أكتوبر 1919
أبحرنا على ظهر سفينة «اللوتس» بعد أن قضينا ثلاثة أسابيع كريهة من الانتظار في مرسيليا بسبب إضراب عمال الميناء، لم يسبق لي على الإطلاق أن سافرت في البحر، وكانت السفرة مرهقة برفقة طفلة لا تتجاوز من العمر ستة عشر شهرا. وسرعان ما تشجعت لدى وقوف السفينة في الإسكندرية؛ إذ في غمرة ارتباكي وأنا أحمل الطفلة على ذراع وأعطي الذراع الأخرى لزوجي الذي كان يحمل ما لا أدريه من الحقائب، رأيت رجلا كان يتقدم نحونا ويبتسم لنا، حسن عبد الرازق، محافظ الإسكندرية، الذي أخذ طه بين ذراعيه معانقا، ثم عانقني أيضا وهو يقول: «إن طه هو أخي الصغير؛ فستكونين إذن أختي الصغيرة.» واصطحبنا إلى منزله. لم أكن سعيدة دوما في مصر، بل ما أكثر ما تألمت فيها! لكنني بسبب هذا الاستقبال الذي تثيرني ذكراه الآن مثلما كانت تثيرني دوما
36
لم ألفظ كلمة تأفف واحدة. لقد غدت مصر بالنسبة إلي ولأكثر من سبب وطنا ثانيا؛ أحبها كما أحبها طه، ولست أحتمل أن يراد بها شر أو أن يتجاهلها العالم. لقد بدأ ذلك مع حسن عبد الرازق، كنت أعرفه قليلا من خلال الرسائل التي كان يكتبها لطه، ثم عرفته بصورة أفضل وأحببته. وعندما اغتالوه بخسة
37
بكيته كما لو كنت أبكي واحدا من أهلي وكما بكيت من بعد أخاه الشيخ مصطفى عبد الرازق.
38
بعد عدة أيام كنا نصل القاهرة، وكان ينتظرنا في المحطة رجل يفيض حيوية وجذلا وعرامة، وكنت أعرف فيه صديقا آخر لطه، إنه المرصفي؛ إذ ما أوشكت أن أضع قدمي على رصيف المحطة حتى رأيت ابنتي محمولة على ذراعين قويتين ترفعانها عاليا فوق رءوس المسافرين الآخرين، كانت محطة القاهرة في نظري تلك الدمية الفاتنة تضمها أوراق ثوبها الأزرق، والتي كنت ألاحقها بفزع رغم تشجيع طه لي.
وبدأت حياتنا الحقيقية. •••
نحن في عام 1975. الآن وقد أصبحت اليد التي كانت دليل طه فارغة، وقد بات من المستحيل علي أن أستند على ذراعه، وقد انهار الصمت الحاسم ... أحاول بعد كل شيء أن أتحدث ...
अज्ञात पृष्ठ