ثم إن صاحب القصر لا يشق على نفسه وعلى أهله وذوي خاصته وحدهم حين يتورط ابنه في خطيئة من الخطايا، وإنما هو معلن لثورته مشيع لسخطه، يريد أن يشرك الناس جميعا والأشياء جميعا فيما يجد. فهو يتجهم للزائرين ويلقاهم بوجه عابس بغيض، ويتحدث إليهم من طرف اللسان، وما يزال يتكلف من ذلك فنونا وفنونا حتى يضطرهم إلى أن يسألوه عن أمره، فإذا فعلوا أنبأهم بهذه الأحداث الجسام التي يحدثها ابنه الطائش المفتون، ومضى في أحاديث لا آخر لها، يجد في ذلك تسرية عن نفسه، ويجدون فيه إملالا لنفوسهم، ولكن لا بد مما ليس منه بد؛ فقد ينبغي أن نقبل الأصدقاء على علاتهم ليقبلونا على علاتنا، وأن نأخذهم كما هم ليأخذونا كما نحن.
والشاعر بالطبع أشد الناس تعرضا لهذا السيل الجارف من الأحاديث عن هفوات الفتى ونزواته وأحداثه التي يحدثها هنا وهناك؛ لمكانه القريب من صاحب القصر. فأي غرابة في أن يفر بنفسه بين حين وحين من هذا الامتحان، ويخلو إلى نهره هذا العزيز فيسمع منه ويقول له: وأي غرابة في أن يعرض عن الخادم حين يريد أن يشق عليه بهذا الحديث، فيقفه ثم يصرفه في غير رقة ولا لين! أليس يكفيه ما يسمع من السيد؟! ألم يبق إلا أن يشقيه الخدم أيضا بهذه الأحاديث؟!
كانت أحاديث هذا الفتى إذن معادة مملولة بالقياس إليه على حين لم تكن أحاديث النهر معادة ولا مملولة، وإن كانت شاقة عسيرة دائما، فقد كان النهر عصيا أبيا، يتحدث بما يريد هو لا بما يريده سائلوه. وكان في تلك الساعة يقرأ على شاعرنا ألوانا من رسائل اختلسها من ريح الشمال، وكانت تحملها إلى ظلال قوم عبروا النهر ولم يعودوا، وكانت هذه الرسائل تصور ما يضطرم في بعض القلوب من لهيب الحزن والأسى، وما يزهر في بعضها الآخر من الذكريات، وما يساور بعض النفوس من يأس يحبب عبور النهر إلى الأحياء الآمنين، ومن حرص على الحياة يجعل عبور النهر مروعا مخيفا.
وكان الشاعر يستمع لهذه الرسائل - ويستمتع بما فيها - استماعا حزينا شاحبا، يلائم آمال الناس التي لا تنقضي وقدرتهم التي لا تمتد إلى أمد بعيد، كما يلائم حبهم للحياة وشوقهم إلى من فارقوا الحياة، وكما يلائم ما يشيع في قلوبهم من هذه القوة الضعيفة التي تعجز عن استبقاء الأشياء فتحتفظ بذكراها، ومن هذا الضعف القوي الذي يأبى أن يسلم الذكرى للنسيان، فيستبقيها وينميها ويتخذ منها وسائل لاستبقاء الحياة وتنمية ما فيها من نعيم قليل واحتمال ما فيها من بؤس كثير.
وقد هم الشاعر غير مرة أن يتقدم إلى النهر في طي هذه الرسائل الإنسانية الممتعة المحزنة، ونشر رسائل أخرى ليس لها حظ من حزن ولها حظ عظيم من المتاع. فما أكثر ما كان النهر يقرأ عليه رسائل يسعى بها النسيم بين أزهار الشمال النضرة وأزهار الجنوب الذاوية الذابلة! وما أكثر ما كان النهر يقرأ عليه أنباء السماء تحملها أشعة النجوم أو ضوء القمر أو نور الشمس! بل ما أكثر ما كان الشاعر يستحب هذه النجوى التي تكون بين أمواج النهر متحدثة بأنباء الشرق ذلك الذي لم يصل إليه أحد، حاملة هذه الأنباء إلى الغرب الذي لا يصل إليه أحد.
