वैज्ञानिक और सामाजिक चर्चाएँ
مباحث علمية واجتماعية
शैलियों
وكثيرا ما وقع لي مما دلني على أن هذه العادة الحميدة المتبعة في البلاد المتمدنة غير مرعية في هذه البلاد بين كتابنا، وخصوصا عند جرائدنا، ولا يخفى ما يوجب ذلك من المؤاخذة، ومن ضياع الفائدة أحيانا كثيرة. وما حملني على التنبيه إلى ذلك الآن إلا ما وقع لي مع جريدة السلام الغراء التي تطبع في الإسكندرية، فإنها نشرت مقالة لحضرة الكاتب البارع الشيخ نجيب الحداد، رد فيها على مقالتي «القضاء على القضاء» التي نشرت في أحد أعداد البصير الأغر، ولم يبلغني خبرها إلا بعد نشرها بثلاثة أيام، ولم يتيسر لي الحصول على العدد المنشورة فيه إلا في اليوم الرابع؛ إذ قصدت إدارة جريدة الأخبار البهية، وسألتها أن تنيلني هذه الأمنية، وقلت في نفسي: «هذا عقابي على محاولتي نقض العقاب.» ولم أدر أنه أخف العقابين.
فاغتنمت هذه الفرصة لإبداء ملاحظتي من هذا القبيل، ورجائي أن كتابنا وجرائدنا عموما يقبلون ذلك مني من وجهه الحميد، ويضمون هذا الواجب إلى ما لهم من الفضل في إعلاء شأن الكتابة والصحافة في بلادنا العربية. •••
وقد تصفحت هذه المقابلة بما يجب على كل امرئ من الاعتبار للأفكار والاحترام للأشخاص، تاركا الأعراض والأغراض متمسكا بالجوهر. وشكرت حضرة الكاتب على حسن ظنه بي، وإطرائه علي بما توهمه بي من قوة الحجة وحسن البيان وحب الخير والإحسان، وإن لم يشفق علي في انتقاده، ولم يعترف لي بشيء من صحة البرهان؛ إذ عد مقالتي نسيج أضاليل وأباطيل وزخارف أوهام تجوز على بعض الأفهام، وتناقضا من أغرب ما ورد عليه، وضعف نتيجة مما تكفي أفهام القراء للحكم فيه. ولا عجب؛ فإن الناس ينظرون إلى الأشياء كل واحد من الجهة التي ألفها. وأنا لم أكن أشك لما كتبت ما كتبت، وخالفت فيه من خالفت ووافقت من وافقت، أني سأصادف عقبات تميد لها الجبال الرواسي، وألقى مقاومات تشيب لها النواصي؛ فليس من السهل هدم بنيان راسخ تنزل أسسه إلى أصل الإنسان وتمتد إلى الحيوان، وتقطيع سلاسل تربطه إليها من يوم هام في الأوهام، وحل عقائد صقلت عقدها، لشد ما تقادمت حتى صارت كالعروة الوثقى، ومنشؤها أضغاث أحلام، وأصل كل ذلك فيه بعيد، وأثره فيه حتى اليوم شديد.
نعم لم أكن أشك في ملاقاة كل هذه الصعوبات، ولم أنخدع بحكم الجمهور الصارم في أمري، ولكن الذي لم أكن أتوقعه صدور مثل هذا الحكم القاسي ممن هم في مقام الخاصة كحضرة الشيخ الفاضل، والخاصة هم قادة العامة، وواسطة مرقاتها من حضيض الجهل إلى ذروة العلم؛ إذ لا فكر للعامة إلا بهم، ولا رأي لهم إلا منهم.
وغاية ما كنت أتوقعه مخالفتي في بعض الأوجه مع الموافقة، ولو على البعض الآخر، وأقل ما كنت أنتظره أن تحدث مقالتي في العقل تأثيرا يحدث فيه تفكيرا يزحزحه عن مألوفه المتقادم عليه، ويطلقه من عقاله المربوط فيه، ويجيز له النظر في كل شيء وانتقاد كل شيء، ويسهل له سبيل الارتقاء والخروج عما ألفه بالعادة وتمكن فيه بالوراثة، وصار في اعتباره من البديهيات التي لا تقبل النقض؛ لأنا إن لم نطلق العقل من عقاله كيف نطمع بأن نزحزحه عن ضلاله؟
إلا أن حضرة الشيخ لم ينظر إلى مقالتي هذا النظر، ولم ير فيها هذا الرأي، ولم يرق له ما فيها من المبادئ، ولا ما يترتب عليها من النتائج، فلم يرق له قولي: «إن العقاب الذي هو أساس القضاء أثر من آثار الهمجية وبقية من بقايا توحش الإنسان الأول، بل هو سبب الشر الكثير في العمران.» وأغفل قولي: «إن لم يكن سببه الحقيقي، فهو السبب المساعد على إنمائه.» فكنت بذلك في نظره «كالذي يثبت أن المقدمة تزول إذا زالت النتيجة، وهو عكس القياس العقلي تماما؛ لأن الشر في الدنيا إنما كان أولا، ثم كان العقاب من بعده؛ فهو كالداء الذي لم نوجد له الدواء إلا بعد وجوده. والفاضل الشميل يقول: «إذا منعنا العقاب منعنا الشر.» أي إذا كسرنا زجاجة الدواء زال الداء.» ا.ه. •••
ولا نصعد إلى أصل الإنسان في الحيوان لنبين كيف تولد الشر؛ لأن حضرة الشيخ ربما كان لا يوافقنا على ذلك، وإن كان من الحقائق المقررة اليوم، بل نكتفي بالقول إن الإنسان وجد في أول الأمر على الأرض وكل شيء مباح له، ويصعب أن يكون كثير الشر في هذه الحالة طالما يجد كوخا يأويه، وأرضا تخرج نباتا يغذيه، وماء يرويه، ثم حظر على الضعيف ما نالته يد القوي، والحاجة تدفع الضعيف إلى السعي وراء رزقه، والأثرة تحمل القوي على الاستبداد بما ملكت يداه، فنشأ عند ذلك الملك بوضع اليد عن قوة. وكيف يستبد المالك بملكه إن لم يحمه بمعاقبة كل من مد إليه يدا؟ ثم كيف يسع الضعيف أن يقصر يده عن أن يمدها إلى ما به قوام حياته؟ فنشأت السرقة، ثم أخذ يتفنن في الشر كلما زاد علما وزاد صاحب الملك استبدادا فيه. ومن هذا نستفيد فائدتين؛ أولا: الاستبداد والعقاب صنوان، وهما قديمان في الإنسان غريزيان فيه يوم كان أقرب إلى الحيوانية. وثانيا: هما سبب أكثر الشرور التي لجأ الإنسان إليها في أول الأمر؛ دفعا للظلم ورضوخا لحاجات ضرورية لا يسعه أن يصم أذنيه عنها.
