ولعلهم لا يذكرونه بالتصريح، وإنما يذكرونه بالإشارة والإيماء، بل نشأ عن هذا أيضا أن الناس كرهوا الدنو الشديد من شاطئه الشمالي المعروف، وآثروا أن يقيموا مدنهم وقراهم على آماد بعيدة منه قد قدرت تقديرا. وما أكثر المدن والقرى التي اتخذت بينها وبين النهر حواجز كثافا من الشجر! كأنما كان الناس يكرهون حتى أن تبلغ أبصارهم شاطئ النهر الذي يليهم، لا نستثني منهم إلا أهل هذه الربوة التي أشرفت على النهر وكادت تسعى إليه سعيا؛ فقد كانوا لا يخافون النهر ولا يرهبونه ولا يكادون يحفلون به، إما لأنهم كانوا من عنصر ممتاز لا يعرف الخوف ولا الرهب ولا يحفل بما يحفل به الناس، وإما لأنهم كانوا مشغولين عنه بحياتهم الناعمة وعيشهم الغض وتهالكهم على ما يتاح لهم من لذات، وإما لأنهم كانوا أذكى قلوبا وأنفذ بصائر من أن يقفوا عند ما يقف عنده العامة، ومن يدري؟! لعل كل هذه الخصال مجتمعة وخصالا أخرى غيرها كانت تشغلهم بأنفسهم وتصدهم عما يقبل الناس عليه من ألوان التفكير.
وكان الشاعر وحده بين أهل القصر وما يتصل به من الأجنحة والدور هو الذي يعنى بهذا النهر ويريد أن يستكشف أسراره ويتعمق دقائق أمره. ولكن للشعراء مذاهب في البحث والاستقصاء لا تشبه مذاهب العلماء والفلاسفة إلا قليلا؛ فلم يكن شاعرنا يتتبع شاطئ النهر ليعرف منبعه أو مصبه، ولم يكن يحاول أن يعبر إلى شاطئه الآخر ليعرف ما وراء النهر، وإنما كان يكتفي حين يتاح له شيء من فراغ بأن يجلس في هذا الجوسق مشرفا على النهر محدقا فيه مطيلا النظر إليه، يسأله ويلح في السؤال، ويستمليه ويسجل ما يملي عليه.
وكان النهر بخيلا بأسراره، ضنينا بدقائقه وحقائقه حتى على هذا الشاعر، مع أن المعروف أن الأنهار تحب التحدث إلى الشعراء؛ فكان الشاعر إذا سأل عن شيء من هذه الألغاز لم يرجع النهر عليه جوابا، وإنما يتحدث إليه عن أسرار أخرى تلك التي كانت الشمس تفضي بها إليه في رسائلها الطوال التي كانت تقرؤها عليه منذ يسفر الصبح إلى أن يظلم الليل، والتي كانت النجوم تفضي بها إليه في رسائل خاطفة متقطعة ترسلها إليه حين يغشى الليل، والتي كان القمر يرسل بها إليه ضوءه الهادئ المستقر بين حين وحين، والتي كان النسيم يهديها إليه في الليل مرة وفي النهار مرة أخرى، والتي كانت تعصف بها الريح أحيانا ويقصف بها الرعد أحيانا، ويخفق بها البرق أحيانا أخرى. وربما أملى عليه بعض ما كانت تتحدث به أمواجه الهادئة المطمئنة من بعض النجوى.
وكان الشاعر يجد في هذه الأحاديث متاعا، ويسجل منها أطرفا يحتفظ بأكثرها لنفسه، وربما عرض أقلها على أهل القصر فرضوا حينا وسخروا أحيانا.
