माकुल और ना माकुल हमारी बौद्धिक परंपरा में

ज़ाकी नजीब महमूद d. 1414 AH
121

माकुल और ना माकुल हमारी बौद्धिक परंपरा में

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

शैलियों

لقد سار الإنسان في محاولته أن يتصور العالم من حيث هو كل واحد، مدفوعا بدافعين مختلفين كل الاختلاف، وقد يتلاقى هذان الدافعان معا في إنسان واحد، وقد لا يتلاقيان؛ فأولهما هو الذي يحفز الإنسان إلى النظر إلى الوجود نظرة المتصوف، وأما الثاني فيحفزه إلى النظر بوسيلة العقل نظرة العلماء. ولقد استطاع نفر أن يبلغوا قمة العبقرية بالدافع الأول وحده، كما استطاع نفر آخر بلوغ تلك القمة بالدافع الثاني وحده، لكن لعل أعظمهم جميعا هم أولئك الذين اجتمعت لهم عناصر المعرفة العقلية وعناصر الإدراك الصوفي في آن معا، وقد يكون أفلاطون مثلا جيدا لمثل هذا الالتقاء بين الجانبين، وإنما يتحقق هذا الالتقاء حين يريك العقل حقيقة ما عن الوجود، فإذا بوجدانك الحاد المتدفق الغزير يضرب بك، في تلك الحقيقة نفسها التي رأيتها رؤية عقلية، إلى أعمق جذورها؛ فالعلم أو العقل هو الشعلة التي تضيء مراحل الطريق بداية ووسطا ونهاية، أما الوجدان - أو قل التصوف - فهو الذي يغوص بك إلى الأعماق، ولقد اجتمعت عند أفلاطون - وعند غيره - رؤية السطح والأعماق معا، وعندما نكون - مع العقل ومنطقه - على الأسطح الظاهرة، لا يجتمع نقيضان في شيء واحد وفي لحظة واحدة ومن جهة واحدة؛ فإما أن يكون الشيء موجودا أو غير موجود، موصوفا بالصفة الفلانية أو غير موصوف، وأما حين نغوص في الأغوار مع الوجدان، فعندئذ لا يكون على الإنسان من حرج أن يقرر النقيضين معا؛ فالشيء المعين هو كذا وليس بكذا في آن واحد، كالذي يقوله هرقليطس (وهو ممن اجتمعت فيهم نظرة العقل ورؤية الوجدان معا) حين يقول: «إننا نخطو في النهر نفسه ولا نخطو. إننا موجودون (في اللحظة ذاتها) وغير موجودين.» فتلك هي لغة التصوف، وليلحظ معي القارئ أن لهرقليطس هذا عبارة أخرى أكثر شهرة، تدل على نظرة العقل بلغة العلم، وهي التي قال فيها: «إنك لا تستطيع أن تخطو في النهر نفسه مرتين؛ لأن تيار الماء المتجدد لا ينفك دافقا.» ولقد أصاب ابن تيمية حين قال عن المتصوفة القائلين بوحدة الوجود إنسانا وإلها: «... هؤلاء الاتحاديون يجمعون بين النفي والإثبات، كما يقول ابن سبعين: «عين ما ترى ذات لا ترى ...» ونحو ذلك؛ لأن مذهبهم مستلزم الجمع بين النقيضين» (حقيقة مذهب الاتحاديين لابن تيمية).

ليعذرنا القارئ إذا أطلنا الوقوف هنا عند التصوف وخصائصه بالقياس إلى العقل ومنطقه؛ لأن في التفرقة بينهما مفتاحا ينفتح لنا به أفق فسيح لا نخلط فيه بين معقول ولامعقول، حتى إذا ما أمسك القارئ بهذا المفتاح وقرأ فصولنا التالية عن اللامعقول في تراثنا، أدرك الأساس الذي أقمنا عليه وجهة النظر.

فهنالك خصائص أربعة تتميز بها رؤية الصوفي للوجود، وتختلف على أساسها تلك الرؤية عما تقتضيه النظرة العلمية إلى ذلك الوجود:

أما الخاصة الأولى، فقد أشرنا إليها فيما أسلفناه، وهي اعتقاد الصوفي في «الحدس» وسيلة للإدراك، وذلك في مقابل المعرفة الاستدلالية التحليلية، التي هي المعرفة العلمية؛ أعني أن الصوفي يعتمد على رؤية للحق تأتي إليه بغتة، وهي تأتي نافذة إلى أعمق الأعماق الخافية وراء الظواهر البادية للحواس، ثم هي إذ تأتي إنما تفرض نفسها على صاحبها فرضا بحيث لا يكون له قبل بردها أو بالتشكك في صدقها، ولك أن تقيس هذا كله إلى السير المتمهل البطيء الذي يخطو به العقل وهو على حذر، كلما تناول موضوعا بالدراسة، وإنها لدراسة - مع هذا التمهل الحذر - معرضة للخطأ ولا تضمن لصاحبها اليقين، ثم هي فوق هذا دراسة تقف عند الظواهر كما تتبدى للحواس، ولا تنفذ خلال تلك الظواهر إلى المحجوب وراءها لتكشف عنه الحجاب.

