل عينه الذي كان قد تصدى لكاتب هذه الصفحات أول الأمر بالمجادلة والمعارضة، ولماذا أخفي الأسماء؟ إنه الدكتور محمد مندور، ومات الدكتور مندور ونهض له مناصرون يبرزون أهم ما قد استحدثه في النقد الأدبي، فإذا بينه فكرة «القراءتين» هذه؛ قراءة أولى للتذوق، وقراءة ثانية للتحليل والتعليل!
لكن ما فائدة الندم على لبن مسكوب؟ لنمض في طريقنا، طاوين الصدر على ضروب من العنت والإهمال لقيناها، ولم يعد لنا قبل في هذه المرحلة من العمر أن نرد وأن نعترك، وإنما هي ذكرى أليمة تنزو بمناسبة ما نرويه عن الجرجاني، وكيف يحرص على أن يكون النقد قائما على أساس موضوعي، تعرف فيه العلل المعقولة لكل حكم نصدره، يقول: «لا بد لكل كلام تستحسنه ولفظ تستجيده من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل» (دلائل الإعجاز، ص33).
ويعود الجرجاني في هذا الكتاب ليؤكد ما كان قد قاله في كتاب «أسرار البلاغة» من أن المعول في الحكم بالجودة الفنية إنما هو «المعنى» لا مجرد النغم الحلو في جرس الألفاظ، ويسوق لنا مثلا آية قرآنية هي:
وقيل يا أرض ابلعي ماءك
अज्ञात पृष्ठ