माकुल और ना माकुल हमारी बौद्धिक परंपरा में
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
शैलियों
فالعقل عند هؤلاء الناس لا يتمثل إلا في توليدنا للأفكار بعضها من بعض. أما أن تقول لهم إن من أحكام «العقل» كذلك ما نبنيه على مشاهداتنا ومن تجاربنا، فهم لا يترددون عندئذ في أنك قد استخدمت كلمة «العقل» فيما لا يجوز استخدامها فيه. إنه ليس «عقلا» - عندهم - أن يشاهد الفلكي بمنظاره حركات الأجرام ثم يتوقع كسوفا للشمس أو خسوفا للقمر؛ لأن الاستدلال هنا هو توقع ظاهرة بعد أن رأينا ظاهرة، وليس بين «الظواهر» الطبيعية رباط عقلي؛ لأن هذا الرباط - كما قلنا - مقصور على الأفكار وحدها. وليس «عقلا» - عندهم - أن يستمع القاضي إلى شهادات الشهود ثم يقضي بأن القاتل هو زيد؛ إذ العلاقة هنا قائمة على «شهادة»؛ أي إنها قائمة على رؤية البصر أو سمع الأذن، وكل هذه أمور ليست - عندهم - من قبيل «الأفكار» التي تصلح أن تتوالد في الذهن، فيتمثل «العقل» عندئذ بصورته التي يحددونه بها.
لكن كاتب هذه الصفحات لا ينزع بفكره الفلسفي هذا المنزع، وإنما هو ممن يرون في «الحواس» - بصرا وسمعا ولمسا وشما وذوقا - أبواب العلوم والمعارف، كلما كانت تلك العلوم والمعارف منصبة على ظواهر العالم الخارجي وأحداثه. والنازعون هذا المنزع في الدراسة الفلسفية يسمون بالتجريبيين، وعند هؤلاء أن «العقل» كلمة تقال لوصف طريقة السير من نقطة الابتداء إلى نتيجة يوصل إليها. فإذا كنا بصدد علم رياضي، كانت النقطة التي يبدأ منها السير فروضا يفرضها العالم الرياضي، ويجعل صدقها مسلما به؛ ليستطيع السير منها إلى ما يتولد عنها. وأما إذا كنا بصدد علم يختص بإحدى «الظواهر» كائنة ما كانت، فنقطة البدء هنا هي اللقطات الحسية التي تنطبع بها الحواس من تلك الظاهرة، ثم يكون بعد ذلك السير؛ ومن ذلك نرى أن الجانب المشترك بين علوم الرياضة وعلوم الظواهر الطبيعية، هو السير من بدء إلى منتهى، على اختلاف البدء في الحالتين. والذي يهمنا من هذا كله الآن، هو أن «العقل» عندنا هو «النقلة» من مقدمة مطروحة أمامنا إلى نتيجة تلزم منها أو تستدل منها، إما لزوما يقينيا في حالة الرياضة، أو استدلالا ترجيحيا في حالة العلوم الطبيعية.
فالفرق بين المثاليين والعقلانيين من جهة، والتجريبيين على اختلافهم من جهة أخرى، هو أن الأولين يقصرون معنى «العقل» على الحركة الاستدلالية إذا كانت نقطة ابتدائها صورة أولية فطرية، لم تكتسب من دنيا التجربة، على حين أن الآخرين يوسعون معنى «العقل» ليشمل كذلك الحركة الاستدلالية إذا بدأت سيرها من معلومات استمدها الإنسان عن طريق حواسه. والحق أن ما يعنينا نحن هنا ليس هو: في أي شيء يختلف الفريقان، بل هو: في أي شيء يتفقان. وهما متفقان في أن «العقل» حركة استدلالية، مع الضغط على كلمة «حركة» التي تشير إلى النقلة ننتقل بها من حقيقة أمامنا إلى حقيقة تتولد منها أو ترتبط بها ارتباطا مطردا.