إن منا أناسا - وهل أقول إن الناس أجمعين؟ - تصادفهم لحظات يستغرقهم فيها وجدان داخلي عنيف تجاه كائن معين أو تجاه شيء بذاته، فإذا بذلك الوجدان يهزهم هزا حتى ليروا ذلك الكائن أو هذا الشيء على غير ما يراه به سائر الناس بحواسهم المعتادة؛ فقد يغمرهم حب عميق، أو غضب شديد أو نشوة أو زهد أو حزن إلى آخر هذه الحالات التي تنتابنا جميعا ، فإذا الكائنات والأشياء تتلون في أنفسهم بلون جديد. ومعنى ذلك أن العلاقة تنفصم بين ما يرونه في بواطنهم وبين ما هو موجود في الواقع الخارجي كما يراه سائر الناس، وإذا ما طالت هذه الوقفة الانفصامية بصاحبها، أصبحت نفسه الداخلية في عزلة عن دنيا الناس، واستحال التفاهم بينه وبينهم؛ فهو يرى ما لا يرون، وهم يرون ما لا يرى، وها هنا يغلب على تلك النفس المعزولة أن تبتعث من ذاتها أطيافا غريبة، تحسبها هي الدنيا وكائناتها. على أن هذه الحالة الفاصلة بين الإنسان وبين واقع الأشياء، إذا كانت تنتاب كثرتنا عند فيض الوجدان وشدته، فإن قلة قليلة من الناس هم الذين يتخذون من تلك الحالة نفسها بابا يلجونه ليخرجوا منه إلى عالم رحيب الجنبات يرون فيه العجائب، وأولئك هم جماعة المتصوفة.

تبدأ النظرة الصوفية عندما يحس المتصوف بأن أمرا كان ملغزا قد انزاح عنه الحجاب، فانكشفت له فجأة حقيقة كانت خبيئة وراء ذلك الحجاب، فيراها هو رؤية مباشرة لا سبيل فيها إلى شك، حتى وإن خفيت عن سائر العالمين. إنها رؤية «اليقين»، وهي رؤية بالبصيرة لا بالبصر؛ إذ لو كانت رؤية بصرية لشهدها كل ذي عينين. وقد ينعم الصوفي برؤيته تلك ويصمت، قاصرا خبرته الروحية تلك على نفسه، ولكنه أيضا قد يتأمل فيما بعد ما قد تمرس به من تلك الخبرات الروحية، أو الحالات التي انكشف له فيها الحجاب عما وراءه، ثم يحاول أن يجري تلك الحالات في لفظ ينقل إلى الآخرين عن طريق الإيحاء شيئا قريبا مما مر به، وعندئذ نستطيع نحن سائر عباد الله الذين لم تنكشف عنهم الحجب، ولم يروا إلا ما شهدته أعينهم التي في رءوسهم، أقول إننا عندئذ قد نقرأ ما كتبه المتصوف عن حالاته، فتلهمنا بما تستطيع قدراتنا التخيلية أن تستلهم. فواضح من هذا أن كل كتابة جرى بها قلم لصوفي، وكل عبارة نطق بها وسمعت عنه، مما أراد به نقل خبرته الروحية إلى الآخرين، هو من قبيل الشعر الذي يخرج من مجال المعقولات مهما تكن له من قيمة تعبيرية في مجال الفن الأدبي. وإن أعجب العجب في هذا الصدد هو أن الأدوات نفسها التي ندرك بها المدركات العقلية هي الأدوات التي يعدها المتصوفة مؤدية إلى الوهم والضلال؛ فإذا كانت المشاهدات العلمية وسيلتها الحواس، فالحواس عند الصوفي لا ترى إلا الظاهر دون الباطن، والحق إنما يكون - عندهم - فيما هو باطن مستور، ولا يكون أبدا فيما تراه الأبصار مما يظهر لها على أسطح الأشياء. وإن كانت المعرفة العلمية قائمة على تحليل الموضوع المراد معرفته إلى عناصره الأولية التي منها يتألف، فالتحليل عند الصوفي يفسد علينا حقيقة الشيء؛ لأن حقيقته هي في جملته مجتمعة في مركب واحد، لا في أجزائه وهي فرادى. والخلاصة هي أنه بينما «العلم» يقف دائما عند حدود ما يظهر لنا من الكون، يزعم المتصوفة أن العالم الحق هو ما يكمن وراء الظواهر؛ فهم بذلك يعيشون في عالم غير عالمنا الذي نعيش فيه؛ ومن ثم يبطل بيننا تبادل المعرفة على النحو الذي نألفه في العلوم وفي الحياة العملية على حد سواء. وإن هذا العالم المستور عنا والمكشوف للصوفي، يبهره بهرا قد يشيع فيه رجفة الخوف، وكثيرا ما يراه الصوفي وكأنه يرى نورا ساطعا يستعصي على الرؤية الكاملة، ويخيل إليه أن الحقيقة الباهرة تلك تروغ منه وتتخفى كلما ظن أنه قد أوشك على شهود كامل، فتراه عندئذ ينحو باللائمة على ما يزال باقيا عنده من غلالات الأباطيل التي تخلقها في الإنسان حواسه. وإننا إذ نشبه رؤية المتصوف هذه برؤية الشاعر والفنان والعاشق الولهان بموضوع حبه، فإنما نضيف القول بأن هؤلاء الأشباه جميعا لا يتلقون من هذا العالم المحجوب إلا لمعات خافتة يرونها ثم يعودون إلى حياة الحس المألوف، وأما المتصوف فيغمس روحه في ذلك الضوء غمسا؛ فلا عجب أن نجد المتصوفة على عقيدة راسخة بأن ما يعرفونه هم عن «الحق» بمثل تلك الرؤية المباشرة المستغرقة فيما تراه، لا يجوز أن يقاس إليها أي معرفة أخرى؛ فكل معرفة أخرى - ومنها المعرفة العلمية ذاتها - إن هي إلا جهالة عمياء إذا قورنت بالحقيقة التي تشرق على المتصوفة في لحظات وجدهم. •••

