كان قدومه الآستانة في صدارة المرحوم «محمد رشدي باشا المترجم المعروف بالشروانلي» في نحو سنة 1293، فلاذ بركن هذا الصدر واحتمى بجاهه، وأقام ببابه وأكب على طلب العلم ما استطاع له طلبا، فأصاب منه حظا غير قليل، ونظر في التاريخ فأحاط به علما، واشتغل بالأدب فأجاد الكتابة؛ حتى إنه ليعد من رجال الطبقة الثالثة، بل الطبقة الثانية أقرب إليه. وجملة ما يجوز أن يقال فيه إنه بعد أن أبطل له عبد الحميد جريدته «ميزان»، التي كان يصدرها بالآستانة بسبب رثائه للأديب الأعظم نامق كمال، أدخل في نظارة المعارف، ثم أخذ يتدرج في الترقي حتى انتهى إلى وظيفة «قوميسير الديون العمومية» براتب شهري لا يقل عن المائتي ليرة. ولم يكن بعاصمة السلطنة العثمانية من يجهل شهرة مراد ولا من لا يثني على حريته ويعجب ببيانه. وألوف من تلامذة «المكتب الملكي» أقاموا على تمجيده وإطرائه إذ قرءوا عليه التاريخ، وعرفوا منه أحوال من سلف من الأمم، وعرفوا من كتابه الذي ألفه لهم في هذا الباب مترجما أكثره من اللغة الروسية ما أتاهم بأجزل الفوائد.
ولقد نال مراد من إقبال عبد الحميد عليه وعنايته بأمره ما رفعه فوق كثير من نظرائه والراجحين عليه، حتى خال العامة من العظماء أن قد حان لمراد أن يولى الصدارة.
فلما كانت المذبحة الأرمنية التي وقعت في سنة 1894 نقمها مراد فيمن نقمها من العثمانيين الأحرار، ورأى الملك العثماني رهينة مهالك لا تسهل تفديته منها، فكتب لائحة مطولة أبان فيه ضجرة العقلاء وسخطهم، ولام السلطان لوما لا يجرؤ عليه كل امرئ، ورفعها إليه وتحتها توقيعه وخاتمه، وكان مراد حمل لائحته إلى قصر عبد الحميد ولم ينفذها مع أحد، فدفعها إلى من دفعها إليه، وقال له: أخبر مولانا السلطان أني مقيم هنا ببابه على انتظار ما تقضي به إرادته. ويروي البعض أنه مثل في حضرة السلطان فلقي عتابا رقيقا خاف على نفسه عاقبته، وأيقن أن عبد الحميد لا يتركها له، وأنه إذا عاتب إنسانا عاتبه في حياته وضربه في عمره. فخرج من بين يديه وهو غير آمل أنه ملاق أهله، فما انتهى إلى باب القصر إلا تنفس تنفسا كادت تتصدع له أضالعه، فأسرع إلى بيته واشتغل ليلته باتخاذ أهبته للسفر . فما أشرق الصباح إلا ودع أهله وبنتيه وخرج متنكرا لائذا بالهرب، وسهل الله له أسبابه، فما أحس به أحد ولا علمت الحكومة المستبدة بهربه إلا بعد أن أجاز ساحة سلطانها وبعد عن أيدي أعوانها.
ما خلت أن عبد الحميد وجد بفرار أحد من العظماء ما وجد بفرار مراد؛ وذلك لأسباب منها مكان مراد بين رجال القلم، وشهرته التي عرفه بها الخاصة والعامة، وكثرة تلامذته، وهم بلا ريبة على رأيه ووظيفته التي عرفه فيها كثيرون من الأجانب، وأنها وظيفة ذات شأن في الدولة العثمانية، ثم وقوع هربه في زمان اشتداد المشكلات بعد المذبحة الأرمنية. وقد قرأ عبد الحميد لائحته، وعلم أن مرادا يعرف أشياء إذا هو وصفها ببيانه المألوف وأذاعها بين الناس أفسد على الظالم سياسة ظلمه، فاتقد الجبار غيظه وسقط في يده.
أما العثمانيون، فذهب كل جماعة منهم مذهبا واختلفوا في ذلك أقوالا وآراء، حتى لقد كان فيهم من ظن أن عبد الحميد أنفذه سرا في حاجة يقضيها له في البلاد الأجنبية، وأنه تواطأ مع مراد على أن يكون سفره هربا مبالغة منه في حفظ السر وكتمانه. إلا أنهم عرفوا خطأ زعمهم بما رأوه من مطاردة السلطان، حتى لمن كان يعرفه معرفة غير صميمية، فتفرقوا إلى فريقين: فريق يرى أن مرادا كافر نعمة، وأنه خائن، وأنه مدفوع إلى عمله هذا بيد عدو في ثياب صديق، وفريق يرى أن مرادا قام بما يجب عليه نحو وطنه، وأن مثله بعيد عن أن تستهوي لبه المطامع وأن تستغويه الأهواء.
وأما الأجانب؛ فقد أعجبوا بمراد وواقعته أيما إعجاب، واعترفوا أنهم كانوا أساءوا الظن بالعثمانيين حين وصفوهم بالأذلاء الأغبياء، الذين تتهلل نواجذهم كلما وقعت سياط المتغلبين على ظهورهم، وكان أكثر الناس فرحا وابتهاجا أصدقاؤنا الإنكليز؛ فإن فيهم من وهبه المال الجزيل عن طيب نفس، وذلك الواهب الجواد هو إدارة جريدة «التيمس» المشهورة على ما يقال.
حال الأحرار وجمعياتهم بعد هرب مراد من الآستانة
ما وطئت قدم الطاغستاني أرض مصر إلا ابتسمت ثغور الأحرار، وانتعشت أرواحهم ، وتجددت آمالهم؛ فالتفوا حوله وحشدوا تحت رايته ورضوه لهم زعيما ولمذهبهم إماما ولكتائبهم قائدا، وقالوا هو الصمصامة العضب لا تفل مضاربه ولا تقي دونه السابغات. ولما رام الكلام سكت لديه المتكلمون، وأوسعوا له من مكان الأستاذ، فظهر ولسان حاله يقول:
لقد علمت قيس بن غيلان أنني
إذا قلت «أما بعد» أني خطيبها
अज्ञात पृष्ठ