فلم يدر أبو العلاء ماذا يجيب، فصمت، ولكنه تنكر، فيما بعد، لحياته السابقة بعض التنكر، وأمسى ينكمش في بيته رويدا رويدا حتى صارت داره مجلسا للمستجيبين المخلصين. ومر في خاطره أن يرحل إلى العراق، فاستشار الوالدة والإخوان، ثم رحل إليه.
رسالة أبي العلاء إلى المعريين
لا يعنيني إن كان أبو العلاء ذهب إلى بغداد مرة أو مرتين أو عشر مرات. ولا يعنيني أرحل إلى عاصمة العالم القديم يريد التزيد من جاه الدنيا ومجدها وملاذها، أم ذهب ينتجع علوم بغداد وأدبها وفلسفتها، فيشهد عن كثب تلك المجامع العلنية والسرية التي كانت تلتئم فيها كل أسبوع.
ولا يعنيني إن كانت أمه قبلت منه وأعانته، ولا إن كان خاله أبو طاهر أعد له سفينة اغتصبها منه عمال السلطان، فسلك طريقا مخوفة إلى موطن الفلسفة ومقر أهل الجدل ...
ولا يعنيني ألبتة، إن أخفق أبو حامد الإسفراييني في إعادة سفينة أبي العلاء المغتصبة، أو المصادرة، ونجح رجل من آل حكار فمدح أبو العلاء لأجله هذه الأسرة واعترف بجميلها. ليست سفينة أبي العلاء تلك التي أوعز الله بصنعها إلى أبينا الثاني فعلم فن الملاحة، وأبقى على جنس أبدعه على صورته ومثاله.
ولا يعنيني إن كان أبو العلاء جلس في بغداد مجلس التلميذ أو مجلس المناظر؛ فالإنسان دائما تلميذ ومعلم.
ولا يعنيني أيضا أن يكون عبد السلام بن الحسين البصري عرض على أبي العلاء مكتبة كانت في يده، فلم ير شيخ المعرة فيها شيئا غريبا؛ إذ كان قد قرأ كتبها كلها في طرابلس، إلا ديوان تيم اللات فاستعاره منه، ثم اختلف المؤرخون في إعادته إلى صاحبه. وسواء عندي أممحصة كانت رواية القفطي والذهبي أم غير ممحصة. ولا يعنيني أن أبحث وأجتر ما كتبه غيري عن حضور أبي العلاء المجمع السري المسمى «إخوان الصفاء» بدار عبد السلام البصري، كل يوم جمعة، كما لا يعنيني حضوره مجمع الشريف المرتضى. ولا يعنيني أبدا صحة كلام سلامون ومرغليوث.
ولا يعنيني أن يكون حب المعري للمتنبي جر عليه الإهانة العظمى، فسحب برجله من مجلس الشريف المرتضى وأخرج. ولا يعنيني سبب عودته من بغداد ولا ماذا لقي من عناء وتعب، ولا حزنه على بغداد، وعلى موت أمه في غيابه.
كل هذا أدعه للمؤرخين وممحصي سير حياة الأدباء، والمدققين في النصوص، وهذا قد كفانيه البحاثة المدقق الأستاذ طه حسين بك في كتابه «ذكرى أبي العلاء»؛ إذ جمع فيه كل ما هب ودب عن المعري وعصره، فليراجعه من يتوخى التحقيق ويتطلب التوسع.
أما الذي يعنيني، وقد يكون سئم القارئ وسبني مرات قبل أن أبوح له به، فهو تلك الرسالة التي وجهها أبو العلاء إلى المعريين حين ترك بغداد.
अज्ञात पृष्ठ