تلك الرؤية الكاشفة عما حجبته الأستار عن سائر الناس، هي إذن أولى خصائص التصوف، وهي خصيصة تكفي وحدها لندخل التصوف في عالم اللامعقول؛ ثم تجيء الخاصة الثانية، وهي أن الصوفي يوحد الكون كله في كيان واحد لا يقبل الانقسام ولا التجزئة ولا التحليل؛ فوهم الحواس هو الذي يحملنا على الظن بأننا نعيش في عالم من كثرة؛ فأجناس كثيرة وأنواع متباينة ثم أفراد لا يحصيها العد، فنتوهم أن كل كائن من هذه الكائنات وحدة قائمة بذاتها، ترتبط مع سواها بعلاقات مختلفة، ولكن الصوفي برؤيته النافذة إلى ما تخفيه الظواهر، لا يلبث أن يرى حقيقة واحدة لا تعدد فيها وإن تعددت تجلياتها.

ومن هذه الخاصة تتفرع أخرى، وهي أن الصوفي ينكر انقسام الزمن إلى ماض وحاضر ومستقبل. إن مثل هذه التجزئة لتيار واحد لا تكون إلا عند من ينحصر بصره في اللحظة الراهنة، ثم يضيف إليها شطرا من الزمن سبقها وشطرا آخر سيلحق بها. أما عند من يعلو على هذه النظرات المحدودة، فإنه سوف يرى الكل في لمعة واحدة تضم الحقيقة من أزلها إلى أبدها. وإن نفي التجزئة عن الحقيقة الكونية الواحدة، وبالتالي نفيها عن الزمن، لينقلنا إلى خاصة رابعة من خصائص النظرة الصوفية، ألا وهي إزالة الفوارق الموهومة التي نميز بها ما نسميه الخير عما نسميه بالشر؛ فهذه قسمة لا تمليها علينا إلا مصلحة اللحظة الراهنة، وأما الرؤية الشاملة للحقيقة الكونية الواحدة فلا ترى إلا تلك «الحقيقة» الواحدة الخالصة، والتي لا خير عندها ولا شر، وإنما هنالك «الحق» في ذاته وكفى؛ ومن ثم ترى المتصوفة يتجردون ويتنزهون عن مشاعر البشر المألوفة لنا من غضب ورضا، وحزن ومرح، وغير ذلك. إنهم لا يحسون الألم فيما يؤلم الناس ولا يشعرون باللذة يما يلتذ به الناس. إن أمل المتصوف وجهاده ورياضته لنفسه إنما تهدف كلها إلى بلوغه حالة من السكينة التي لا تهزها أعاصير الرغبات والشهوات.

61

من هذا كله تنشأ لنا أسئلة أربعة، تلقي الإجابة عنها ضوءا قويا على الفواصل التي تفرق بين «المعقول» و«اللامعقول»، فهل حقا تتميز رؤية الحدس عن رؤية العقل بما يجعل الرؤية الأولى كاشفة عن اليقين، على حين أن الرؤية الثانية كثيرا ما تؤدي بنا إلى ضلالات وأوهام؟ وهل هو حق ما يزعمونه من أن كل انقسام للأشياء وكل تجزئة وكل تحليل هو من قبيل الأوهام التي تنحرف بنا عن رؤية الحقيقة؟ وهل الأزلية موصولة بالأبدية في وحدة ليس فيها ما هو ماض ومستقبل، وإنما هي حقيقة واحدة حاضرة دوما وإلى الأبد؟ ثم ما حقيقة الخير والشر من وجهة النظر الصوفية وغير الصوفية؛ أصحيح أن إدراكنا لهذه التفرقة وهم، وأن الحق في ذاته يعلو على مثل هذه التفرقات، فالحق حق ولا شيء أكثر من ذلك ولا أقل؟ •••

अज्ञात पृष्ठ