माकुल और ना माकुल हमारी बौद्धिक परंपरा में
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
शैलियों
فبينما البصريون يدعون إلى «العقل» وما يصوغه من قواعد تنظم السير على طريق منهجي، جاء الكوفيون بدعوة مضادة، وهي أن يكون الحكم للسابقة، لا للقاعدة العقلية، فإذا وجدنا العرب الأقدمين يستخدمون لفظة أو عبارة بطريقة معينة، كانت هي النموذج الذي نحتذيه، ولا معنى لأن يقال لأصحاب اللغة وخالقيها: لقد أخطأتم هنا، وأصبتم هناك. بل إن ما قالوه، بالصورة التي قالوه بها، أيا كانت هذه الصورة، هو معيار الصواب الذي يقاس إليه كلام اللاحقين، والذي لا يخضع بدوره لمعيار آخر، والمعيار لا يقيس نفسه، وإنما يقيس ما عداه، فإذا تخيلنا سيبويه في البصرة ينادي ويردد النداء: العقل العقل، والقاعدة القاعدة، تخيلنا معه مناظره في الكوفة، «الكسائي» ينادي ويردد: السابقة السابقة، وكل سابقة هي أصل يقاس عليه، وليس بين السابقات ما يجوز أن يوصف بالشذوذ.
وهل يمكن أن تتعارض هاتان المدينتان هذا التعارض الفكري الشديد في كل ميدان، دون أن يكون لذلك علة من سياسة؟ فمن ذا الذي يعتز بكل قول قاله العرب الأقدمون، بحيث يجعله القاعدة التي يقاس عليها، إلا قوما أخذ الماضي بلبهم أخذا، وأرادوا أن يكونوا «عربا» قبل أن يكونوا أي شيء آخر؟ ثم من الذي يعتز بمقاييس العقل وحدها، حتى ليخطئ القدماء أنفسهم إذا ورد لهم قول لا يجري مع تلك المقاييس، إلا قوما ينزعون نحو ألا يكون ثمة فارق بين سابق ولاحق، أو بين قديم وحديث؟ فإذا جاز للقدماء أن يتحكموا في المحدثين، جاز كذلك لهؤلاء المحدثين أن يتحكموا بدورهم في القدماء. وأحسب أن من تشبث بأفضلية العرب الأقدمين على «المسلمين» المحدثين (فكل الأقدمين في مجال اللغة العربية هم من العرب، وأما المحدثون فهم مسلمون، عربا كانوا أو غير عرب) لا بد أن يكون منتميا إلى أرومة عربية خالصة، وأما من أراد إزالة الفوارق، فالأرجح أن يكون من أصول غير عربية، وهو نزاع بين هاتين الفئتين اشتد واتسع حتى أصبح ظاهرة لا يخطئها البصر في تاريخ تلك الفترة من حياة الأسلاف، وقد نفيض فيها القول بعض الشيء في موضع مناسب من هذا الكتاب، ولو أنها بحكم ما يطبعها من عصبية تندرج في الجانب «اللاعقلي» من التراث، وإنما جعلنا هدفنا الرئيسي هو الجانب «العقلي» من الطريق، فلا نورد اللاعقلي - إذا أوردناه - إلا ليزداد الضوء على المرئي فيزداد وضوحا للرائي.
الفصل الرابع
مصباح العقل يشتد توهجه
19
هذه هي الوقفة الثالثة؛ نقفها على الطريق في رحلتنا الثقافية التي نرود بها دولة «العقل» في مظانها وعلى رءوس أعلامها، فنختار لأنفسنا أبراجا للرؤية كلما لحظنا جمعا من الناس اجتمع على مسألة عقلية أو مسائل، غاضين الأنظار - عامدين - عن زواحف «اللاعقل» وهي تسعى، اللهم إلا أن نلحظ حركة لا عقلية تعترض طريقنا بحيث لا نستطيع رؤية العقل وهو يعمل إلا من ثناياها، فعندئذ نقف عندها لحظة لنفهم الدوافع والأهداف، ثم نمضي في سبيلنا، وإنه لطالما حدث - عند أسلافنا وغير أسلافنا - أن نبت نبات العقل في تربة من اللامعقول؟ ولقد رأينا كيف أثمر لنا سفك الدماء عند البصرة وعند صفين بذورا سرعان ما أنبتت أفكارا عقلية في مسائل سياسية كالتي رأيناها عند الخوارج، وفي مسائل فلسفية كالتي رأيناها في أوائل المعتزلة، بل أنبتت بحوثا عقلية مستفيضة في اللغة وقواعدها، وفي الشعر وبحوره.