وهو في هذه الساعة مقبل على النهر يسأله ويتلقى أحاديثه، بعينيه حينا، إذ يرقب صفحته المضطربة في هدوء، وبأذنيه حينا آخر إذ يسمع هذا الخرير الهادئ الذي يشبه نجوى المحبين. ولكن إقباله على النهر لا يتصل؛ فهذا الخادم قد أقبل يحمل إليه القهوة التي طلبها إليه، وهو لا يضع القهوة أمامه ثم ينصرف كما تعود أن يفعل في كل يوم، وإنما يقف صامتا أول الأمر، ثم يقول: ما ينبغي أن يطول انتظار مولاي لك يا سيدي، وإنما الخير إذا فرغت من قهوتك أن تستجيب لدعائه؛ فقد أنسيت أن أنبئك بأنه كلفني أن أوجهك إليه متى أقبلت، وما أرى إلا أنه يجهل مقدمك إلى الآن، قال الشاعر: فدعه يجهل مقدمي حتى أسعى إليه بعد قليل.
قال الخادم: لا تبطئ يا سيدي، فما أرى إلا أنه شديد الحاجة إلى لقائك، وأكبر الظن أنه لم ينم من ليلته، وأن أمرا ذا بال ينغص عليه حياته، قال الشاعر: وما ذاك؟
قال الخادم: لا أدري! ولكني أعلم أنه أنفق آخر الليل في مكتبه ذاهبا جائيا، وأنه لم يصب من إفطاره إلا القهوة، وأنه كان مكدودا مجهودا يتكلف القوة والجلد، وأحسب أن ابنه الشاب هو مصدر هذا الهم وأصل هذا العناء، فإن له - كما تعلم - خطوبا لا تنتهي.
قال الشاعر: حسبك فقد فهمت عنك، أنبئ مولاك بأني سأرقى إليه بعد قليل.
ووقف الخادم لحظة لا يقول شيئا، ولكنه يدير في نفسه أن هذا الرجل محمق يؤثر حديث الأنهار على حديث الناس، ثم نظر فإذا الشاعر قد أعرض عنه وأقبل على النهر ينظر إليه والقلم في يده كأنه يستمليه، فلم ير بدا من أن ينصرف متباطئا وفي نفسه كثير من الغيظ.
وليس من شك في أن حديث النهر كان أحسن موقعا في نفس الشاعر من حديث هذا الخادم الذي لم يكن ينبئه بشيء جديد؛ فهو يعلم أن لذلك الفتى المترف خطوبا لا تنقضي، بعضها يحدث في القصر نفسه، وبعضها يحدث فيما يتصل به من الأجنحة والدور، وبعضها يحدث في القرية المقيمة في أسفل الربوة، وبعضها يتجاوز القصر والقرية إلى أماكن قريبة أو بعيدة، وهو يعلم أن هذه الخطوب كثيرا ما تشغل صاحب القصر وتثير في نفسه ألوانا مختلفة من الشعور. فهو مرة راض عنها ومبتسم لها، يرى أن ابنه فتى قد نيف على العشرين ومن حق الشباب أن يلهو ويعبث. وهو مرة ضيق بها منكر لها، يرى أن للهو حدودا لا ينبغي أن يعدوها الفتيان مهما يكن حظهم من نشاط الشباب، وهو مرة ساخط أشد السخط ثائر أعنف الثورة، يرى أن ابنه قد أسرف في تعدي الحدود وتجاوز الممكن من لهو الشباب. وهو إذا بلغ هذا الطور من أطوار الغضب لم يؤثر نفسه بنتائجه وإنما يشيع هذه النتائج من حوله، ويريد أهل القصر جميعا على أن يثوروا كما ثار ويسخطوا كما سخط، ويرهق امرأته من أمرها عسرا، يحملها أوزار هذا الفتى الذي لا يعرف القصد، ولا يستطيع أن يقف نفسه عند ما ينبغي أن تقف عنده من الحدود، يرد ذلك إلى أن أمه لم تحسن تربيته، ولم تعرف كيف تنشئه، ولم تستطع قط أن تمتنع عن تدليله وتيسر كل ما يعرض له من أمر عسير.
अज्ञात पृष्ठ