الفصل العاشر
فصل في تاريخ الفلسفة الإسلامية
يقول معرب هذا الكتاب: لم يذكر المؤلف كلمة واحدة عن الفلسفة الإسلامية، وبعبارة أخرى «الفلسفة عند العرب»، كأنهم لم يشتغلوا بالفلسفة ولم يعنوا بها! ولعل عذره في ذلك أنه إنما ألف كتابا مختصرا لمبتدئين أوروبيين لا يهمهم كثيرا إلا فلسفة بلادهم، وإذ كنا قد نقلنا كتابه إلى العربية رأينا من تمام الفائدة أن نزيد كلمة إجمالية عن الفلسفة العربية وتاريخها؛ حتى نكون قد أتممنا للقارئ العربي الصورة التي ينبغي أن يرسمها فصل «تاريخ الفلسفة» فنقول:
كانت العرب في جاهليتها أمة أمية ندر فيهم القارئ والكاتب، ولم يعرف عنهم أنهم بحثوا في علم ودونوه، وهذا طبيعي في الأمم المتبدية، وإنما كانت لهم معارف أرشدتهم إليها التجارب والنظر ونوع المعيشة؛ فمعيشة كثير منهم مثلا في الصحراء؛ حيث السماء صافية، والجو مفتوح، وحاجتهم إلى الأمطار وهبوب الرياح، لفت نظرهم إلى السماء فعرفوا شيئا عن النجوم، وربطوا بها كثيرا من ظواهر الجو؛ يدل على ذلك ما وضعوا من أسماء النجوم والمنازل والأنواء، ولكنهم لم يبحثوا في ذلك بحثا علميا ولا دونوه كما تدون العلوم، ولم يكن لهم بالضرورة فلاسفة يدعون إلى مذاهب معينة، ولا يضعون مبادئ للسير عليها في الحياة كالذي رأيناه عند اليونان؛ ذلك لأن العلم والفلسفة لا يكونان إلا حيث تعظم المدنية، فيسهل تحصيل المعاش وتتوافر أسباب العلم، إنما كان عند العرب حكماء وشعراء قاموا فيهم مقام الفلاسفة في الأمم المتحضرة؛ يفوهون بالحكم وتعد أقوالهم أمثالا تؤثر في نمط الحياة، كالذي حكي عن لقمان الحكيم وأكثم بن صيفي وزهير بن أبي سلمى، وقد أثر في حياتهم وعقولهم ما وصل إليهم من تعاليم الأديان السابقة ولا سيما دين إبراهيم - عليه السلام - واليهودية والنصرانية. فشت اليهودية في حمير وبني كنانة وكندة، وفشت النصرانية في ربيعة وغسان، وكذلك كان له الأثر فيهم ما نقلوه عن الفرس والروم والهند من القصص المشتملة على المواعظ والحكم، وقد كانت التجارة واسطة النقل، وكان العرب يكثرون التردد إلى بلاد هؤلاء للتجارة.
ثم جاء الإسلام 610م فوحد دينهم ولغتهم وأميالهم وقد كانت متعددة، وملك الدين عليهم نفوسهم، فكانت الحياة حياة دينية، وسياسة الحكومة سياسة دينية، والتشريع تشريعا دينيا؛ لذلك كان البحث في عصر الخلفاء الراشدين والدولة الأموية إلى سنة 132ه إنما كان بحثا في الأمور الدينية أو ما يتعلق بها، والسبب في ذلك: (1)
أن المسلمين رأوا ما صارت إليه دولة الإسلام من العز وكثرة الفتوح، وهم يعلمون أن لا سبب لذلك إلا دينهم الجديد، فزادهم ذلك اتجاها نحوه. (2)
أن كثرة الفتوح واتساع المملكة يستدعي حدوث أمور لم تكن في عهد المشروع، وليس لهم أن يحكموا فيها بمجرد الرأي، بل يعتقدون وجوب الاستعانة بقواعد الدين، ولا يمكنهم ذلك إلا إذا اشتغلوا بالدين. (3)
أن القرآن ملك عليهم نفوسهم من نواحي كثيرة: من ناحية البلاغة، وحسن القصص، ولفت النظر، فدعاهم ذلك إلى الانكباب عليه.
من أجل هذا كله كان مدار البحث في هذا العصر هو الدين، ومن نقل خبرهم من علماء هذا العصر هم علماء دين إلا قوما ترجم لهم صاحب كتاب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء)، والظاهر أن هؤلاء كانوا يمارسون الطب على أنه صناعة لا علم، وإلا ما حكاه ابن خلكان في ترجمة خالد بن يزيد - توفي سنة 85ه - من أن له كلاما في الكيمياء والطب ورسائل دالة على معرفته وبراعته، وفي ترجمة جعفر الصادق 80-148 أن له كلاما في صناعة الكيمياء. والكيمياء التي اشتغل بها جعفر - إن سلم أنها علم كان يشتغل به - لا يطعن فيما نقول من أن العلم الشائع لهذا العصر هو علم الدين.
وفي آخر الدولة الأموية كانت لهم أبحاث دينية مما هو من أبحاث علم الكلام أو ما بعد الطبيعة، فبحثوا في حرية الإرادة وأن الإنسان مجبور أو مختار، وفي مرتكب الكبائر أمؤمن أم كافر، وفي خلق القرآن ونحو ذلك، وانحاز المسلمون إلى فرق وتجادلوا وكل يدلي بالحجة، وبحثوا كذلك بحثا سياسيا مصبوغا بالصبغة الدينية فيمن يكون خليفة المسلمين، وما ينبغي أن يستوفيه من الشروط، وكان للخوارج الفضل في إثارة الأذهان للبحث في هذه المسائل السياسية، ولكن شيئا من ذلك لم يدون كأنه علم.
अज्ञात पृष्ठ