ولكن النهر كان يأبى دائما أن يقرأ على الشاعر أو يملي عليه شيئا غير ما يريده هو. وكان الشاعر يجد في هذا الإباء والامتناع ما يشقيه ويرضيه في وقت واحد: يشقيه لأنه يبعده عما يحب، ويرضيه لأنه يأتيه بما يلذه ويمتعه. وهل حياة الشعراء إلا مزاج من الشقاء والرضا؟! ولو خير الشاعر لاختار أن تتصل خلوته إلى النهر أطول وقت ممكن، وأن يحتمل من شذوذه واستبداده ما شاء النهر أن يحتمل. ولكن الشاعر لم يكن مخيرا في شيء. ومتى خير الشعراء وأصحاب الفنون في شيء؟! إنما هم عبيد الطبيعة، تفرض عليهم ما فيها من جمال وقبح ومن نعيم وبؤس، وتخيل إليهم أو يخيلون هم إلى أنفسهم أنهم أحرار يستنبطون من الطبيعة أسرارها ويصوغونها في صيغهم الفنية المألوفة شعرا، أو رسما، أو نحتا، أو تصويرا، أو غناء، أو إيقاعا.
وليس أدل على ذلك من أن شاعرنا قد كان عبدا لهذا النهر، ولم يكن يستطيع حتى أن ينعم بهذا الرق، وإنما كان يصرف عنه من وقت إلى وقت بطارئ يطرأ أو طارق يطرق. وليس كل الطوارئ يمكن أن يدفع في يسر، وليس كل الطارقين يمكن أن يرد في لين أو عنف، وقد استطاع الشاعر أن يرد الخادم حين هم أن يصرفه عن النهر، ولكن من له بأن يرد هذا الطارق الذي وضع يده في رفق على كتفه ونشر في الجو ضحكا عريضا وهو يقول في صوت متقطع: هأنتذا تخلو إلى نهرك لتقول له وتسمع منه، متى تنصرف عن أوهام الشعراء إلى ما يحيط بك من حقائق الحياة؟!
5
ويرفع الشاعر رأسه فيرى ابن صاحب القصر قد قام عن يمينه، جميل المنظر، رائع الطلعة، معتدل القامة، حاد النظرات، قد امتلأ قوة ونشاطا، وظهر على وجهه المشرق شيء من الجد الحزين حاول أن يخفيه بهذا الضحك العريض الذي كان ينشره من حوله في كثير من التكلف.
ولست أخفي على القارئ أني حائر أشد الحيرة في أمر هذا الفتى، كما أني حائر أشد الحيرة في أمر أهل الربوة جميعا؛ فكلهم يلح علي في أن أجد له اسما يتسمى به ويميزه بين غيره من الناس. وكلهم يلح علي في أن الأشخاص لا يستكملون وجودهم إلا إذا عرفت أسماؤهم التي تحقق التمايز فيما بينهم وتخرجهم من هذا الوجود الوهمي الذي يشبه العدم إلى وجود، إلا يكن واقعا كل الوقوع، فهو شيء بين بين، أقرب إلى الواقع منه إلى الوهم، وأدنى إلى الحقيقة منه إلى الخيال. وكلهم يلح علي في أن القدماء الذين عاشوا بين النهرين في بعض عصور التاريخ لم يكونوا مخطئين حين كانوا يرون أن اسم الرجل هو أخطر أجزاء حياته، وحين كان هذا الرأي يذهب بهم إلى شيء من الغلو، فيعتقدون أن لأسمائهم إذا نقشت على الجدران حظها من الحياة وحقها في القربان؛ لأنها تظل حية بعد موت أصحابها، أو لأنها تختصر وتستجمع ما يمكن أن يبقى من حياة أصحابها.
अज्ञात पृष्ठ