110

ولكن الفتاة المنكوبة كانت أرهف بصرا وحسا من كل من هناك وقالت بصوت خافت: رأيته مرة أخرى على الطريق، كان يسرع وهو يعرج على عكازة.

فصاح أبوها: اسكتي يا مبروكة.

وأخذ يقرأ الآيات في حزن ويده فوق رأسها.

وجاء أهل القرية إلى بيتي مسرعين ليحملوا إلي قصة مبروكة المسكينة وهم يتعجبون من المعجزة. غير أني كنت أعرف أن الأرواح تؤثر البقاء في عالمها السماوي ولا تعود متجسدة إلى القرى ومعها عكازاتها. وخطرت لي خاطرة سريعة، فقمت مبادرا إلى سيارتي وسألت عن الاتجاه الذي قالت مبروكة إنها رأت الشبح يسير فيه، وما هي إلا دقيقة حتى انطلقت إلى الطريق المؤدي إلى القرية المجاورة. وصدق حدسي آخر الأمر، لأني رأيت الشبح ما يزال يعرج على الطريق أمامي مقتربا من القرية، وكان حقيقة يتكئ على عكازة تحت إبطه. وأدركته بعد لحظة قصيرة، فنزلت من العربة لأفتح ذراعي لصديقي حسين محجوب، ومال كل منا على عنق صاحبه يبكي. وانتحينا جانبا من الطريق فجلسنا تحت أشعة القمر نتحدث، وقص علي قصته: نجا من الموت بعد أن انفجر فيه لغم وهو ذاهب لإسعاف الطائرة المنكوبة، وعثرت به «دورية» فحملته معها إلى غزة، وهناك أجريت له عملية مدت له الحياة بساق واحدة. ولما رجع إلى الوطن بادر إلى القرية وكانت ليلة نصف شعبان، فذهب ليصلي المغرب إلى جوار الساقية قبل أن يرى أحدا من أهل القرية، وقرأ الدعاء لعل الله يمحو عنه شقاوته وحرمانه وطرده! ولكنها عندما مرت به لم تعرفه. وناداها باسمها قائلا: «أنا حسين يا مبروكة.» ولكنها صرخت وولت هاربة مذعورة.

فقلت له وقلبي يسيل عطفا: لا تحزن يا صديقي، فسوف يمحو الله شقاوتك وحرمانك وطردك.

فهز رأسه في شك وقال: هيهات يا دكتور. ليتني مت في الموقعة.

ولم أشأ أن أطيل معه المناقشة ونحن هناك على الطريق، كما أني لم أشأ أن أعود به إلى القرية في تلك الليلة بالذات؛ لأن شعورا غامضا كان يوحي إلي بأن أذهب به من ساعتي إلى القاهرة.

وتحدثنا طويلا في الطريق، كما تحدثنا طويلا في الأيام التي أقامها في عيادتي تحت العلاج، وحمدت الله كثيرا على أن إصابته لم تكن يائسة كما كنت أحسب. واستطاع بعد شهر ونصف أن يسير على قدميه سويا بغير عكازة بفضل ساق مصنوعة اخترناها له من أجود الأصناف التي لا تكاد مشيتها تختلف عن المشية الطبيعية.

وعدنا إلى القرية في يوم من أيام عيد الفطر، وكانت حقا ليلة عيد عند أهل القرية جميعا. وجاءت مبروكة إلى بيتي لأول مرة منذ مدة طويلة لكي تقبل يدي على أني أعدت حسينا إليها. ولست أنسى أن أذكر هنا أنني لم أملك نفسي من البكاء وأنا أرى العروسين واقفين جنبا إلى جنب ومبروكة تضع يدها تحت ذراع زوجها وتبتسم سعيدة، لألتقط لهما صورة شمسية تذكارا للعودة.

ولما أقمنا العرس بعد ستة أشهر وجاء حسين ليسلم علي قبل الذهاب بزوجته إلى داره الجديدة بجوار الساقية سألته قائلا: أرأيت كيف محا الله شقاوتك وحرمانك؟

अज्ञात पृष्ठ