والمنابع التي يستقى منها هذا العلم اثنان كما أسلفنا؛ وهي: ملاحظة أعمال عقله، وما يجرى من التجارب على غيره. وجاء الفيلسوف الإنجليزي جون لوك 1632-1704م فألف رسالة في العقل البشري بحث فيها في الإدراك الغريزي بالحس - باطنا كان أو ظاهرا - وذهب إلى أن العقل البشري صحيفة بيضاء تدخل إليها التجارب من أبواب الحواس فتترك فيها نقوشا وأثرا، فنحن نحصل معارفنا إما بواسطة الحواس وإما بواسطة التأمل.
4
وفي القرن الماضي بدأ الناس - بعدما استكشف من الحقائق اليقينية - يميلون إلى فصل علم النفس عن الفلسفة وجعله علما مستقلا كعلم وظائف الأعضاء - الفسيولوجيا - إذ كان لا علاقة بينه وبين نظريات ما بعد الطبيعة.
ولما كان علم النفس يبحث في أعمال العقل بحثا عاما اجتهد في تعرف القوانين والقواعد التي تهدي الفكر وتعصمه من الخطأ، وأخذ يبحث في النظام الذي يسير عليه الفكر ليصل إلى نتيجة صحيحة؛ فنشأ من ذلك فرع من علم النفس انفصل عنه وسمي بعلم المنطق.
هوامش
الفصل الخامس
علم المنطق
جاء في إحدى روايات «موليير» أن أحد أغنياء التجار رأى أن ينزع عن جهله ويعود إلى التعلم، فما كان أعجبه حين علمه معلم اللغة أن الكلام إما نظم أو نثر، وأن كل ما ليس بشعر نثر، ودعاه العجب أن يسأل: فمن أي نوع أنا أتكلم؟ قال: إنك تتكلم نثرا، قال: فأنا أتكلم نثرا طول حياتي ولا أعرف! ثم ذهب إلى أهله وجمع عشيرته ليخبرهم بالاستكشاف الجديد. كذلك كثير من الناس يرعبون إذا ذكر اسم المنطق أو اقترح عليهم أن يقرءوا كتابا في المنطق، ولو علموا أنهم في محادثتهم اليومية وما يدور بينهم من مناقشة وما يشرحون من معتقدات ومسائل دينية وسياسية يسيرون على مقتضى المنطق لاعتراهم من الدهش ما اعترى ذلك التاجر.
إذا شرحت نظرية أو قيل قول أو ذكر رأي؛ فإنا نصغي إليه ونفهمه، ولكنه لا ينطبع في عقولنا حتى يبرهن عليه؛ فإن نحن حللناه وامتحناه وتبينت لنا صحته انطبعت في عقولنا نتائج لا نشك في صحتها، وإننا إن سرنا على هذه الطريقة قيل: إننا نفكر تفكيرا منطقيا أو تفكيرا صحيحا؛ فالمنطق إذا علم التفكير الصحيح، وهو يبحث في القوانين والشروط الضرورية للوصول إلى حكم صحيح يقبله كل مفكر عادي.
ما الشروط التي تجعل الحكم صحيحا؟ كيف نمتحن الحكم ونتأكد من صحته؟ هذه مسائل يبحث عنها علم المنطق، وهو لا يعلمنا كيف نفكر أو ماذا يعمل عقلنا عند التفكير فحسب، بل يعلمنا أيضا كيف ينبغي أن نفكر، فهو يحلل التفكير الصحيح، وما نعمله لنصل إلى نتيجة صحيحة، ويرينا خطأ الفكر عندما ينحرف عن القواعد. هذا وكثير من الناس يستخفون بالمنطق ويستهزئون به وما دروا أنهم مناطقة إلى درجة ما، تتبع عقولهم ما يرسمه المنطق وإن لم يعلموا، ويلاحظون قوانين التفكير الصحيح على غير علم منهم بها حتى ولا بوجودها.
अज्ञात पृष्ठ