وعلى ضوء هذا التحديد ستسهل علينا الرؤية الواضحة لما تعنيه كلمة «اللاعقل» مهما تنوعت معانيها وتعددت؛ فسوف نرى أن ما يبقى لنا بعد حذف «الحركة الاستدلالية» التي ينتقل بها الذهن بفاعليته من مقدمة إلى نتيجة - وذلك هو العقل كما بينا - أقول إن ما يبقى لنا من ضروب النشاط الحيوي عند الإنسان، بعد حذف هذا النوع الواحد من فاعليته الذهنية، «حالات» كثيرة مختلفة. فانظر إلى معنى كلمة «حالات» متأملا، يكن بين يديك التمهيد الذي يؤدي بك إلى معنى «اللاعقل» أو «اللامعقول»، كما سنبين فيما بعد بشيء من التفصيل. انظر متأملا إلى نفسك وقد امتلأت «بحالة» المرح أو الحزن أو الغضب أو الخوف أو الرهبة أو الحب أو الكراهية، إلى آخر أمثال هذه «الحالات» إن كان لها آخر، تجد في ذلك أهم اختلاف يميز «الحالة» من هذه الحالات إذا ما حلت بالإنسان، من «الحركة الانتقالية» التي ينتقل بها الذهن من فكرة إلى فكرة مشتقة منها، ولكن لندع تفصيل ذلك إلى فقرات تالية.
59
وقبل أن ننتقل من الحديث عن «العقل» إلى الحديث عن «اللاعقل»، قد يفيدنا ويزيدنا وضوحا أن نسوق أمثلة من الوقفات التي نسلكها في زمرة «المعقول»، وأولها وأولاها بالذكر هي وقفة العلم ؛ فالعلم بكل ضروبه نشاط عقلي خالص، ولك أن تتقصى خصائص التفكير العلمي فتحصل بذلك على طائفة هامة من خصائص العقل؛ فمن تلك الخصائص مثلا القفزة من المفرد إلى العام، ومن المتعين إلى المجرد. إن دنيانا التي نعيش فيها مليئة بالأفراد الجزئية، وليس فيها كائن «عام»؛ ففيها من الأناسي عمر وعثمان وخالد وزيد. أما «الإنسان» العام الذي لا يقتصر على فرد معين فليس بذي وجود في عالم الأشياء والكائنات، وهكذا قل في كل شيء؛ قله في الشجرة والزهرة والقط والطائر؛ فالموجود من هذه الكائنات في دنيا الواقع هو: هذه الشجرة المعينة، وهذه الزهرة المعينة، وهذا القط المعين أو الطائر المعين، ثم يحدث بيننا وبينها ما يحدث من صلات؛ فنراها ونسمع أصواتها ونمسها ونشمها، ولا نكون عندئذ قد فارقنا الواقع بأفراده المتعينة المتحددة بمكانها وزمانها وعلاقاتها، لكننا لا نقف عند هذا الحد من لمسة الوقائع بالحواس، بل تنشط منا الأذهان فتبعد عن دنيا الأعيان شيئا فشيئا؛ فبعد أن كان من نراهم من الأناسى هم فلان وفلان، ننتقل بالذهن من هؤلاء الأفراد إلى صورة عامة تجمعهم معا؛ وبذلك يتكون لدينا معنى «الإنسان»، وهكذا الأمر في الشجرة والزهرة والقط والطائر، وبقدر ما نبتعد عن دنيا الوقائع صعودا في درجات من التعميم تتوالى لتضم الأشتات في مجموعات أسرية تربطها بما بينها من وشائج القربى، أقول إننا بقدر صعودنا في درجات التعميم، نوغل في التجريد؛ لأننا لكي نضم القط إلى الطائر في أسرة واحدة هي الحيوان، يتحتم أن نجرد القط من صفاته المميزة، وكذلك نجرد الطائرة. وذلك كله نشاط «عقلي» مما ينتهي بنا إلى «العلم» بهذه الظاهرة أو تلك من ظواهر الطبيعة.
وخصيصة أخرى يتميز بها «العقل» في خلقه ل «العلم» بالطبيعة، وهي التحليل الذي نظل نفتت به الظاهرة المعينة، حتى نبلغ بها أقصى ما يمكن بلوغه من بسائط لا تقبل تحليلا بعد ذلك إلى ما هو أبسط منها، كأن تحلل الكائن الحي إلى خلايا، أو تحلل قطعة المادة إلى ذرات، أو المجتمع إلى مجموعة من أسر ومن نظم. ونحن إذا ما استطعنا تحليل الشيء إلى عناصره البسيطة التي يتألف من تفاعلاتها معا، استطعنا بالتالي أن نحدد المقادير الكمية التي دخل بها كل عنصر في ذلك التركيب، وعندئذ يتحول علمنا بالشيء من مجرد الإشارة إليه باسمه واستخدامه وهو في جملته، إلى صياغة رياضية تبين مقوماته بمقاديرها. ذلك هو «العلم» بما يتمثل فيه من «عقل»، وسوف نرى أن أوجه النشاط الأخرى التي هي ما ندرجه تحت «اللاعقل»، ترفض في تشنج وتوتر أن تمتد أيدينا إلى شيء نحلله، لا سيما إذا كان ذلك أمرا خاصا بالوعي الذاتي الذي يتدفق مجراه في بواطنهم.
