मेरे पिता अलाउद्दीन के साथ उसकी जेल में
مع أبي العلاء في سجنه
शैलियों
أتراني أخذت في هذا الحديث عن رضا؟ أتراني أخذت فيه عن كره؟ لا أدري! ولكني أعلم أن الليل قد تقدم، وأن كل شيء من حولي هادئ مستقر حتى ما يبلغني صوت، ولا يصل إلي شيء من هذا الضجيج العنيف الذي يمتلئ به أسفل الفندق. فقد سمعت حين انصرفت عن مائدة العشاء أن الشباب سيحيون بالرقص أول الليل. أعلم هذا، وأعلم أن نفسي قد ضاقت بالإملاء وانصرفت عنه، وأني سأدع هذا الحديث الآن، ولن أهبط إلى غرفتي قبل أن أسمع قصيدة، أو قصائد من اللزوميات. ومن يدري أأستأنف هذا الحديث إذا كان الغد، أم أصرف عنه لعمل آخر، أم أطلب إلى صاحبي أن يصنع به ما يشاء؟
الفصل الثاني
وما أريد أن أظلم أبا العلاء، فأترجم له مرة أخرى، فقد ترجمت له منذ ربع قرن، وما أراني أستطيع أن أعرض جديدا من أمره إن استأنفت درس حياته، وعرضها على الناس. فقد ظهرت للرجل رسائل وكتب لم تكن بين أيدينا حين أمليت ذكرى أبي العلاء، ولكن الغريب أنها لا تضيف إلى ما نعلم من حياته شيئا، ولعلها لا تضيف إلى ما نعلم من آرائه شيئا، فأي خير إذن في أن أعيد في هذا الحديث ما بدأته في ذكرى أبي العلاء؟ وما يمنع الراغب في درس حياته، أو في درس ما يعرف من حياته أن يلتمس هذا في ذلك الكتاب القديم، أو فيما نشر بعده من الكتب والرسائل، ومن المقالات والفصول؟
ولست أرى رأي بول فاليري في التراجم، ولست أهمل ما للتفصيلات التي تمس حياة الشعراء والأدباء والفلاسفة من خطر، ولعل صناعتي هي التي تقف بي عند هذا الطور، وتكرهني على أن أقدر التاريخ الأدبي بما فيه من تفصيل وإجمال، كما أقدر التاريخ السياسي بما فيه من تفصيل وإجمال أيضا. ولعل صناعة بول فاليري هي التي ترفعه عن الاحتفال بالتاريخ مهما يكن موضوعه. فبول فاليري شاعر أديب بارع في الشعر والأدب، يتكلف التعليم منذ أنشئ له كرسي في الكوليج دي فرانس، فلا غرابة في أن يرفعه فنه عن تفصيلات الحياة الإنسانية. وأنا معلم يتكلف الأدب الخالص حين يستريح من التعليم، وحين يخلى بينه وبين الحياة، فلا يجد ما يعمل إلا أن يشعر ويتأثر، ويحاول أن يصور ما يجد من حس أو شعور.
فلا غرابة في أن تهبط بي صناعة التعليم إلى دقائق الحياة الإنسانية وتفصيلها، ولكني على ذلك أعترف بأن التاريخ الأدبي كالتاريخ السياسي يغلب فيه الظن، ويكثر فيه الرجحان، ويقل فيه اليقين. وما أدري أمن إنصاف الناس أن نقول فيهم بالظن، ونأخذ في أمرهم بما نرجحه الآن، وقد نشك فيه غدا، أو بما نرجحه نحن، وقد يجحده غيرنا أشد الجحد، وينكره أشد الإنكار؟ وماذا تريد أن أقول لك، ونحن نقرأ أحيانا ما يقول الناس فينا، وما يظن الناس بنا فنضيق به أشد الضيق، ونسخط عليه أعظم السخط؛ لأننا لا نراه ملائما لما نعرفه من حقائق أنفسنا، أو لأننا نراه ملائما لهذه الحقائق، ولكننا نكره أن يعرف، وأن يقال، وأن يذاع في الناس!
