मेरे पिता अलाउद्दीन के साथ उसकी जेल में
مع أبي العلاء في سجنه
शैलियों
ولا ترغبن في عشرة الرؤساء
وازن بين المطمحين، وقس إلى ضعة أبي الطيب رفعة أبي العلاء إن كان يمكن أن تقاس الرفعة إلى الضعة، ومع ذلك فقد لقي كل من الرجلين في سبيل مطمحه آلاما شدادا لا يبلغها الإحصاء، إلا أن آلام المتنبي تقص فلا تثير في نفسي إلا غيظا وازدراء، وقد تثير في نفس غيري من الناس إكبارا وإعجابا، وآلام أبي العلاء تقص فتثير في نفسي حبا وإجلالا، كما تثير فيها عطفا وحنانا وإشفاقا. وما أرى أنها تثير في نفوس غيري من الناس ازورارا عن الرجل أو تنكرا له، أو استخفافا به. وأنا أقرأ شعر الرجلين فأذكر قول أبي العلاء حين شفع إلى صالح في قومه:
فيسمع مني سجع الحما
م وأسمع منه زئير الأسد
ولكن زئير الأسد كان يدل على شيء حين كان يصدر عن صالح وأشباهه من المغامرين الذين كانوا يعملون ولا يقولون. فأما زئير الأسد الذي كان يصدر عن المتنبي فقد كان فارغا لا يحتوي شيئا، ولا يدل على شيء. وأصدق وصف له قول أبي العلاء حين سمع شعر ابن هانئ الأندلسي: كأني أسمع رحى تطحن قرونا! فقد كان شعر المتنبي جعجعة فارغة إذا فخر وتكثر، ولم يكن شعره ذا غناء. لم يكن شعره يمس النفس، ويبلغ القلب إلا حين كان يتغنى حزنه، ويشكو بثه، ويصور آلامه في تواضع واعتدال. لم يشعر المتنبي قط بأنه سجين إلا حين اضطر إلى السجن بعد ثورته أثناء الشباب، وقد استقبل هذا السجن المادي في أول أمره كبير النفس، حمي الأنف، ولكنه لم يلبث أن ذل واستكان، وأنفق أيامه في السجن ضارعا مستعطفا، يتوسل إلى الأمير، ويتبرأ مما اتهم به حتى أدركه العفو، وردت إليه حريته، هذه الحرية المبتذلة التي يستمتع بها الناس جميعا؛ لأنها حرية الأجسام لا حرية النفوس. فأما أبو العلاء فقد شعر بسجنه، بل بسجونه، وألح على نفسه بهذا الشعور، واحتمل من أجل ذلك آلاما تملأ النفوس رحمة له وإشفاقا عليه، ولكنه استمتع في هذه السجون بهذه الحرية العليا التي لا يستمتع بها إلا الممتازون من الناس؛ لأنها حرية النفس والقلب والعقل. ومع ذلك فقد كان أبو العلاء يرى نفسه مجبرا، ويرى أن ليس له من الحرية حظ!
أرأيت إلى الموازنة بين أبي العلاء وصاحبيه هذين إلام تنتهي؟ وماذا تعقب في النفس من إعجاب مر بهذا الرجل الضئيل النحيل، الذي شارك صاحبيه في كثير من أشياء كانت تقتضي أن تتشابه حياتهم، ولكنه مع ذلك امتاز منهما أشد الامتياز وأعظمه؟
أنا أعجب ببشار وأكبر فنه، ولكني لا أحبه، ولا أراه يثير في نفسي إلا صدودا عنه، وضيقا به. وأنا أقدر فن المتنبي، وأعجب ببعض آثاره إعجابا لا حد له، وأعجب ببعضها الآخر إعجابا متواضعا - إن صح أن يتواضع الإعجاب! - وأمقت سائرها مقتا شديدا. ولا تثير حياة المتنبي في نفسي إشفاقا عليه، ولا رثاء له وإنما هو مغامر طلب ما لم يخلق له، وتعرض لما كان يحسن أن يعرض عنه، فانتهى إلى ما ينتهي إليه أمثاله المغامرون. فأما أبو العلاء فإن له في نفسي شأنا آخر لا يغيظني، ولا يحفظني؛ لأن حياته كلها قد برئت مما يحفظ أو يغيظ، وهو قد يغيظ فريقا من الناس، وقد يحفظهم؛ لأنه يخالفهم في الرأي، ولأنه ينكر ما يعرفون، ويسخر مما يرتفعون به عن السخرية، ويستهزئ بما يرون الاستهزاء به إثما ونكرا. ولكنك تعلم أن الذين يسيغون الحرية ويذوقونها لا يحفظهم خلاف في الرأي، ولا يغيظهم افتراق في المذهب. وأبو العلاء حري بعد ذلك أن يثير في نفسك الإشفاق لا الحفيظة؛ لأنه لم يخالفك في الرأي معاندا ولا مكابرا، وإنما خالفك في الرأي بعد أن اجتهد ما وسعه الاجتهاد، وبعد أن نصح لنفسه ولك ما وسعه النصح. وما يحفظك من رجل أراد الصواب فانتهى إلى ما تراه أنت خطأ؟ وما يغيظك من رجل طلب الخير وجد في طلبه فانتهى إلى ما تراه أنت شرا، وهو قد احتمل في ذلك آلاما لا تكاد توصف ولا تحصى؟
كان هؤلاء الشعراء الثلاثة: بشار، والمتنبي، وأبو العلاء كبارا في أنفسهم، وكانت كبرياؤهم أظهر ما سيطر على حياتهم من خصلة، ومصدر ما لقوا من مكروه. فوازن بين الكبرياء عند هؤلاء الشعراء الثلاثة، ووازن بين ما تركت كبرياؤهم من آثار لهم أولا، ولغيرهم من الناس بعد ذلك. فأما كبرياء بشار فقد أذاقته لذات عارضة، وبغضته إلى الناس، وانتهت به إلى بطش السلطان، ثم أبقت له آثارا يعجب بها الناس إعجابا فنيا خالصا، ولكنهم قلما ينتفعون بها في تقويم الأخلاق والعقول، ولعل أساءتها إلى الأخلاق والعقول أن تكون أكثر جدا من إحسانها. وأما كبرياء المتنبي فقد حرمت عليه اللذة وجرعته الألم أثناء حياته، وأذاقته الذلة والهون، وانتهت به إلى أن يغتاله بعض الأعراب في بعض الصحراء، وأبقت للناس منه آثارا يعجبون بها إعجابا فنيا يختلف قوة وضعفا باختلاف الأذواق والميول، ولكنها لا تجعل من صاحبها مثلا يحتذى، ولا نموذجا يتوخى في تقويم العقول والأخلاق، ولعلها أن تكون إلى إثارة الغرور والاقتناع بالقول دون العمل والرضا بالعرض دون الجوهر أدنى منها إلى إشعار النفس هذا التواضع الخصب المنتج الذي يجعل صاحبه نافعا لنفسه وللناس.
