إن الأخلاق تابعة لمزاج البدن في الأصل يقال: إن الخلق من الخلق، والولد شبيه بوالده لكنهم لما رأوا كل ما يمكن أن يقال فيه للإنسان لا تفعل هذا أو قلل منه وكف عنه كما يقال لبصير سدد طرفك، واكحل عينيك وقر ناظرك، وكذا يقال للطويل تكامن في هذا الزقاق حتى دخلن وتقاصر حتى تصل لمرور به، وحرضوه عليه لوجود الأمكان، وعدم العجز عن وطئ الجسر في امتثال الأمر، ولا كان الحال هذه، فرقوا ما تقدم التمثيل به في الاستطاعة وبين تكليف ما لا في الوسع، وهذا إن يقال للأعمى لم لا تكون بصيرا وللطويل لم لا تكون قصيرا، فإن الأول من باب الخلق الذي مكن أن ينتقل، والثاني من باب الخلق الذي لا يمكن أن يتبدل، والإمكان مخلوق في المكلف، ولولا هذا لما قال ﵎:) ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها (ثم قال:) قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها (فلو لم يكن ممكنا لما لاح الفلاح ليحضه بالحرص على تزكية النفس والاجتهاد في إزالة لبس الدين وقد قالوا ونفائس الأخلاق وخسائسها تكون بحسب التمايز والغرائز فإن كرمت أواصره فمحمول إلا أن تغلب النفس هواها فيشوب من أخلاقها بالمذموم، ومن لومت عناصره مطبوع على الشر إلا أن تحدث بقواها فيمتزج المذموم من أخلاقها بالمحمود، لكن لا يدومان، فإن الطبع أملك للنفس التي هي محله وعلة تضاد أخلاق الكريم إن نفسه الإنسانية ربما ضجت أو اهتضمت فتبعثها أنفتها من العار على المكافأة والانتصار، كما قال الجاهلي:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال أعرابي:
أنا الصاب إن " شورست " يوما وإنني ... جني النخل إن سومحت يوما لأكلي
بسيط يد بالعرف والنكران أقل ... بوعد وإيعاد أقل قول فاعلي
صؤول على الضعف المنيخ وممسك ... غرامي عن الواهي المضلل
وكما قال البحتري:
متى أخرجت ذا كرم ... إليك ببعض أخلاق اللئيم
وكما قال أبو تمام:
أخرجتموه بكره عن سجيته ... والنار قد تنقضي من ناصر السلم
ومن كلام الحكماء كن من الكريم حذرا إن أهنته، ومن اللئيم إن أكرمته ومن العاقل إن أحرجته، ومن الأحمق إن مازحته، ومن الفاجر إن عاشرته، وقد تظرف بعض المتأخرين في قوله:
تكرمت لا طبعا وجدت تكلفا ... فقام خطيب في البرية يخطب
فلما أتاك الناس من كل جانب ... منعتهم بالطبع والطبع أغلب
وعلة ذلك في اللئيم أنه ربما كان له صديق يصفي له الود لا يعبأ به جريا على سجيته، فإذا ألم وتكلف من التودد ما لا في وسعه فيعجز، ويقصر ولهذا قال القائل في ذلك:
هيهات لا تتكلفن في الهوى ... فضح التطبع شيمة المطبوع
والسابق إلى هذا القول زهير بن أبي سلمى حيث قال:
ومن يبتدع ما ليس من حتم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس حتمها
وقد أبان بعض المتكلمين في الخلاق السبب في تباينها واختلافها، وتغلب بعضها على بعض فقال المخلوقات على ثلاثة أقسام: إما كامل لا تتطرق إليه النقصانات، وهم أصحاب العالم العلوي) أجسادهم السماوات وأرواحهم الملائكة، ونفوسهم الكواكب. وإما ناقص لا تتطرق إليه الكمالات وهو الحيوان والمعادن والنبات. بقي من التقسيم قسم وهم الذين يكونون كاملين مرة، وناقصين أخرى فإذا صاروا في الكمال كانوا جالسين مع الملائكة في حضرة رب العالمين معتكفين على بابه مواظبين على ذكره متوكلين على رجمته، وأما إذا صاروا في النقصان ومقام الغضب والشهوة، أما في الغضب فتارة يكون كالكلب العقور، والجمل الصؤول، وتارة كالنار المحرقة، والمياه المغرقة وأما في الشهوة فتارة يكون كخنزير أجيع ثم أرسل إلى النجاسات، وتارة كالذباب يدب على القاذورات فهو مع كونه شخصا واحدا، يصدق عليه أنه ملكي نوراني بالفضائل، وشيطاني ظلماني بالرذائل، وقالت الأطباء تباين أخلاق الإنسان عن اختلاف الطبائع فيه فغن الحرارة إذا غلبت على مزاج القلب يكون شجاعا سريع الحركة والغضب قليل الحقد، ذكي الخاطر حسن الأخلاق، وإذا غلبت عليه البرودة يكون بليدا غليظ الطبع ثقيل الروح، وإذا غلبت عليه الرطوبة يكون لين الجانب سمح النفس كثير الإنسان، وإذا غلب عليه اليبس يكون صبورا ثابت الرأي، صعب الانقياد والمراس، يضبط ويحقد، ويمسك، ويبخل، وقد لمح بعض الشعراء فقال:
1 / 16