وما أشك في أن أبا العلاء قد كان مثلنا، يحب أن يعرف الناس من أمره أشياء، ويكره أن يعرفوا من أمره أشياء أخرى. وقد احتاط الرجل لذلك ألوانا من الاحتياط، واتقاه بضروب من التقية. فألغز وغلا في الألغاز، واصطنع الاستعارة والمجاز، ودار حول كثير من المعاني دورانا، ولم يرد أن يتعمقها في شعره أو نثره مخافة أن يظهر الناس على رأيه، وأن يعرفوا من أمره ما كان يجب أن يجهلوا، ويطلعوا من سره على ما كان يؤثر أن يظل عليهم مستغلقا، ودونهم مكتوما.
وأنا أعرف أن العلم يكلف أصحابه أهوالا ثقالا، ويحملهم من بعض الأمر على ما لا يحبون أن يحملوا عليه؛ فيضطرهم أحيانا إلى هتك الأستار، وفضح الأسرار ، وإظهار الناس من أمر بعضهم على ما لا ينبغي أن يظهروا عليه. تلك تضحيات يتكلفها العلماء في سبيل الوصول إلى الحق، لا يشبهها إلا ما يتكلفه أصحاب العلوم التجريبية من تعذيب الحيوان في سبيل ما يبتغون من العلم الخالص، أو من العلم الذي ينفع الناس في حمايتهم من العلل والآفات.
أنا أعرف هذا، وقد أقدمت على كثير منه حين درست من درسته من الشعراء والأدباء في غير هذا الحديث. ولكن ما رأيك في أني أحب أبا العلاء، وأريد أن أسير معه في هذا الحديث سيرة الصديق الوفي الأمين، فلا أسوءه في نفسه، ولا في رأيه، ولا أذهب فيما سأعرض له من البحث مذهب أصحاب العلم الذين يضحون بموضوع بحثهم، فيخضعونه لألوان من التمحيص، وضروب من التحليل، يحملونه من ذلك ما يطيق وما لا يطيق، ويعرضونه من ذلك لما يحب وما لا يحب. أفلو كان أبو العلاء حيا معاصرا، وكنت له صديقا معاشرا أتراني كنت أظهر من أمره ما يقتضي العلم إظهاره، وأجهر من سره بما يفرض العلم على العلماء أن يجهروا به، مضحيا في سبيل ذلك بما يمكن أن يكلف ذلك أبا العلاء من الحزن والألم، ومن الخوف والفزع، ومن الإشفاق والضيق؟ أم تراني كنت أوثر وده، وأرعى حقه، فأحفظ عليه غيبه ولا أوذيه فيما لا يحب الناس أن يؤذوا فيه من خاصة أمورهم؟ لأمر ما منع الناس أنفسهم من أن يتناولوا الأحياء من الأدباء بالبحث العلمي الدقيق، والتحليل الذي لا يرهب شيئا، ولا يرجو لشيء وقارا. منهم من يمنعه من ذلك خوف القانون الذي يحمي الأحياء من الأحياء، ويكف شر الناس عن الناس؛ ومنهم من يمنعه من ذلك قلب رقيق، وحس دقيق، وإيثار للعافية، وإشفاق أن يصنع الناس به صنيعه بهم، وأن يخضعوه لما يخضعهم له من التمحيص والتحليل؛ ومنهم من يمنعه من ذلك مجرد الحب والرفق، وهذا الشعور الممتاز الذي يرتفع بصاحبه عن إيذاء الناس فيما يكرهون أن يؤذوا فيه.
الناس يصطنعون هذا التحفظ مع الأحياء، ولكنهم لا يصطنعونه مع الموتى، وإنما يهدرون من أمر الموتى في سبيل البحث ما لا يستطيعون أن يهدروه من أمر الأحياء! تبيح لهم القوانين ذلك، وتدعوهم طبيعة العلم وحرية البحث إليه. وليس عليهم بأس أن يخطئوا فيضطرهم الخطأ إلى الظلم؛ لأن كل الناس يخطئ ويصيب، ولأن الوصول إلى الصواب قلما يتأتى إلا بعد التورط في الخطأ.
كل ذلك أعرفه ويعرفه الناس، وقد اصطنعته حين درست أبا العلاء منذ ربع قرن. ولكني مع ذلك أريد أن أعرض عنه في هذا الحديث؛ لأني كما قدمت أحب أبا العلاء، وأريد أن أتحدث عنه حديث الصديق. وأود لو استطعت أن أصدر فيما أملي عن القلب الذي يحب ويعطف ويرحم لا عن العقل الذي يمحص ويحلل، ويقسو في التمحيص والتحليل.
अज्ञात पृष्ठ