وأما كبرياء أبي العلاء فقد جرعته مزاجا من الألم واللذة أثناء حياته الطويلة، ولكنه ألم يطهر النفس ولا يفسدها، ولكنها لذة ترفع النفس ولا تضعها، وتقويها ولا تضعفها. والغريب من أمر هذه الكبرياء التي لا أعرف أن شاعرا عربيا قد شقي بمثلها أنها أنتجت لأبي العلاء تواضعا لا أعرف أن شاعرا أو فيلسوفا عربيا سعد بمثله. وقد انتهت كبرياء أبي العلاء به إلى موت هادئ لا عنف فيه، بعد حياة طويلة هادئة لا عنف فيها إلا ما كان يشق به أبو العلاء على نفسه من التكاليف. وقد أبقت كبرياء أبي العلاء للناس منه آثارا خصبة أشد الخصب، مختلفة أشد الاختلاف، مختلفة في طبائعها، مختلفة في نتائجها، منها العلم الذي يغذو العقل، ومنها الفن الذي يغذو القلب والذوق، ومنها الفلسفة التي تغذو العقل والقلب والخلق جميعا. وفي آثار أبي العلاء شدة على الناس، شدة في ألفاظها، وشدة في معانيها، وشدة في أساليبها أيضا. ولكن في هذه الآثار شدة على أبي العلاء نفسه! فقد لقي في إنشائها عناء وجهدا، أرجو أن أصورهما بعد حين، فلا أقل من أن نلقى في الفهم عنه والانتفاع به بعض ما لقي من العناء في إفهامنا ونفعنا. وفي آثار أبي العلاء ثقل على النفوس التي لا تحب إلا الهين من الأمر، ولا تألف إلا الحياة اليسيرة الوادعة التي لا تكلف أصحابها مشقة ولا عسرا. ولكن أبا العلاء نفسه لم يكن يحب الهين من الأمر، ولم يكن يألف أقصر الطرق كما قال بول فاليري فيما ترجمت عنه في أول هذا الكتاب، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها. وما ذنب أبي العلاء إذا كان لم يخلق للسهولة ولا للين، وإنما خلق للمشقة والجهد! وحسبه أنه لم يلق في حياته سهولة ولا لينا، أو أنه قد حمل نفسه حملا في حياته على الإعراض عن السهولة واللين.
وفي كثير من آثار أبي العلاء كآبة وشحوب لا تستريح إليهما النفوس التي تألف الإشراق والابتسام، ولكن الحياة ليست إشراقا كلها ولا ابتساما، والرائد لا يكذب قومه، وقد وكل الله بإشراق الحياة وابتسامها من الكتاب والشعراء من يعرضونها على الناس فيملأون نفوسهم إشراقا وابتساما وأملا. ووكل الله بما في الحياة من ظلمة وعبوس كتابا وشعراء يعرضونهما على الناس فيملأون نفوسهم ظلمة وعبوسا، ويشرفون بها على اليأس أحيانا. وصدقني إن الحياة لا تستقيم لك إذا لم تلتمس فيها إلا البهجة والرضا، كما أنها لا تستقيم لك إذا لم تلتمس فيها إلا الحزن والسخط. فلائم بين ذلك، وخذ من هذا ومن ذاك بحظ، وإذا وجدت البهجة والرضا عند هذا الشاعر أو ذاك من الشعراء المتفائلين فلا تكره أن تلتمس شيئا من الحزن والسخط عند بعض الشعراء المتشائمين، فإن السرور المتصل كاذب، وهو خليق أن يقتل النفس، ويميت القلب، وإن الحزن المتصل صادق، ولكن نفوس الناس لا تطيق له احتمالا، فلا أقل من أن تلم به، وتشرف عليه، وتصيب منه قليلا يصلح من أمرها، ويعصمها من هذا النسيان الذي هي منتهية إليه إن كانت حياتها صفوا خالصا، وهل إلى الصفو الخالص من سبيل؟
अज्ञात पृष्ठ