ولقد اخترنا لوقفتنا الثالثة هذه مدينة بغداد من القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري)، لكننا لا نكاد ننطق بهذا الاسم اللامع في تاريخ العقل العربي، حتى نسأل: وما بغداد؟ ثم لا نكاد نأخذ في القراءة عن قصة نشأتها بأمر من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، حتى ينشأ سؤال وراء السؤال الأول عن هذه الخلافة العباسية نفسها؛ كيف جاءت؟ ولولا أن الأمر في هذا وفي ذاك وثيق الصلة بجذور فكرية، لما جعلناه موضع اهتمامنا هنا؛ لأن الأمر كان عندئذ ليصبح من شأن التاريخ وحده، ولست - كما قلت في موضع سابق - مؤرخا، لكني في هذا الكتاب «مثقف» عام من أبناء القرن العشرين، أراد أن يطل إطلالات متفرقة على الحياة العقلية عند أسلافنا؛ لعل هذه الإطلالات أن تنتهي بنا إلى طابع أصيل مشترك، فيكون هو ما يؤخذ من التراث الفكري، كلما أردنا أن نطعم حياتنا نحن الفكرية بما يجعلها «عربية» إلى جانب كونها مسايرة لعصرها الحاضر.
كانت الخلافة قد أفلتت من أيدي علي وبنيه، إلى حيث استقرت حينا في الأسرة الأموية، بادئة بمعاوية، لكن ذلك لم يمنع أن تظل هناك جماعات من الناس، تتمنى لو عادت الخلافة إلى أصحابها من أحفاد علي، على اختلاف بينهم فيمن يكون أحق من سواه بين هؤلاء الأحفاد، ثم ما هي إلا أن نشأت فكرة أخرى، وهي أن تكون الخلافة في بني هاشم، دون أن يكون الأمر في هذا مقصورا على علي وأسرته، فمن ذا يكون إلا أبناء العباس بن عبد المطلب، عم النبي عليه السلام، ولم يلبث أصحاب هذه الفكرة أن اختاروا أحد هؤلاء، وفوتح هذا في اختياره وصادف الأمر في نفسه هوى، لكنه أراد أن يتريث حتى يخطو خطواته على أرض ثابتة؛ إذ لم يكن نقل السلطان من بيت بني أمية إلى غيره مما يتم بين يوم وليلة، ولا كان ذلك مما تؤمن عواقبه لو حدث في ضوء النهار، وإذن فلا بد من التمهيد للانقلاب بالدعاية التي تجري تحت جنح الظلام - لو أمكن استخدام هذه الألفاظ العصرية للفترة القديمة التي نتحدث عنها - ومن هنا أخذت هذه الجماعة تدبر أمرها بتكوين ما قد يسمى في يومنا «بالخلايا السرية» لبث الدعوة إلى أبناء العباس بين الناس، ورسمت الخطة لهؤلاء الدعاة، بأن يدعوا إلى ولاية أهل البيت - دون أن يذكروا اسما معينا؛ حتى لا يكون صاحب الاسم موضع نقمة الحاكمين من البيت الأموي.
وبدأت هذه الحركة السرية في موطنين، ظن - بحق - أنهما أصلح المواطن للدعوة وهي في نشأتها الأولى، وهما الكوفة وإقليم خراسان؛ لماذا؟ لأن الكوفة معروفة بولائها لآل البيت، ولأن خراسان كانت فيما يبدو تعج بالشكوى الخافتة مما كان يلقاه الموالي - وهم الفرس المسلمون - من ذل على أيدي الأمويين، فالأمويون كما نعرف عرب خلص، أرادوا أن تكون للعرب السيادة على غيرهم، حتى لو كان غيرهم من المسلمين، وهذا معناه بعبارة أخرى - وهو المعنى الذي يهمنا نحن من الناحية الفكرية - أن تحالف السياسة مع الثقافة لاتفاقهما في الهدف؛ فمن الناحية السياسية كان هناك حزبان يقتتلان على الحكم؛ أحدهما يرى حصر الحكم في أهل البيت وحدهم دون سواهم، فإذا لم يكن علي كان أحد أبنائه، أو فليكن العباس عم النبي
صلى الله عليه وسلم
अज्ञात पृष्ठ