تقول أمينة: «الثلج هو عبارة عن قطع من السماء تتساقط.» نحن في الحديقة؛ كانا يتكوران على ركبتي، الوقت وقت العشية، وقد خيم سكون تام. وتخطر على القلب ذكرى من فرنسا. صمت طويل، ثم همس: «إنني سعيد، إنني سعيد.» ثم، الصمت من جديد. ونحلم ثلاثتنا.
ذات صباح، وكان الوقت باكرا، والجميع يستغرقون في نومهم، يتناهى إلى سمعي صوت صغير يقول بهدوء: «صباح الخير يا أحدي الجميل.» كان الصوت صوت مؤنس، وكنا قد وعدناه القيام بنزهة في الصحراء ذلك اليوم.
كانت أمينة في الثالثة من عمرها. وفي إحدى الأمسيات دخلت المكتب واقتربت من أبيها وقالت بجدية بالغة: «لنعلل كما كان أرسطو يفعل؛ إذا وضعنا الماء في الدست ...» وتنطلق ضحكة صاخبة من أبيها، على حين ينفجر لطفي الفيلسوف بضحكة أكثر صخبا عندما رويت له هذه البداية من القياس المنطقي ...
وجاء وقت بات علينا فيه أن نفكر في مدرسة من أجلها. وستكون هذه المدرسة مدرسة الساكركير «القلب المقدس»
99
التي لم تكن بعيدة جدا عن البيت. لكنها لم تكن سعيدة بها ولم تكن تدرس فيها جيدا. على أنها استثيرت على كل حال إلى حد كبير بمناسبة عيد «الأم الوقور». لا أعرف شيئا كثيرا عن هذا العيد وعما كانه، لكني أذكر أنني غصصت لدى رؤيتي الثياب المرعبة المصنوعة من النسيج المضرب الأبيض والتي حزم بها الصغار المساكين.
كانت تلك هي الفترة التي كنا نرى فيها لطفي - وكان جارنا - يوميا تقريبا، وكنا نناديه آنذاك لطفي بك. وكنا نتناول طعام الغداء في بيته كل أسبوع كما كان يقاسمنا وجباتنا أحيانا، وكان يتخاصم مع طه حول قضايا الأدب أو الفلسفة أو السياسة. كنت أنقب في مكتبته الجميلة، وأستعير منه كتبه، ككتب سانت بوف، وكان كتاب أندريه جيد «لو أن الحبة لا تموت» أول الكتب التي استعرتها منه. وكنت أشارك بين الحين والآخر في النقاش عندما لا أوافق على رأي أحدهما. وكان لطفي يقول لي بابتسامة ودودة: «نعم يا ابنتي، إنك على حق دوما.» ونضحك ثلاثتنا. أيها العزيز لطفي! عندما جاء إلى «رامتان» للمرة الأخيرة، قبيل وفاته، كان يقول لي ثانية: «يا ابنتي، ستكونين على حق دوما!» كان يمشي بصعوبة، إلا أنه ظل يأتي لزيارة طه ما استطاع إلى ذلك سبيلا عندما لم يعد طه يغادر المنزل إطلاقا. وكنت أساعده على الركوب في العربة، ونجهد جميعا في أن نبدو جذلين.
في أول رأس سنة نقضيها في مصر الجديدة أثرت شخصيته في كثيرا؛ فبعد أن قدم لي التمنيات التقليدية بالعام الجديد أضاف بمهابة: «وقبل كل شيء ابق كما أنت.» كان لهذا الشكاك كلمات تنفذ إلى القلب مباشرة. وقد فقد أباه في تلك السنة، وكان صوته يرتعش عندما كان يقول لطه: «إنه صديق خمسين عاما هذا الذي فقدته والذي لن أعوضه أبد الدهر.»
كان هذا الرجل، الذي كان دميما، والذي كان وجهه المطبوع بآثار الجدري يشع ذكاء ساخرا، يملك هيئة خارقة؛ كان كبير الجسم، كان نحيلا، كان مهذبا، كان كلامه أكثر بطئا، إذا جاز لي القول، من عينيه الحيتين. كان يتكلم ببطء وعلى وتيرة واحدة تقريبا. ما أجمل الذهاب إلى الأوبرا برفقته! لم يكن - وربما لم يكن إطلاقا - يتذوق الموسيقى الغربية، وكنا نذهب دوما على وجه التقريب لمشاهدة الفرق الكوميدية. وما أجمل ترك الأطفال يرتعون في حديقة قصر الزعفران القديم؛ حيث أقيمت الجامعة! كنا نذهب لاصطحاب طه بعد أن ينهي درسه، كان مع مدير الجامعة بالطبع، وكانا يتناقشان، وكنا نضع المشاريع ونحلم ببيوت تبنى في الحديقة ليسكنها الأساتذة! هل يمكن أن يكون المرء أكثر توهما؟! وكنا غالبا ما نعود بعد ذلك معا.
كنا حين نذهب لرؤيته، بعد عديد من السنوات، نجده متدثرا بل متلاشيا في قفطان واسع أبيض أو أشهب أو أسمر، يكاد رأسه يختفي بين طيات لفة من الصوف؛ فقد كان سريع التأثر بالبرد. كان يجلس أمام موقد النار، هادئا، يداه الدقيقتان تسبحان، كان يبدو لي صورة طبق الأصل من الفلاسفة والعلماء الأقدمين الذين تبنى حكمتهم دون أي انبهار.
अज्ञात पृष्ठ