وبهذه المزية فضل جميع الحيوانات حتى بلغ منها مراده بالتسخير والأعمال واستخراج المنافع منها وإدراك الحاجات بها وهذه المزية استفادها بالعقل لأن العقل ينبوع العلم والطبيعة ينبوع الصناعات، والفكر بينهما مستمد منها فصواب بديهة الفكر من سلامة العقل وصواب روية الفكر من صحة الطباع وصحة الطباع من موافقة المزاج بالبدن الاتفاقي والاتفاق الغيبي. وأصحاب الكلام في تهذيب الأخلاق يرون أن اختلاف الأخلاق في الإنسان كائن عن اختلاف قوى النفس الناطقة فإنهم يسمون القوة التي محلها الدماغ النفس الإنسانية وعنها تصدر الأفعال الملكية والقوة التي محلها القلب، النفس الغضبية وعنها تصدر الأفعال الشيطانية، والقوة التي محلها الكبد النفس الشهوانية وعنها الأفعال البهيمية، ولا يخلو أن تقوى كلها حتى تبدو أفعالها متكافئة من غير مطاوعة منها لغيرها وتكون كعدة أقوام ترافقوا ولهم أغراض بعددهم ليس للواحد منهم على الباقين رئاسة، فهم مترافقون متعاضدون حتى تسلم لهم الحياة في سبيلهم، ويتم لكل واحد منهم إدراك غرضه، وإذا كانت كذلك كانت نفوس الملوك الجبابرة والساسة القاهرة لما فيها من علو الهمة التي في خاصة بالنفس الإنسانية، ولما فيها من التغلب والاعتصام ومنع اجانب، وانتهاك الحرمة، وذلك خاص بالنفس الغضبية، ولما فيها من الحرص والطمع والنشوة والاستئثار بالأموال من غير اعتقاد كغاية أو وقوف عند غاية، وذلك خاص بالنفس الشهوية وأما أن تضعف النفوس الثلاث ضعفا متكافئا حتى لا تصل واحدة إلى حقها إلا أنها في هذا لا يقال لها سقيمة ومن كانت هذه حال أنفسهم كانوا إسقاط الناس ورعاعهم وأهل الضعف والسكينة، ومن لا يوجد لهم تقدم في معاشه ولا تدبير في نفسه ولا يأخذ نفسه بدقيق الصنائع ولا بمعالي الأمور، ولا يلتمس قوته في نفسه إلا عند نوع قليل الفكر كثير النوم لا تسؤوه اللأواء ولا تسره النعماء، وأما أن تقوي النفس الإنسانية، وترأس الغضبية والشهوية مع سلامتها، ولزومهما الحال الأفضل ومن كانت نفوسهم كذلك كانوا حكماء الناس وفلاسفتهم، والمعلمين الحكمة فإن كانتا ضعيفتين مسامتين ليستا على المجرى الطبيعي، ومن كانت هذه الحال أنفسهم كانوا عبادا زهادا، خائفين لله ﷿، هينين لينين أو ظباء الأخلاق قليلي الشهوة للمآكل والمشارب، والمناكح زاهدين في المكاسب والتجارات محبين لله تعالى راغبين فيما عنده منقطعين إليه، وذلك أنهم لما بطل تعلق النفس الغضبية والنفس الشهوانية ظفرت النفس الإنسانية بنفسها فاشتاقت إلى عالمها، وزهدت فيما سواه، وأما سقم الثالثة فتبطل أفعالها ولا يوجد لشيء منها المجرى الطبيعي فيكون من ذلك البله والمعتوهون، ومن لا يحصل من أمر دينه ولا ماكله ولا مشربه شيئا البتة حتى أنه يوجد هؤلاء من لا يلتمس قوته، ومنهم يثب على الناس، ومنهم من يخاف الناس، ومنهم من فيه مداراة للناس وخبث، وأما أن تقوى الغضبية وتملك الاثنتين وتستولي عليهما مع سلامة فيها وهذه نفوس المحاربين وأهل النجدة والإقدام والبطش والمنافسة والتغلب لأن تدبير النفس الإنسانية كله هو فيما كان فيه لذة النفس الغضبية وأما أن تقوي النفس الغضبية مع سقم الاثنين وخروجها عن الحالة الطبيعية فتكون هذه نفوس السراق وقطاع الطريق، وأهل الدعارة وقتلة النفوس، والصابرين على العقوبات فهذه الطبقة تستلذ أن تؤذي من لا يؤذيها، وترى ذلك مغنما، قاسين القلوب على نفوسهم فضلا على من سواهم، وأما أن تقوى الشهوانية وتملك الاثنين مع سلامة منهما، فإن هذه نفوس التجار وكسبة الأموال، وأهل الثراء، وأما أن تقوى وتستقيم الاثنتان، ويبطل فعلهما إلا أنهما ليستا بسقيمتين البتة، فتكون هذه النفوس نفوس الملاحين والنقلة والرعاع وكل من تعبه لشبع بطنه، وقد تقوي نفسان وتستقم واحدة أو تسقم نفسان وتقوى واحدة ولهذا ضرب من التركيب لا يخفى على من له ذهن وفكر
فصل
وها هنا أمثلة ضربت لذي العقل الرزين ليتبوأ منها معقل الرشد الحصين، قربت فيها الحكماء بعد الأرب، وجعلتها فارقة في الاختلاف بين الضارب والضرب.
1 / 14