213

मकररी

أبو العلاء المعري زوبعة الدهور

शैलियों

أما منافسة الشيخين أبي العلاء وداعي الدعاة فإن دلتني على شيء فتدلني على أن الرجلين فرسا رهان، يجريان لغاية واحدة. كلاهما باطني ينتهي إلى قمة الدعوة، ويعتصم بالعقل وحده، ولم يكتب داعي الدعاة إلى أبي العلاء إلا رغبة منه في إدراك سره؛ لأن الباطنيين مولعون بالأسرار ... وليس فيما كتب داعي الدعاة إلى أبي العلاء ما يدل على أنه يناهضه، ولا على أنه يبحث عن حقيقة دينه؛ فالمقصود هو إدراك السر الذي ذاع أمره وأوهم أبو العلاء أنه عنده ولا يبوح به.

وما رأيت أبا نصر بن أبي عمران - داعي الدعاة - إلا مبجلا ومعظما لأبي العلاء، عارفا سره كما يجب؛ فهو يقول: «والدليل على كونه - أي أبي العلاء - ناظرا لمعاده، بدقيق النظر الذي لا يكاد يجري معه جار في ميدانه، سلوكه في المسلك الذي سلكه في الزهد، وقصده شظف العيش وتعوضه عن لذيذ الطعام بالكريه، وعن لين اللباس بالخشن، وتعففه عن أن يجعل جوفه للحيوان مدفنا، أو أن يتذوق من درها لبنا، وأن يستطعم من طعام استكدت عليه في حرثه وإنشائه. وليست هذه الطريقة إلا طريقة من يعتقد أنه إذا آلمها، ونال نيلا منها، استوفى جزاء فعله بها. ومن كانت هذه نصبته في سلامة البهيمة العجماء منه، فكيف في إيثار سلامة الإنسان الناطق العاقل من يده ولسانه؟»

ثم تجري الرسالة الأولى جري الند في مخاطبة الند، بل سؤال «من يتوكأ على عصا العقل».

هذا ما ورد في رسالة داعي الدعاة الأولى. أما رسالته الثانية، وهي الأخيرة، فلم يجب عليها أبو العلاء؛ لأنه كما ذكر لداعي الدعاة في رسالته الأخيرة: «وإني لأعجز إذا اضطجعت عن القعود، فربما استعنت بإنسان فإذا هم بإعانتي وبسط يديه لينهضني، اضطربت عظامي؛ لأنهن عاريات من كسوة كانت عليهن، فعرتهن منها الأوقات المتمادية، وإنما عنيت ما كان عليهن من لحم.»

لم يجب عنها أبو العلاء لأنه مات، وإليك ما يعنينا مما جاء فيها: «ما فاتحت الشيخ، أحسن الله توفيقه، بالقول إلا مفاتحة متناكر، مؤثر لأن يخفي من أين جاءه السؤال، فيكون الجواب باسترسال ورفض حشمة، وحذف تكلف الخطاب بسيدنا، والرئيس وما يجري هذا المجرى؛ إذ كان حكم ما نتجارى فيه موجبا ألا يتخلله شيء من زخارف الدنيا، ولأنني أعتقد أن سيدي، بالحقيقة، من تستقل دون يده يدي أخذا منه للدنيا، أو تمتار نفسي من نفسه استفادة من معالم الأخرى.

فلا أدري كيف انعكست الحال، حتى صار الشيخ، أدام الله تأييده، يخاطبني بسيدنا، والرئيس، ولست مفضلا عنه في دنيا ولا دين، بل شاد إليه راحلتي لاستفادة، إن وردت موردها، أو صادفت نهلا أو علا منها، قابلتها بالشكر لنعمته، والإسجال على نفسي بسيادته.

وبعد فإني أعلمه، أدام الله سلامته، أنني شققت الأرض بطنها وظهرها من أقصى دياري إلى مصر، وشاهدت الناس بين رجلين: إما منتحلا لشريعة صبا إليها، ولهج بها إلى الحد الذي إن قيل له من أخبار شرعه، أن فيلا طار، أو جملا باض، لما قابله إلا بالقبول والتصديق، ولكان يكفر من يرى غير رأيه فيه، ويسفهه ويلعنه.

فالعقل عند من هذه سبيله في مهواة ومضيعة؛ فليس يكاد ينبعث لأن يعلم أن هذه الشريعة التي ينتحلها لم يطوق طوقها، ولم يسور أسوارها إلا بعد لموع نور العقل منه.

أو منتحلا للعقل يقول: «إنه حجة الله تعالى على عباده.» مبطلا لجميع ما الناس فيه، مستخفا بأوضاع الشرائع معترفا مع ذلك بوجوب المساعدة عليها، وعظم المنفعة بمكانها؛ لكونها مقمعة للجاهلين، ولجاما على رءوس المجرمين المجازفين، لا على أنها ذخيرة العقبى، أو منجاة في الديار الأخرى .

فلما رمت بي المرامي إلى ديار الشام بمصر، سمعت عن الشيخ، وفقه الله، بفضل في الأدب والعلم، قد اتفقت عليه الأقاويل، ووضح به البرهان والدليل، ورأيت الناس فيما يتعلق بدينه مختلفين، وفي أمره متبلبلين؛ فكل يذهب فيه مذهبا، ويتبعه في تقاسيم الظنون سببا.

अज्ञात पृष्ठ