فالعقاب لم يوضع في أول الأمر ردعا للشر؛ لأن الإنسان الذي يسعى وراء رزقه لا يعتبر سعيه شرا، وسعيه في أول الأمر كان وراء رزق مباح ما لبث أن حظر عليه باستبداد يد أقوى من يده فيه، وهو من آثار التوحش كما رأيت. ثم كثرت المحظورات بتكاثر عدد الناس وانتظامهم في جمعية كبرى، وتسلط القوي على الضعيف، ووضعت الحدود على ما شاء الأقوياء، ونظمت الشرائع على هذا المبدأ، ثم ألفها الإنسان بالعادة، وسوى نفسه عليها؛ لأن الإنسان في استطاعته إن لم يستطع أن يغير الأحوال له أن يغير نفسه لها. وهكذا بعد أن كان العقاب سببا للشر صار بحكم هذه الحدود رادعا له . •••
فبهذا الاعتبار يزول ما نسبه إلي حضرة الشيخ من تقديم النتيجة على المقدمة، ويستوي القياس العقلي. ولا إخال حضرته إلا يعلم حقيقة الأسباب والمسببات؛ فالشيء الواحد يكون سببا أو نتيجة بحسب الوجهة التي تنظر إليه منها. ومهما يكن من ذلك، فإن ضربه مثل كسر زجاجة الدواء لشفاء الداء فيه شرود؛ فإن هذا المثل لا يصح إلا إذا صح قياسه، وصح أن العقاب هو الدواء اللازم الذي لا يقوم مقامه دواء لشفاء أمراض الاجتماع؛ لأن نسبة القضاء إلى أمراض الاجتماع إنما هي كنسبة الطب إلى أمراض الجسم، وما نسبة العقاب إليه إلا كنسبة الدواء إلى الطب. والاختبار يدلنا على أن الدواء متغير، وسير الهيئة الاجتماعية في أمر العقاب دليل على أنه يمكن الاستغناء عنه، واستبداله بطرق تدفع عن الهيئة الاجتماعية شر الجاني، وتوفر لها منفعته بإصلاحه لا بالعقاب، بل بمعاملته معاملة الجاهل والمريض معا، كما أبنا في مقالتنا السابقة.
على أن العقاب لا يسعه أن يصلح الجاني، ولا أن يقوم اعوجاج الهيئة الاجتماعية، لا بصورته القديمة ولا بصورته الحاضرة، وهو في كلا الصورتين وحشي، ونسبته إلى الهيئة الاجتماعية واحدة. فلما كان يتناول العذاب والقتل للتشفي والانتقام، كان الإنسان في حالة من الهمجية تبعده جدا عنه اليوم. فإذا كان العقاب قد تلطف اليوم، فالإنسان قد ترقى كذلك. فإذا كنا اليوم نرمي الأقوام الذين تقدمونا وكانوا يستعملون العقاب على صورته القديمة بالتوحش، فسيقوم أبناؤنا من بعدنا ويرموننا في العقاب الذي نستعمله اليوم بالتوحش كذلك، بل العقاب على صورته الحاضرة ما زال مفسدا للأخلاق مساعدا على إنماء الشر، يدخل به الجاني إلى السجن بشر ويخرج منه بشرور. وخوف العقاب لا يردع جانيا عن جنايته، ولا يرد فاسدا عن فساده، بل يحمله على الكذب خصوصا. وفي الشرائع الاجتماعية ينبغي أن تكون وجهة الشارع إصلاح الفاسد، لا حمله على التفنن في أساليب الفساد خوف العقاب . ولو جاز لي أن أسر إليك ما تخاطب به ربك عند اعترافك له بخطاياك لأبنت لك أن الإنسان يخجل من أن يكون الدافع له نحو ربه خوف العقاب أو الطمع في الثواب (لا خوفا من جهنم ولا طمعا في النعيم، بل حبا بك يا رب)، أو يكون مثل هذا القول كذبا. •••
अज्ञात पृष्ठ