لقد كنت أغدو من غرفتي تلك الحقيرة حين يرتفع الضحى، مقفر النفس فارغ الجيب صفر اليد، لا أجد من المال أيسر ما يتيح لي أن أصيب ما يقيم الأود، وكان همي حين أغدو على تلك الحال أن أتعرض لمن كنت أعرف من الصديق لعلي أجد عند أحدهم من الرقة لي والرفق بي والعطف علي ما يرد عني ألم الجوع ويتيح لي هذين القدحين من القهوة، اللذين كانا يطلقان لساني من عقاله، ويردانني إلى شيء من رضى النفس وراحة القلب، ويفتحان لي أبوابا من الحديث وفنونا من الشعر أسحر بها ذلك الصديق الذي استنقذني من جوع الجسم، وأستنقذه بها من جوع النفس والعقل والقلب ...
وكذلك كنت عالة على الصديق ألتمس الطعام عند هذا والقهوة عند ذاك والكأس التي تنسيني نفسي عند صديق ثالث، لم أكن أملك من أمر نفسي شيئا، وكان رفاقي يملكون من أمري كل شيء، كان يكفي أن يصرفوا عني وجوههم ويغلقوا من دوني قلوبهم لأتردى في هوة من البؤس لا أعرف لها قرارا، وكنت أبيع أولئك الصديق أدبي على اعتدادي به وإكباري له بما يدفع عني غوائل البؤس وعوادي الزمان.
وقد لقيت ذلك الشيخ الشاب ذات مساء في مجلس من مجالسنا تلك التي كنت أخلب فيها الرفاق بما كنت أسوق إليهم من ألوان الحديث، وما كنت أطرفهم به من فنون الشعر، وكنت في تلك الليلة كأرق ما كنت أكون حسا، وأدق ما كنت أكون شعورا، وأصفى ما كنت أكون ذوقا، قد صرفت عني القهوة كل حزن، وذادت عني كل هم، وكان الرفاق من حولي ينتظرون مقدم صديق لم أكن أعرفه، وقد أبوا أن يسبقوه بما كانوا يشتهون من طعام أو شراب، رأوا ذلك من أيسر حقه عليهم، ورأيت أن ليس له علي حق؛ لأني لم أعرفه ولم أقدم إليه، ولأني قبل كل شيء كنت شديد الظمأ إلى قهوتي تلك التي كنت أداعب ذوقها منذ ساعات، فلم نكد نستقر في مجلسنا حتى تعجلتها، فلما أقبلت تلقيتها حفيا بها، ثم احتسيتها رفيقا بها أيضا، وكانت كل جرعة منها تزيل عن قلبي وعقلي جزءا من هذا الغشاء الصفيق الذي أطبق عليهما من الهم والحزن.
ولم أكد أفرغ من قهوتي حتى انجلى لي كل شيء، وأشرقت نفسي وأشرق وجهي وانطلق لساني، وأقبلت على الرفاق أداعبهم، وأقبلوا علي يثيرون في نفسي هذه الدعابة، وإنا لفي ذلك وإذا سيارة تقف، سيارة فخمة تصور الثراء والترف، سيارة من تلك السيارات التي كنت أكره النظر إليها؛ لأنه كان يمثل لي هذه الهوة من البؤس الذي كنت غارقا فيه، وهذه القمة من النعيم الذي لم أكن أفكر في الطموح إليه، وكان النظر إلى مثل هذه السيارة من مظاهر الترف والنعيم يغريني بأبغض الأشياء إلي وأشدها مقتا في نفسي وهو الحسد. ولم يكن لي بد من أن أنظر إلى هذه السيارة التي وقفت منا غير بعيد وفرضت نفسها على أبصارنا فرضا، ثم فتح بابها ونزل منها في هدوء رجل قد جاوز الشباب ولم يبلغ الشيخوخة، له سماء لا تشق على البصر كما يقول الشاعر القديم، وهو يسعى إلينا مستأنيا، ويحيينا مستعليا، والرفاق ينهضون له ويحتفون به ويستبقون إلى حسن لقائه، أيهم يكون أحسن له لقاء وأعظم به احتفاء، وأنا أنهض معهم، فلم يكن من النهوض بد، ولكني لا أبسم ولا أعبس، ولا أظهر بشاشة ولا انقباضا، بل لا أنظر إلى وجه هذا الطارئ الأنيق، وإنما أنظر من حولي كأني أجتنب أن أراه، وهو يصافح الذين هشوا له واحتفوا به، حتى إذا بلغني ألقى إلي من عل تحية فاترة فرددتها عليه بمثلها، ورأى الرفاق أن يقدموني إليه، فزعموا أني الشاعر المعروف، وقد سمع منهم مبتسما لي غير مكترث بي.
ثم انتظمنا المجلس كما كنا، واستبق الرفاق مرة أخرى إلى سؤاله عما يريد من ألوان الشراب، فلم يزد على أن قال: «الويسكي، فقد تعلمون أني لا أذوق غيره إذا كان المساء.»
ودارت كئوس الويسكي على الندي، وأصابتني منها كأس، فلم أكد أحسو منها حسوة أو حسوتين حتى رأيت هذا الطارئ الأنيق قد أفرغ كأسه في جوفه إفراغا ونظر إلى الرفاق وهو يقول في سخرية: ما رأيت كالليلة فتورا عن الشراب.
واستبق الرفاق مرة ثالثة إلى التهام ما في أقداحهم ليبلغوا من صديقهم موقع الرضى، وما هي إلا لحظة حتى صفرت الأقداح إلا قدحا واحدا هو الذي كان أمامي، فنظر إلي هذا الطارئ وسألني بطرف لسانه: ما لك لا تنشط للشراب؟! أمريض أنت؟! فأجبته بلهجته تلك الساخرة: فإني أشرب لنفسي لا لك، فهم أن يغضب ولكنه ملك نفسه وضرب إحدى يديه بالأخرى، فأقبل الخادم، فأشار إليه وإلى الأقداح ولم يقل شيئا، وفهم عنه الخادم ما أراد، فرفعت أقداح وجاءت أقداح أخرى، ولبثت أنا جامدا أنظر إليهم وأنظر إلى قدحي الذي أبيت على الخادم أن يرفعه، وكأني شغلت عما في قدحي بالنظر إلى هؤلاء الذين أقبلوا على ما أمامهم من الطعام يلتهمونه التهاما، وما أمامهم من الشراب يعبونه عبا، وأنا لا أمس من الطعام أمامي شيئا، ولا أمس قدحي إلا رشفا يسيرا، ولكني أرى هذا الطارئ يرمقني بطرف فيه كثير من غضب وكثير من سخرية، ثم يقول لي في ابتسامة غامضة وصوت مصمم: «لتفرغن قدحك أو لأسقينه الأرض.» والرفاق يتضاحكون ولكني أرد عليه بهذه الجملة: «ما أنت وذاك؟!» ثم أرميه بهذين السهمين:
يا رءوفا بنفسه
وعنيفا بغيره
وجوادا بشره
अज्ञात पृष्ठ