وقفة العالم من الطبيعة - إذن - هي مما يوضح ما نعنيه ب «العقل»؛ إذ هو ناشط بفاعليته، وقد ذكرنا من خصائص تلك الوقفة العلمية اثنتين نكتفي بهما حتى لا يبعدنا استطراد الحديث عن موضوعنا. ونسوق مثلا آخر من وقفة أخرى يتمثل فيها «العقل» أيضا، مثل «الإنسيين» (أو الإنسانيين) في مذهبهم «الإنسي»، الذي ينظرون خلاله إلى قيم الحياة، وماذا ينبغي لها أن تكون، وإنما عمدت إلى اختيار هذا المثل الثاني لأنه يكشف لنا عن جوانب ليس عنها غنى في كل ثورة ثقافية عميقة الجذور؛ ففي عصر النهضة الأوروبية إبان القرن السادس عشر، تمرد الناس على قيم الحياة خلال القرون الوسطى، وأرادوا لأنفسهم مجموعة أخرى من القيم؛ وذلك لأن ما كان سائدا في العصور الوسطى قد أدى إلى التضحية بالفرد الإنساني في هذه الحياة الدنيا وعلى هذه الأرض، وجاء عصر النهضة يبشر بحياة دنيوية يحياها الناس، تنبض فيها العروق بدمائها، وتمتلئ بالمغامرة والمخاطرة وارتياد اليابس والماء، وإمعان النظر فيما يجري في السماء وما يدور في شعاب النفس.
وأطلقوا على هذا الاتجاه الجديد الذي ينحو بصاحبه نحو أن يجعل حياة الإنسان مدارا ومعيارا لا يعلو عليه مدار ومعيار، أطلقوا عليه اسم المذهب الإنسي
Humanism . ولهذه النظرة الإنسية إلى الإنسان خصائص، فيها ما يصلها بخصائص الوقفة العلمية؛ فمن بين تلك الخصائص أن نكتفي بالطبيعة التي بين أيدينا، لا نجاوزها إلى ما فوقها أو وراءها؛ حتى لا يزيغ البصر من هنا إلى هناك، فتضيع من أيدينا «هنا» دون أن ندري ماذا «هناك»؛ أي تضيع حياة الإنسان من أجل مجهول. فلئن كانت هذه الطبيعة هي عند الإنسيين ملقى السبل وملتقى الأبصار، فالإنسان جزء منها، نشأ نتيجة لتطورها، ماذا تراك صانعا بشجرة تريد العناية بها؟ هل تهمل ساقها وفروعها وأوراقها لتنصرف إلى «نفسها» أو «روحها»، أم إن عنايتك بالشجرة هي نفسها عنايتك بساقها وفروعها وسائر بدنها؟ إذن فهكذا يكون الشأن مع الإنسان إذا أردنا العناية به. لقد كان أهل العصور الوسطى يدعون الناس إلى إنهاك البدن وإرهاقه بالجوع والزهد في متاع العيش؛ لكي تزدهر الروح على حساب بدنها. فقلب الإنسيون وجهة النظر، ووجهوا العناية بالإنسان إلى مقوماته الحيوية، لا إلى أشباح تسكن هيكله. ومن العناية بالإنسان عند الإنسيين، أن يؤمن الناس بقدراتهم على فرض سيطرتهم على الطبيعة بالكشف العلمي عن قوانينها، ولا يشيع في الناس هذا الإيمان بقدراتهم إلا إذا شاع فيهم إيمان بالعلم أولا، وبما يستطيع أن يؤديه. وتفريعا عن هذه النقطة الخاصة بقدرة الإنسان، يذهب الإنسيون إلى القول بحرية الإنسان حرية مطلقة في اختيار ما يفعله وما لا يفعله؛ فهو هو سيد مصيره وخالق كيانه بما يختاره لنفسه على توالي اللحظات والمواقف. وغني عن البيان أن هذه الوقفة الإنسية الخالصة ترفض تبعية الحاضر للماضي، أو التضحية بما يثبته العلم من أجل خرافات وأوهام. وإذن فهذا مثل آخر لما يتجسد به «العقل » إذا أخلي سبيله إلى النشاط بفاعليته وفعله.
अज्ञात पृष्ठ