वैज्ञानिक और सामाजिक चर्चाएँ
مباحث علمية واجتماعية
शैलियों
وفريق يبحث فيه بحث العالم الاجتماعي، ولكن قد يخونه النظر، فينظر إلى الدين في مرآة الشعوب التي تدين به، ومن أعراض الكلام، ويحكم على الجوهر من العرض، ويؤيده في حكمه. هذا ما يغلب عليه مما يكون قد رسخ فيه من أثر التربية الأولى؛ فإن البدائه التي تقوم به في الذهن تتجرد عن كل روية (وكلامنا في أصحاب العقول الراقية). ويدلك على ذلك الاندهاش العظيم الذي يرتسم على وجهه عندما تصادره فيها لأول مرة، خصوصا إذا كان يعتقد فيك العلم ويتوسم بك نزاهة الغرض، كأنك ارتكبت جناية عقلية ذبحت بها أمامه كل القوى الراشدة، ثم لا يلبث أن يطرق مفكرا كأنه داخله الريب؛ ولذلك كان الشك أول مراتب الرشد.
وقلما يسلم باحث اجتماعي، مهما كانت مداركه راقية، من مفعول هذه التربية الأولى؛ فإن سلم منها من جهة الدين لم يسلم منها من جهة الوطن والسياسة التي تقتضيها مصلحة هذا الوطن، وفي اعتقاده أن الوطن دين ثان، وقليل ما هم أولئك الذين يتملصون من مفاعيل هذه العوامل الثلاثة، فيجعلون دينهم الإنسانية ووطنهم العالم أجمع.
وما دعاني إلى هذا البسط إلا ما رأيته في هذه الأيام من الحركة الشديدة في الأفكار بسبب ما جاء في كتاب اللورد كرومر من علاقة الأديان بالعمران؛ فقد تعرض اللورد في كلامه على المصريين وعلى الأمم الإسلامية قاطبة لجوهر الدين الإسلامي، وجعل القرآن العقبة الكئود في سبيل ارتقائها والمسئول عن تقهقرها.
وقد تصدت الجرائد الإسلامية للرد عليه. والحق يقال إن كلا الفريقين سلك مسلك الحرية في القول والمحقق في البحث، إلا أنهما لم يسلما مع ذلك من سلطان هذه العوامل. وفي اعتقادي أنهما حاما حول الموضوع، وقليل من تلمس طرقه من بابه. اللورد اندفع كثيرا، فلم ينظر إلى دين القرآن إلا من خلال أولئك الذين وقفوا دونه، ووقفوا به حيث أرادوا. وهم وقفوا محجمين، فلم يروا أن يجسوا بأصابعهم موضع الألم. وهذا الذي حملني على التعرض لهذا البحث مع ما فيه من الوعورة؛ فلعل صوتي الضعيف يكون كالشرارة، وإن أحرقت وآلمت في بعض المواقف فلا تعدم من العقلاء أنصارا، فتكون نارها بهم نار الخليل بردا وسلاما على أمم لا ينقصهم من دينهم شيء لكي يسيروا في العمران مع الأمم المتمدنة جنبا لجنب، ويحفظوا للشارع مجد أثره.
واللورد كرومر من أعاظم رجال العصر وأصحاب العقول الراقية، ولصوته دوي في محافل العالم المتمدن، وهو من نادرة الرجال السياسيين، يقول ما يفتكر ولا يماري، وهو في حكمه لم يوارب، بل قال ما يعتقد أنه الحق الصراح، إلا أن ذلك كله لا يوجب أن يكون قوله حقا؛ فهو إذن أخطأ - والخطأ تسرب إلى حكمه من كل ما تقدم - حيث قال إن شريعة القرآن لا توافق العمران في كل عصر وإن وافقته في بعض العصور، ونفس قوله هذا حجة عليه؛ لأن العمران لا يتسامح في شرائعه. ولو قال إن الأديان لا توافق مصلحة العمران لكان في قوله نظر، لا بالنظر إلى مبادئها، بل لخروج دعاتها بها أحيانا كثيرة عن جادتها، ووقوفهم بها في سبيله. أما وقد قال قوله، فالذي يصح على دين يصح على آخر، والقضايا التي استند إليها واعتبرها من جوهر الدين كان يمكنه أن يعتبرها في الدين الإسلامي كسواها في سائر الأديان مما يمكن تجاوزه، لولا أنه رأى استمساك رجال الدين بها، وقيامهم في وجه المصلحين منهم كأنها من غرض الشارع، ولذكر أن خلافهم فيها وفيما ضاهاها من المسائل الاجتماعية لأشبه شيء بالمناقشات الدينية التي كادت تقضي على أمم النصرانية في عصور الجهل، والتي أحدثت تأثيرها السيئ في الأمم الإسلامية كما هو اليوم.
وما مثل رجال الدين الإسلامي فيها إلا مثل رجال الدين في أوروبا لما قاموا على غليلي يكفرونه لأنه قال إن الأرض تدور، وفي كتبهم أن يشوع أوقف الشمس، ثم ثبتت حركة الأرض ولم يمس جوهر النصرانية بأذى، وهل يعقل أن القرآن الطامح إلى أبعد المرامي الاجتماعية يكون قد أراد بمثل هذه القضايا أن يجعلها غلا في عنق العمران؟ وكيف لا يجوز حملها على محمل المجاز، وكتب الدين مشحونة بأمثال هذا الكلام من المجاز والاستعارة، ولا سيما القرآن ؟
3
وبالحقيقة إن علاقة الدين بالعمران من حيث تأثيره في ارتقائه وتقهقره ليست إلا عارضة، وإلا ما ارتقى العمران وتقهقر وهو تحت سلطان دين واحد، وإذا كان قد وقف ورجع القهقرى مرارا كثيرة بسبب الأديان فما ذلك بسبب تعاليم الدين نفسه، بل من الذين ادعوا الزعامة عليه، فقصروا في إدراكه أو تاجروا به.
وتاريخ الاجتماع شاهد عدل على ما نقول؛ فاليونان بلغوا من التمدن شأوا بعيدا، وكانوا من المشركين بمعنى الكلمة الحقيقي؛ أي كانوا يعبدون آلهة كثيرة، ومثلهم الرومان، وكانوا يعبدون الأصنام. وقد تقهقر الروم على عهد النصرانية حتى انحلت عرى ملكهم، وقام العرب وشادوا على أنقاض دولهم ودول الأكاسرة ملكا باذخا، وهم حديثو العهد بالدين. ولقد كانت أوروبا في العصور الوسطى في حالة سيئة جدا مع انتشار النصرانية فيها، إلى درجة لم يكن الناس يرون السعادة إلا بالاعتزال في الأديرة والصلاة على قارعة الطريق. ولولا الانشقاق العظيم الذي حصل فيها من قيام بعض رجال الشجاعة كلوثر وما جر ذلك بعده من اضطرام نار الثورة الفرنساوية التي حطت من صولة الأكليروس والحكام؛ لما أغنت النصرانية أممها شيئا، ولما ارتقوا إلى ما هم عليه الآن.
والذي أصاب النصرانية أصاب الإسلام نفسه؛ فراح فريسة مطامع الطامعين من الحكام ورجال الدين من ضعاف الأفهام وأصحاب الأغراض، وسقط الشعب في مهواة الجهل، فأخذ يتقهقر وسواه يتقدم، وجنى على الدين حكم الحاكمين عليه.
अज्ञात पृष्ठ