تبقى بلدة بيت مري عزيزة علي. فقد اكتسبنا فيها الصحة، كما كانت تمنحنا الأمل بأننا سوف نرى مرة أخرى مناظر شبيهة إلى حد ما بتلك التي كنا نسعد برؤيتها ذات يوم. ثم إن هناك ذكرى ترتبط بهذه القرية المتواضعة. ففيها سمعنا الراديو، في أحد أيام شهر أغسطس، وهو يعلن تحرير باريس. كان علي آنذاك أن أكتب على الفور لأمي رسالة ربما لن تتلقاها: «أمي ... تعالي إلى ذراعي أضمك بجنون، أضمك حتى لأكاد أسحقك وأخنقك! ... لقد أصبحتم أحرارا، وها هي باريس قد أعيدت لكم؛ فكيف يمكننا أن نكون جديرين بكم؟! ...»
لقد مس الانفعال كافة من كان موجودا في بيت مري، حتى أولئك الذين كانت لهم أسبابهم للتذمر من فرنسا. وأعثر في أحد الدهاليز على السيد إلياس مدير الفندق الذي كان هو الآخر - وهو أمر طبيعي جدا - يريد استقلال بلده. كانت عيناه حمراوين، فقلت له بصوت مخنوق: «على الرغم من كل شيء يا سيد إلياس؟» فأجابني بصوت مبحوح كصوتي: «نعم يا سيدتي، على الرغم من كل شيء!»
لقد استثيرت كل القرية. كنا نتحدث، ونعبر بالإشارات والحركات والأصوات ونتبادل القبلات. ثم قام إلياس بتوزيع الشمبانيا على الجميع.
كان طفلاي منذ الحرب قد رفضا مشاهدة الرقص في الحفلات، ولم يحنثا بهذه اليمين الشخصية سوى مرة واحدة. كان ذلك على وجه الدقة في بيت مري ذات مساء، عندما صعد بحارة مركب يوناني رسا في بيروت إلى بيت مري. كنا نتحدث كثيرا معهم، وأرادوا الرقص (وكان الناس يرقصون كل مساء في الفندق). فافتتح قائدهم الحفلة وكان هذا الإنسان العزيز ضخما قليلا، فسرعان ما لهث تعبا وقال لابنتي بلطف: «أظن أنه من الأفضل أن نترك الرقص لضباطي الشبان ...»
وفي 26 أغسطس رقص سكان الفندق، أكان هو ذلك اليوم الذي وجد فيه طفلاي اللذان كانا يرقصان الفالس معا نفسيهما وحيدين مع زوج آخر من الراقصين على ساحة الرقص؟! وإذ كانوا في حالة من الإصرار الجنوني، فإن أحدا منهم لم يكن يريد التوقف. وكان ولداي هما اللذين بقيا إلى النهاية وسط حماس الذين كانوا يشاهدونهما وتهليلهم اللطيف!
وأشعلت في الليل نيران عظيمة على الجبل. تلك النيران التي كانت تشعل دوما في الخامس عشر من سبتمبر مع التأكيد بأنها ستمطر حتما في اليوم التالي. والحق أننا رأينا السماء تمطر في كل صيف، تلك الأمطار الغزيرة التي تحمل معها الخير بعد أشهر مضت دون أي قطرة من الماء. وكانت الأجراس جميعا تقرع في كل مكان.
لم نعد إلى بيت مري. بيد أنني في كل مرة أكون فيها على ظهر سفينة تتوقف في بيروت، فإنني أرفع عيني وأحيي من سطح الباخرة هذا البلد الذي يقع في مكان مرتفع. ساعة يغمره المغيب بنوره البنفسجي الجذاب. وكلما استطاع طه أن يغادر مقصورته، كنت أجلسه على السطح في مواجهة هذا المنظر وتلك الذكريات.
كان قد حصل على وسام الأرز في تلك السنة نفسها. وبعد ذلك تحدث عدة مرات في بيروت، في قاعات غاصة بالمستمعين الذين كانوا يصغون إليه بحب. وفي عام 1948، في أثناء المؤتمر العام لليونسكو، أجلسوه على المنصة عندما كان عليه أن يلقي خطابه. وعندما رأيت زوجي على هذه المنصة الواسعة العالية، أكثر عزلة من أي وقت مضى، بعيدا عني في مواجهة جمهور غفير، لا يملك أي إمكانية للخروج من هذا الموقع بنفسه، يستعد للكلام بدون أية مذكرات، فقد أصبت بهلع حقيقي، وبلغ بي الشحوب حدا ظنني معه صديق كان بالقرب مني مريضة. وبوسعي القول إن المحاضرة قد تمت وسط هتاف حماسي. كانوا قد وزعوا بطاقات دعوة بلغ عددها ثلاثة أضعاف الأماكن التي تسعها الصالة، وأرغم كثير من الناس تحت وطأة الزحام، على البقاء في الدهاليز.
كانت هذه الرحلة تكريما جميلا من اللبنانيين لإنسان كانوا يحترمونه. فقد كان طه، مرة أخرى، مغضوبا عليه. ووجدت مصر أن من الأفضل استبعاده من عضوية وفدها إلى مؤتمر اليونسكو؛ ذلك الوفد الذي كان يرأسه بحكم العادة. غير أن لفتة لبنان نحوه لا تنسى؛ فقد دعت حكومته طه، وتلقى منها كل تشريف واعتبار.
وكان طه، في كل مرة يخاطب فيها اللبنانيين، يتلقى منهم هذا الفيض من العاطفة الحارة التي تربطه بهم وتربطهم به.
अज्ञात पृष्ठ